لن يلفت نظرك كثيرًا بملامحه العادية وعينيه الواسعتين، ستلاحظ أنه شخص مهندم يتكلم عادةً بنبرة هادئة، لكنه سيسحرك بتقمصه الشديد للشخصية التي يقدمها، ولن يهدأ حتى تتورط مع شخصيته بالشكل الذي يجعلك تتحد معه تمامًا، بخيره وشره. ستعيش تلك الحالة النفسية التي ينخرط فيها ويورطك فيها بمنتهى السلاسة دون أن تشعر، تلك هي الحالة معظم الوقت مع الأدوار التي يتقن «جيك جيلنهال» انتقاءها بعناية، ذلك الممثل المخلص دومًا لشخصياته.
في كل عام يبرع جيلنهال في اختيار أدواره ويقدمها بمنتهى الإخلاص، ويتوقع النقاد اسمه كمرشح قوي في قائمة أوسكار أفضل ممثل، ثم تُعلَن الترشيحات ولا نجده فيها، اللهم إلا مرة واحدة ترشح عن فيلم «Brokeback Mountain»، وربما كان السبب في ذلك قضية المثلية الجنسية التي تناولها الفيلم أكثر من الدور الذي قدمه بالمشاركة مع الممثل الراحل «هيث ليدجر».
يبقى جيك جيلنهال واحدًا من أكثر ممثلي هوليوود الذين لا ينالون حقهم من لجنة الأوسكار حتى الآن، ربما مثل ما حدث مع ليوناردو ديكابريو، لكن الفارق في جماهيرية ديكابريو الواسعة وجيلنهال المحدودة، فهل يُنصف القدر جيك؟ هل ينال جزاءً مُرضيًا عن إخلاصه لشخصياته التي يقدمها؟
جيك جيلنهال: البداية
«النجومية لا تستمر، ليس هذا الهدف من الحياة، النجومية والشهرة وهم ليس له علاقة بك. بالنسبة إليّ، اكتشاف الحياة في حد ذاتها هو الأهم». جيك جيلنهال.
ينحدر «جاكوب بينجامين جيلنهال»، أو جيك جيلنهال، من عائلة فنية كبيرة، فوالده المخرج «ستيفن جيلينهال» ووالدته المنتجة والسيناريست «ناومي فونر» وشقيقته الكبرى الممثلة «ماغي جيلنهال»، ومثلت مع أخيها في عديد من الأفلام، وأبوه الروحي المصور السينمائي «روبرت إلسويت»، وأمه الروحية الممثلة والكاتبة «جيمي لي كورتيس».
في 1991، حين كان عمر جيك 11 عامًا فقط، نال فرصته الأولى للتمثيل في «City Slickers».
تخرج جيلينهال في مدرسة هارفارد في لوس أنجلوس، ودرس لمدة عام في جامعة كولومبيا في نيويورك، قبل أن يخرج منها ليعمل في التمثيل.
فكر جيلنهال أن يصبح ممثلًا بعد مشاهدة فيلم «Ed Wood»، الذي يتناول السيرة الذاتية للمخرج «إدوارد دي وود جونيور»، فانبهر بأداء «جوني ديب» للدور وافتتن بهذا العالم الساحر.
في عام 1991، حين كان عمر جيك 11 عامًا فقط، نال فرصته الأولى للتمثيل في فيلم «City Slickers»، وأدى شخصية «داني روبنز» ابن البطل «بيلي كريستال»، وتلى ذلك عدة أدوار بسيطة في أفلام أخرى، أشهرها فيلم «A Dangerous Woman» الذي أخرجه والده.
البطولة الأولى له كانت عام 1999 في فيلم «October Sky»، فقدم شخصية «هومر هيكام»، الذي يقرر بناء صاروخ بعد إطلاق الاتحاد السوفييتي أول قمر صناعي إلى الفضاء، وتمرده على والده الذي طالما أراد أن يكبر ابنه ليعمل في منجم فحم.
ترشح الفيلم لعدة جوائز وفاز ببعضها، لكن ربما كان الأهم هو ترشح جيك جيلنهال لأفضل أداء ضمن «جوائز اختيار المراهقين» (Teen Choice Awards)، مما يثبت أن أداءه كان لافتًا للنظر بالشكل الكافي.
