يتناول كافيه عباسيان، الباحث في صناعة الأفلام الوثائقية والمحاضر بجامعة كينت البريطانية، في مقالة نشرتها مجلة «نيو لاينز» الأمريكية، الأسلوب الذي يتبعه الحرس الثوري الإيراني لتغيير مشهد السينما في البلاد.
يكتب عباسيان أنه في فبراير الماضي، وأثناء مقابلتين تليفزيونتين مختلفتين، صرح وزير الاستخبارات والأمن القومي الإيراني محمود علوي، ورئيس منظمة أوج للفنون والإعلام التابعة للحرس الثوري الإيراني محمد حساني، أن عددًا كبيرًا من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية التي أنتجت في إيران كانت بأمر وتمويل قوات الأمن، متفاخرين بأن شخصيات مرموقة قادت عملية الإنتاج مثل اللواء قاسم سليماني، ومعددين أسماء الأفلام والمسلسلات التليفزيونية، وأكثرها أثر في المجتمع الإيراني.
المفاجأة هنا أن تلك المعلومات التي أذيعت على الهواء بكل أريحية لطالما كان ينكرها المسؤولون وصناع السينما منذ سنوات، وأضحت حقيقة دامغة. ولكن ما مصلحة الحرس الثوري الإيراني في إنتاج الأفلام والمسلسلات التليفزيونية؟
المشهد الثقافي وفقًا لضوابط الحرس الثوري الإيراني
قبل الإجابة على السؤال، يجب الإشارة إلى أن الحرس الثوري الإيراني يحتل مركزًا فريدًا يتطور باستمرار مقارنة بمراكز القوى الأخرى في إيران، فقد تأسست تلك القوات عام 1979 وبعد الثورة الإسلامية مباشرة على يد علي خامنئي أول مرشد أعلى في إيران، بأمر من مؤسس الجمهورية الإسلامية وقائد الثورة الإسلامية روح الله الخميني، وسرعان ما وطدت مكانتها بالتوازي مع الجيش الإيراني، علاوة على الفروع التي تعمل في جميع أنحاء المنطقة، والمهام الأخرى السياسية والثقافية والاقتصادية والاستخباراتية والنووية التي توسعت فيها تدريجيًا داخل البلاد بعد الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988).
في 2011، كان الحرس الثوري حاسمًا في قراره بإنشاء منظمة أوج للفنون والإعلام بهدف الدفاع عن الثورة الإسلامية ضد هجمات الثقافة الأجنبية.
ويستطرد الباحث أنه كان من الطبيعي سيطرة الحرس الثوري على المشهد الثقافي في البلاد من خلال التخطيط الدقيق، ليتمكن في نهاية الأمر من خلق جبهة تنتج الأعمال الثقافية وتنشر المعلومات للتأثير على المتلقين، بل واعتقال ونفي وإعدام المعارضين من صناع الأفلام، ودعم آخرين أثبتوا ولاء أيديولوجيًا.
بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية عام 2009، انطلقت الحركة الخضراء لرفض فوز المرشح محمود أحمدي نجاد بولاية ثانية والاحتجاج على تزييف الانتخابات، متخذين اللون الأخضر شعارًا لهم.
بعدها، وتحديدًا في عام 2011، كان الحرس الثوري حاسمًا في قراره بإنشاء منظمة أوج للفنون والإعلام بهدف الدفاع عن الثورة الإسلامية ضد هجمات الثقافة الأجنبية. تدفقت أموال الحرس الثوري على المنظمة، التي أثبتت جدارتها كواجهة ثقافية صلدة في خدمة طموحاته المحلية والإقليمية والدولية في تشكيل مشهد صناعة السينما الإيرانية، بواسطة جيل من صناع السينما بدأوا مسيرتهم المهنية بعد قيام الثورة الإسلامية.
«في بلد إسلامي، كل شيء لا بد أن يكون إسلاميًا»
حكمت الثورة الإسلامية إيران، وبدأت في حملة هدفها «أسلمة» كل مظاهر الحياة في البلاد. إلى جانب القوانين والسياسة الخارجية ونظام التعليم، كان على المخيلة الثقافية والفنية للشعب الإيراني أن تتبدل وتتحول بطبيعة الحال. حينها، اعتُبرت السينما رمزًا لانحلال الغرب، وعبّر أتباع الثورة عن غضبهم بحرق دور السينما.
