يشيع استخدام مصطلح «التفاهة»، منذ سنوات مضت، وربما عقود، في غير سياقه المعتاد. وهذا الشيوع مردُّه تجاوز التفاهة ذاتها للحيز اليومي المعاش والمحدود في اتجاه أماكن أخرى تجسد، غالبًا، وبدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، أحد مظاهر السلطة، خصوصًا من حيث قدرتها على الهيمنة على تفكير الفرد بما يكفي لشغله بتوافه الأمور وأقلها أهمية، مثل البرامج التلفزيونية، والمسلسلات، والأفلام، والمنتجات الإلكترونية والترفيهية، بل وحتى المشاريع الإنشائية الضخمة والمبهرجة، وغيرها من الأمور التي لا قيمة لها غير تلك التي تسبَغ عليها لأهداف عديدة، لعل أهمها صرف الانتباه عن الشأن العام. وهنا، تحديدًا، يتضح دور السلطة وغايتها من إشاعة التفاهة.
الملفت في تداول التفاهة ليس الإشارة إلى المساحة التي تهيمن عليها فقط، وإنما النبرة التهكمية التي يجري تداولها من خلالها، ذلك أنها تشير إلى تناقض فج يمكن اختزاله بطرح سؤال مثل: إذا كانت التفاهة منبوذة ومكروهة ومدانة إلى هذا الحد الذي نسارع عنده إلى التبرؤ منها، فمن في حفلتها إذًا؟
الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة. بل أكثر من ذلك، تبدو ممارسة عبثية ما دام الحيز الذي تشغله التفاهة من التداول، في مختلف المجالات، يؤكد تمددها بشكل مطرد، يجعل من تحديد هوية من في حفلتها أقرب إلى إطلاق أحكام عامة تنطوي على مفارقات هائلة بالضرورة.
مع ذلك، قد يكون بوسعنا على الأقل، استنادًا إلى مؤلفات أدبية وبحثية/فكرية مختلفة، وضع إجابة مبدئية على سؤال ما إذا كان جميع من في الحفلة تافهًا. فما تفترضه هذه المقالة أن دخول «حفلة التفاهة»، في استعارة لعنوان آخر روايات ميلان كونديرا، ليس بالضرورة أن يكون، في كثير من الحالات، أمرًا طوعيًا. وهذا بالضبط ما بينته الرواية المذكورة أعلاه.
التفاهة القائمة على ثنائية سلطة – ضغط
تتجلى هذه التفاهة داخل الرواية في حادثتين. الأولى: انشغال شخصية آلان بالتفكير في «السُّرة» وموقعها في عملية الإغراء الأنثوي، وهي دون شك مسألة تافهة من حيث أنها لا تستحق أن يصرف المرء جل وقته للتفكير فيها. ولكنها، مع ذلك، نجحت في الاستحواذ على تفكير آلان بسبب ظهورها أمامه بشكل جماعي مكنها من ممارسة ضغط يشبه، إلى حد بعيد، الضغط الذي تمارسه «اللوبيات» في العادة.
بغض النظر عما إذا كان آلان تافهًا أم لا، فقد جرى إدخاله إلى «حفلة التفاهة» بمجرد انشغاله بتلك المسألة. أو، بجملة أخرى، جُر إليها، بغير إرادته، تحت تأثير الضغط الذي تستطيع الأمور التافهة ممارسته حين تكون في موقع غلبة. فـ«السرة» ليست ما لفت انتباه آلان، وإنما رؤيته الكثير منها في وقت واحد.
في الحادثة الثانية، يقص جوزف ستالين على رفاقه حكاية مفادها أنه اجتاز 13 كيلومترًا في رحلة صيد، صادف خلالها 24 طيرًا فوق شجرة. ولأنه لم يكن يحمل سوى 12 طلقة، فقد قتل نصف العدد وقفل عائدًا إلى منزله، على بعد 13 كيلومترًا، لجلب 12 طلقة أخرى وقتل ما تبقى من تلك الطيور التي كانت لا تزال في انتظاره.
الملفت في حكاية ستالين ليس المبالغة، وإنما الغضب الذي أثارته عند رفاقه بسبب فهمهم لها على أنها كذبة كبيرة، بينما هي في الأصل مجرد مزحة تافهة لا يجب أن تُأخذ على محمل الجد. ولكن ما حدث هو العكس تمامًا، فقد أُخذت تلك الحكاية على محمل الجد بشكل لا بد أن يستدعي سؤالًا مثل: لِم لَم يخطر في بالهم أنها مجرد مزحة؟
السبب، ببساطة، هو سلطة ستالين التي حجبت عنهم هوية حكايته. بل، وفي مفارقة عجيبة، جعلتهم تافهين إن لم نقل أغبياء في نظره ونظر بعض قراء الرواية، ذلك أنها برهنت لا على اعتمادهم المطلق على ستالين في فهم الأمور وتفسيرها وتأويلها فحسب، وإنما على انصرافهم عن التفكير وعجزهم عن ممارسته في حضور الأخير وغيابه أيضًا. بمعنى أنهم لن يستطيعوا معرفة ما إذا كان يمزح أم لا، إن لم يقل لهم ذلك بنفسه.