في العام نفسه، ورغم أن جيك وقتها لم يكن مشهورًا بالمعنى المعروف، فإنه أعلن أن «النجومية لا تستمر، ليس هذا الهدف من الحياة، النجومية والشهرة وهم ليس له علاقة بك. بالنسبة إليّ، اكتشاف الحياة في حد ذاتها هو الأهم»، وهي جملة قد لا تصدر أبدًا من ممثل مبتدئ يسعى إلى شق طريقه، وهو المنحدر من عائلة فنية بالأساس، وتلعب الشهرة والنجومية دورًا أساسيًّا في حياة أفرادها.
جيك جيلنهال: الشهرة
«معظم الأفلام التي تُدِرُّ أرباحًا ضخمة لا يتذكرها أحد، وأنا لست مهتمًّا بعمل أفلام لا يتذكرها أحد». جيك جيلنهال.
في 2004، أظهر جيك نضجًا في فيلم «The Day After Tomorrow»، بشخصية الطالب الخجول الذي يحاول البقاء حيًّا خلال عاصفة ثلجية تطيح بأمريكا.
عام 2001 كان نقطة فاصلة في حياة جيك جيلنهال، إذ بدأ تصوير فيلم «Donnie Darko» بالمشاركة مع أخته ماغي، التي كانت تقوده إلى الجنون وتضغط عليه طوال الوقت، حتى أنهما كانا يتعاركان معظم الوقت في الكواليس.
انتهى تصوير الفيلم وعُرض في السينمات ونجح بصورة كبيرة على المستوى الفني ومتوسطة جماهيريًّا، لكن بدأ اسم جيك جيلنهال يتردد على ألسنة النقاد وبعض الجماهير، خصوصًا أن «Donnie Darko» خضع لكثير من التحليل، كونه يدور في إطار نفسي حول فتى مراهق مضطرب نفسيًّا يبتكر صديقًا وهميًّا ويبدأ في اتباعه بشكل يؤثر في حياته وحياة من حوله.
هذا واحد من الأفلام التي يتعين عليك مشاهدتها أكثر من مرة لتحليل وفهم أحداثه وشخصياته المعقدة، لكن بنهاية الأمر كان الفيلم سببًا في بداية شهرة جيك، إذ قدم شخصية المراهق المضطرب إلى حد النفور منه.
أعقب ذلك عدة أدوار متنوعة، واستطاع جيلنهال أن يخرج من محاولات قولبته في إطار الدراما أو الشخصية المضطربة، وقدم في 2002 شخصية جادة ورزينة مع «جينيفر أنيستون» في فيلم «The Good Girl»، وترشح عنه لعدة جوائز ربما أهمها «جائزة اختيار المراهقين»، التي تشير عادةً إلى نجوم الفترة القادمة، فالمراهقون هم من سيصبحون لاحقًا جمهور السينما الرئيسي.
وفي 2004 أجاد جيك اختيار فيلم وقصة تدور حول الاحتباس الحراري في العالم، وأظهر كثيرًا من النضج والتطور في شخصيته في «The Day After Tomorrow»، إذ ظهر كطالب خجول يحاول البقاء حيًّا خلال عاصفة ثلجية تطيح بقارة أمريكا.
إخفاقات ما قبل النجاح
«في مهنتي، لا يهم مقدار الوقت والتحضير الذي أستغرقه، فأنا دومًا خائف، لكني أدرك جيدًا كم أنا محظوظ بعملي هذا، وكم أنا محظوظ بقدرتي على اختيار عملي هذا». جيك جيلنهال.
في «Proof»، قدم جيلنهال شخصية باحث يكتشف مذكرة سرية من شأنها إحداث طفرة في علم الرياضيات.
بدأ نجم جيك في الارتفاع، وبعد إصابة «توبي ماغواير» بطل سلسلة «Spider Man»، قرر صناع الفيلم ترشيح جيلنهال بديلًا عنه. استعد جيك للدور جيدًا، لكن القدر كان له رأي آخر، إذ تعافى ماغواير واستكمل الدور واستُبعد جيك.
لم يذكر جيلنهال في أي حوار ما إذا كان قد أصيب بإحباط جراء ما حدث، لكن في عام 2005 رشحه المخرج «كريستوفر نولان» لشخصية «بات مان/بروس واين» في سلسلته الجديدة. أجرى جيك اختبارات الأداء للدور، لكنه استُبعد كذلك وذهب الدور إلى «كريستيان بيل». ربما زاد هذا من إحباط جيك، لكن حظه سرعان ما بدأ يتغير عبر ثلاثة أفلام قدمها في 2005، وجعلت اسمه لا يُنسى.