بعض تلك الأعمال العدائية تمت تحت رعاية مسؤولين في الثورة الإسلامية، مشحونين بمقولة الخميني أن «السينما الإيرانية أس الرذيلة»، فكانت النتيجة حرق أو هدم أو غلق 180 من إجمالي 451 دار سينما داخل البلاد. لكن قائد الثورة الإسلامية سرعان ما أضاف أن صناعة السينما من رموز الحداثة، التي يجب أن أن تكون في خدمة الناس وتعليمهم.
تُرجمت تلك الكلمات عمليًا إلى ما عُرف بتطهير السينما مما هو غير إسلامي، وبدأت فكرة «السينما الإسلامية»، والتي من خلالها ظهر جيل جديد من صناع السينما ليس لديهم خبرة عملية، لكن عندهم ولاء للثورة الإسلامية.
بدت خطوات «السينما الإسلامية» مرتبكة نظريًا وبدائية فنيًا، حتى تشكلّت خلال الحرب العراقية-الإيرانية لتُنتِج نوعًا جديدًا من الأفلام السياسية الأيديولوجية سُمي سينما الدفاع المقدس، متخذًا من المصطلح الرسمي الإيراني للحرب اسمًا له. وهكذا صار جنود الحرس الثوري يظهرون على شاشات السينما وهم يجاهدون على الجبهات، ويحملون مهمة بناء عالم جديد فيه تعاليم الإسلام أساس حياة كل البشر.
السينما الإيرانية في طريقها إلى العالمية
يذكر الباحث أنه مع انتهاء الحرب عام 1989، أخذت حكومة الرئيس الإيراني علي أكبر هاشمي رفسنجاني على عاتقها مهمة إعادة بناء الدولة وتقديم النظام الإيراني نفسه بصورة سلمية للمجتمع الدولي. وجاء من بعده الرئيس الإيراني محمد خاتمي عام 1997، ليوطد فكرة «الحوار بين الحضارات». الصورة الجديدة للنظام الإيراني لم تعد تتلاءم مع فكرة استدعاء المشاعر المرتبطة بالدفاع المقدس على شاشات السينما، بالإضافة إلى أن الحرب أصبحت ذكرى بعيدة، وفقد الناس اهتمامهم بالأفلام المتحمسة للجهاد.
وانسجامًا مع تلك الصورة، كانت إذاعة جمهورية إيران الإسلامية ترفض أحيانًا بث بعض الأفلام الوثائقية للحرب أو تفرض رقابة عليها، لأنها لا تتماشى مع الجهود المبذولة في تجاوز ذكريات التجربة، ولا تعبر عن طموحات الشعب الإيراني. وبدأت السينما الإيرانية في إنتاج أفلام تخاطب المجتمع الدولي، والتي لاقت اهتمامًا كبيرًا.
تبدلت الصورة التي يرغب النظام الإيراني بتقديم نفسه فيها مرة أخرى عندما قرر خوض حروب إقليمية في العراق وسوريا، لأنه كان في حاجة إلى مخاطبة شعبه للتأثير على موقفه تجاه تلك الصراعات. المسؤول عن العمليات العسكرية في تلك الحروب هو الحرس الثوري، وتحديدًا أحد أفرعه التي تعمل خارج الحدود، وهو فيلق القدس، الذي كان يقوده اللواء قاسم سليماني قبل اغتياله عام 2020 في غارة جوية أمريكية بطائرة دون طيار بالقرب من مطار بغداد.
تدفقت ميزانية الدولة على الحرس الثوري، الذي قرر تمويل منظمة أوج للفنون والإعلام لتمرير رسالة واضحة من خلال الأفلام التي تنتجها، وهي أن بعض السياسيين قد نسوا وخانوا الروح الحقيقية للثورة الإسلامية، والطريقة الوحيدة للخلاص هي اتباع المسار الذي رسمه أمثال قاسم سليماني وعلي خامنئي، والعودة إلى مبادئ «الدفاع المقدس». ولم يقتصر دور قاسم سليماني على أنه مصدر إلهام لمبادئ الدفاع المقدس، بل كان يلعب دورًا مهمًا في الإنتاج والإشراف على كواليس بعض الأفلام.
جنود على الجبهة الثقافية للثورة الإسلامية
أنتجت منظمة أوج مئات الأفلام الوثائقية والبرامج التليفزيونية، وأكثر من 17 فيلمًا طويلًا حازت على 16 جائزة كريستال سيمرغ في مهرجان الفجر السينمائي الدولي، وهو مهرجان سنوي تنظمه إيران.