في بداية العام، أدى جيك جيلنهال بطولة فيلم «Jarhead»، المبني على قصة واقعية، إذ ينضم إلى الجيش في أواخر الثمانينيات ويصبح قناصًا، ثم تندلع حرب الخليج الأولى، وتذهب وحدته إلى المملكة العربية السعودية، يقضي الفتى 175 يومًا يعاني من الملل والقلق والإثارة والجنون، ونشاهد عبره أهوال الحرب.
أداء جيك كان ما يميز الفيلم حقًّا، وهو أحد أفضل الشخصيات التي جسدها في وقت مبكر من حياته الفنية، تلى ذلك فيلم يجمع بين الدراما والتشويق مع «غوينيث بالترو» و«آنتوني هوبكنز» بعنوان «Proof»، قدم فيه شخصية مختلفة تمامًا عن «Jarhead»: باحث رياضيات يساعد بالترو على استكشاف أعمال والدها عبقري الرياضيات، ويكتشفا مذكرة سرية من شأنها إحداث طفرة في ذلك العلم. كانت شخصية رزينة وهادئة، وحرص جيك على إبراز الجانب الرومانسي فيها بشكل سلس وغير مبالَغ فيه.
تلى «Proof» فيلم ترشح عنه جيلنهال لجائزة الأوسكار، هو «Brokeback Mountain»، الذي تعرف خلال تصويره إلى صديقه المقرب لاحقًا «هيث ليدجر». من كان يتصور أن عام 2005 الذي بدأ برفض المخرجين لجيك سينتهي بفيلم اجتماعي يترشح عنه للأوسكار.
Brokeback Mountain: جيلنهال وهيث ليدجر
قدم جيلنهال شخصية رومانسية درامية جدًّا في فيلم «Love and Other Drugs»، لكن هذا لم يمنعه من تسليط الضوء بشكل واضح على مرض باركنسون.
لعب جيلنهال في فيلم «Brockback Mountain»، المقتبس عن قصة قصيرة بنفس الاسم، شخصية رجل في الغرب الأمريكي يقع في غرام رجل آخر، يجسد شخصيته هيث ليدجر.
رُشِّح الفيلم لثمانية جوائز أوسكار في الدورة الثامنة والسبعين، فاز بثلاث منها: أفضل موسيقى تصويرية، وأفضل مخرج، وأفضل نص سينمائي مقتبس. وحاز الفيلم جائزة «الأسد الذهبي» في مهرجان البندقية السينمائي، وجائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج من الأكاديمية البريطانية لفنون الفيلم والتلفزيون، وعدة جوائز «غولدن غلوب»، وصُنِّف الفيلم كأحد أكثر 20 فيلمًا رومانسيًّا تحقيقًا للإيرادات على الإطلاق.
لو لم تكن تعرف الفارق بين الأوسكار وبقية المهرجانات السينمائية الدولية، تعالَ نفهم معًا |
الأمر لا يبدو محض صدفة، فمثل هذا الفيلم وغيره من الأفلام التي يختارها جيلنهال لا تبدو كأفلام يختارها أحدهم لمجرد أنها تُعرض عليه، بل يختار بتأنٍّ واضح خطوته التالية وشخصياته، وهو الأمر الذي تطور بعد ترشحه لجائزة الأوسكار، رغم أنه لم يفز بها إطلاقًا.
برع جيك في الأدوار التي قدمها في 2007، بدأها بشخصية رسام يعاون الشرطة في القبض على القاتل المتسلسل في فيلم «Zodiac»، ثم شخصية عميل المخابرات الأمريكية الذي يتقصّى حادث تفجير إرهابي يتورط فيه مهندس كيميائي مصري-أمريكي في فيلم «Rendition».
وفي 2010، قدم جيلنهال شخصية مختلفة تمامًا عن الواقع، مقتبسة من لعبة الفيديو الشهيرة ««Prince of Persia»، ونجح الفيلم تجاريًّا بصورة كبيرة، وفنيًّا كذلك.
بعده قدم شخصية رومانسية درامية للغاية في فيلم «Love and Other Drugs» مع «آن هاثاواي»، لكن هذا لم يمنعه من أن يسلط الضوء بشكل واضح على مرض باركنسون.
أدوارًا أخرى مميزة قدمها جيك بعد ذلك، مثل أفلام «Source Code» و«End of Watch» و«Prisoners»، وغيرها من الأدوار التي تجمع بين التميز في طريقة الأداء والتنوع، وفوق كل هذا فن «انتقاء الورق»، وربما اكتسب تلك الصفة بالوراثة عن والدته كاتبة السيناريو، فهو يعرف جيدًا كيف يختار فيلمًا ناجحًا من مجرد قراءة الورق.
جيك جيلنهال: شخصيات لا تُنسى
تحول جيلنهال إلى ملاكم حقيقي في فيلم «Southpaw»، ولربما دفعتك صورته على البوستر بعضلات بارزة إلى التساؤل: من يكون هذا الممثل؟
«الطريقة التي تتعامل بها مع كل الناس أهم من العمل الذي تؤديه، فالكرم والطيبة والصبر ستجعلك تصل إلى أبعد مما تتخيل، وهذا أكبر درس تعلمته في حياتي». جيك جيلنهال.
في عام 2014، ظهر جيك بشخصية تستحق في رأيي الفوز بالأوسكار بجدارة في فيلم «Nightcrawler»، وهي شخصية لشاب طموح يحاول شق طريقه كصحفي جرائم حُر في أمريكا، وتبدأ طبقات شخصيته في الظهور، من جشع وحب للظهور والسيطرة في عالم الإعلام والأخبار، ومع توغله أكثر فأكثر في هذا العالم، تتداخل الحدود بين عمله كمراسل ومشارك في ما يحدث.
أنقص جيلنهال 14 كيلوجرامًا من وزنه عن طريق الجري يوميًّا لأكثر من 20 كيلومترًا وتناول السلطات فقط، من أجل تقديم تلك الشخصية الهزيلة المضطربة. ويُعَد الفيلم واحدًا من أفضل أفلام 2014، فضلًا عن أن جيك أجاد تمثيل الشخصية بشكل مقنع إلى حد دفعك إلى التقزز منه.
شخصية أخرى أجاد جيك تقديمها لدرجة تحويل جسده إلى ملاكم حقيقي في فيلم «Southpaw»، ولعلك تساءلت حين رأيته على بوستر الفيلم بعضلاته وإصاباته المتفرقة في أنحاء جسده: من يكون هذا الممثل؟
شخصية أخرى مختلفة تمامًا في فيلم «Everest»، المقتبس عن حادثة حقيقية وقعت لمجموعة من متسلقي جبل إيفرست.
ورغم أن مساحة شخصيته لم تكن كبيرة بما يمكِّنه من استعراض إمكانياته التمثيلية، كانت الشخصية مميزة بالشكل الذي يمنعك حقًّا من نسيانها. ستخرج من السينما وتمر السنوات، وستظل تتذكر الشخصية بكل تلك الشقاوة والحيوية التي أظهرها في الدقائق البسيطة التي ظهر فيها.
مرة ثانية وثالثة ورابعة نلاحظ اختيار جيلنهال لموضوع الفيلم، الشيء الذي يحرص عليه بشكل ملحوظ.
قائمة أفلام جيك جيلنهال طويلة ومميزة حقًّا، ويتوقع النقاد أن يُرشّح فيلمه الأخير «Stronger» لجائزة الأوسكار، لكنهم فعلوا في «Southpaw» و«Nightcrawler»، ولا أحد يعرف لماذا لم يترشح عن كلا الفيلمين، فهل يجد فرصته وعزاءه في أوسكار 2018؟
«Stronger» يحكي عن شخص حقيقي هو «جيف باومان»، أحد الناجين من حادث تفجير ماراثون «بوسطن» عام 2013، يعاون الشرطة في تعقُّب الإرهابيين بينما يُجاهد للتعافي من صدمته المُدمرة جراء الانفجار، إذ فقد ساقيه وبات يستخدم ساقين صناعيتين.
مرة أخرى، يدور الفيلم بأكمله حول شخصية مميزة يبرع جيلنهال في تقديمها، فقد لازم باومان لمدة عام كامل ليعرف تفاصيل حياته وكيف يعيش ويتحرك، ليتقن تمامًا حركته بالطرف الصناعي ودونه.
في كل مرة أشاهد فيها جيك جيلنهال في شخصية مميزة أسأل نفسي: متى تُنصفه لجنة الأوسكار؟ وإلى أي مدى عليه أن يذهب كي يفوز بالجائزة؟ هذا الذي تحول إلى شاب مفتول العضلات، وإلى شخص ذي جسد هزيل، وإلى رومانسي وسيم، وإلى شاب مشلول، ماذا تنتظر لجنة الأوسكار كي تلتفت إليه؟ والأهم: هل يهتم جيك أصلًا برأي الأوسكار فيه، أم يعمل من أجل تقديم أفلام لا تُنسى؟