تبدو تلك الأفلام وكأنها عملية إحياء لسينما «الدفاع المقدس»، لكنها في الحقيقة تختلف عنها في نقطتين. النقطة الأولى هي مظهرها، ففي الثمانينيات كانت السينما الإسلامية تبتعد عن كل التقنيات المستوحاة من الغرب، أما الأفلام التي تنتجها منظمة أوج فتبنت الجماليات الفنية المتبعة في هوليوود، اقتناعًا منها بأنها الوسيلة الأكثر فعالية لجذب الجمهور وتوصيل الرسالة.
النقطة الثانية هي نهجها، فقد كانت أفلام الدفاع المقدس تستدعي المشاعر الوطنية للمشاهدين، أما الأفلام التي تُنتَج حديثًا فلا تصور المقاتلين الإيرانيين خارج البلاد كحماة ضد تدنيس الأضرحة الشيعية في العراق وسوريا فحسب، بل كمدافعين عن استقرار إيران وسط المنطقة المضطربة أيضًا. من هذا المنطلق، لا يخاطب النظام الإيراني المواطنين المتدينين فقط، بل يداعب المشاعر القومية للمواطنين العلمانيين أيضًا.
يؤكد الباحث أنه على مدار عشر سنوات، أنتجت منظمة أوج مئات الأفلام الوثائقية والبرامج التليفزيونية، وأكثر من 17 فيلمًا طويلًا حازت على 16 جائزة كريستال سيمرغ في مهرجان الفجر السينمائي الدولي، وهو مهرجان سنوي تنظمه إيران. وعُرض بعض تلك الأفلام في دول عديدة مثل لبنان وسوريا والعراق واليابان والهند، وحصدت جوائز خلال عرضها في مهرجانات عالمية، مثل مهرجان فيينا للسينما المستقلة. هكذا وصل الحرس الثوري إلى هدفه، ليس فقط بنشر قواته العسكرية وأيديولوجيته، بل نجح أيضًا في عرض أفلامه عالميًا.
الحرس الثوري يحكم بعدسات الكاميرات
على أيدي هذا الجيل الجديد من صناع السينما، كان الحرس الثوري يئد من يعتبرهم أعداء، وهم الذين كان لديهم ولاء لسينما الدفاع المقدس، ثم انشقوا. فقد كان أفراد من منظمة أوج يشاركون الحرس الثوري جلسات التحقيق مع هؤلاء المنشقين، كي يهدوهم إلى الطريق القويم.
وفي خضم تلك المعركة الثقافية، كان الحرس الثوري يواجه أي توجه سياسي داخل النظام الإيراني يراه بعيدًا عن خط المرشد الأعلى على خامنئي، ويحسم التنافس بين مختلف معسكرات النظام بدعم منه. وقد عبر المرشد الأعلى عن رضاه بالأفلام التي تنتجها منظمة أوج مرارًا وتكرارًا.
من خلال عدسات كاميرات منظمة أوج، وبفضل استمرار حملاته الدعائية، سيطر الحرس الثوري على عقول الإيرانيين، ليتحول إلى اللاعب الأهم في حكم البلاد خلال السنوات الأخيرة. وكان واضحًا أن تلميع شخصية قاسم سليماني باعتباره الابن الوفي الذي يضحي بنفسه من أجل النظام الإيراني، ما هو إلا محاولة لجس النبض تجاه تمهيد الطريق له كأحد قيادات الحرس الثوري، ليصبح سياسيًا في المستقبل أو حتى رئيسًا للبلاد. لكن اغتياله المفاجئ أوقف - مؤقتًا - هذا الطموح.
يختتم كافيه عباسيان مقالته بأنه كان جليًا سيطرة الحرس الثوري على جوانب الحياة في إيران خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة الأقل شعبية في تاريخ إيران، لتأتي بإبراهيم رئيسي أكثر المرشحين تشددًا. الاستيلاء على المقعد الرئاسي والسيطرة على مجلس الشورى الإسلامي والنظام القضائي ومجلس صيانة الدستور ومجلس خبراء القيادة والقوات المسلحة، كل ذلك كان بفضل تحالف المرشد الأعلى والحرس الثوري. لكن تحقيق كل تلك الأهداف الطموحة يتطلب سيطرته على كل أذرع السلطة في الجيش والاقتصاد، وبكل تأكيد على إنتاج الأفلام.