وليس أبلغ مما سبق ذكره دليلًا على التفاهة التي يمارسها الفرد، أو يظهر بمظهرها، تحت تأثير السلطة. فما يتضح من تفاهة رفاق ستالين، ومن قبلهم آلان، أنها تفاهة فرضت عليهم من أعلى، إما بالقوة غير المباشرة، أو عبر الضغط. هذا بالضبط ما بينته رواية كونديرا، دون أن يكون القصد تبرير التفاهة.
التفاهة حين تكون نظامًا قائمًا بذاته
التدقيق في عجز رفاق ستالين عن فهم ما أراد قوله في حكايته، مع أخذ وظائفهم في الدولة بعين الاعتبار، أمر يستوجب التساؤل حول طبيعة هذا النظام الذي يديره مسؤولون تافهون من جهة، وموقع التفاهة في مؤسساته، على اختلاف وظائفها، من جهة أخرى.
في كتابه «نظام التفاهة»، يسعى الباحث والأكاديمي الكندي آلان دونو إلى وضع إجابات لهذا النوع من الأسئلة، من خلال تحليل بنية هذا النظام والوقوف على أبرز ملامحه وسماته، ومن ثم الإضاءة على أحوال مؤسسات الدولة في ظله، دون أن يغفل في هذا السياق المؤسسات البحثية والأكاديمية المستقلة عن الدولة.
ولأن الكتاب نال من الشهرة حدًا جعل من مضمونه معروفًا على نحو واسع، ولأن غاية هذه المقالة أساسًا ليس تقديم مراجعة عنه، سنكتفي بالاتكاء عليه في محاولة وضع إجابة تقريبية لتساؤلاتنا حول ما إذا كان جميع من «حفلة التفاهة» تافهًا. وسنحاول اختصار الأمر، قدر الإمكان، في بضع ملاحظات.
تتعلق الملاحظة الأولى بالمساحة التي تهيمن عليها التفاهة، والتي لا بد من الانطلاق منها في إجابة السؤال أعلاه. فالمساحة التي تهيمن عليها التفاهة اليوم، كما يبين لنا آلان دونو في كتابه، تشمل أولًا جميع مؤسسات الدولة الحديثة، وثانيًا المؤسسات البحثية والدوائر الأكاديمية وحتى الجامعات والمدارس وكل مفاصل القطاع التعليمي والمعرفي، وأخيرًا جميع ما يرتبط بالاقتصاد والتجارة والسياسة والثقافة وحتى نقابات العمال.
هذا الاتساع حدث قسرًا، وليس من خلال تخييرنا بين العيش في نظام التفاهة أو نقيضه غير الموجود أساسًا. بمعنى أننا نعيش في ظله تحت تأثير عوامل عديدة تتوسل جميعها الضغط والقوة.
السوق يحدد متطلبات العمل
الملاحظة الثانية تتعلق، أولًا، بطبيعة أساسات نظام التفاهة ومرتكزاته التي ترتبط جوهريًا بالنظام الرأسمالي، الذي يتوسل التفاهة أداةً في لعبة يديرها لأغراض تتعلق جميعها بزيادة رأس المال. وثانيًا، بوظيفة التفاهة ذاتها في هذه اللعبة، والتي يمكن تحديدها في نزع الحيوية عن العمل وتحويل العمال إلى أدوات من جهة، واختزال العمل في مجرد آلية لا تتيح للعامل غير ضمان وجوده من جهة أخرى، وهذا يعني في أفضل الأحوال إخضاعه لهذا النظام وتفاهته.
ثالثًا، إن نزع الحيوية عن العمل لا يتعلق فقط بالأعمال الحرفية والعمال، بل يشمل أيضًا المدارس والجامعات والمؤسسات البحثية والدوائر الأكاديمية وغيرها، مع فارق وحيد يكمن في طبيعة عملية نزع هذه الحيوية، إذ أنها تتعلق هنا باستبدال الكفاءة بالرداءة، على اعتبار أن الأخيرة تخدم أغراض السوق وتسهم في إنتاج الثروة ومراكمتها. كما تتعلق أيضًا بمصادرة استقلالية الباحث، وتوجيهه وفق قواعد وشروط تضعها الجهات الممولة، بحيث لا يتعدى بحثه إعادة صياغة لأبحاث مشابهة كُتبت بالطريقة ذاتها، وبالتمويل عينه، ولأجل غايات محددة مسبقًا: الترقية والراتب بالنسبة للباحث، والربح بالنسبة للجهات الممولة.
لا بد من الإشارة، قبل الانتقال إلى الملاحظة الثالثة، إلى الطريقة التي تدار بها هذه المؤسسات في ظل هيمنة الشركات الممولة عليها، فيشير دونو إلى تحول الجامعات إلى «مزود» يمد الشركات بما تحتاجه من عاملين وخدمات معرفية، بفعل صفقة خفية تلزم الشركات بالتمويل، والجامعات ببيع عقولها المنتجة من جهة، وتحويل طلابها إلى زبائن للشركات ذاتها من جهة أخرى. دون أن نغفل أحوال الباحثين الذين ما عاد بمقدورهم التحرك خارج الأطر أو القواعد التي يرسمها الممولون. وهكذا، يتحول الباحث إلى خبير يضفي الشرعية على ملاك رأس المال بطريقة غير شرعية. والخبير، كما يتضح، هو عكس المثقف تمامًا.
تتعلق الملاحظة الثالثة بالاهتمام السابق بالمؤسسات التعليمية/العلمية والبحثية/الفكرية دون غيرها من بقية المجالات الخاضعة لهيمنة التفاهة. والسبب أن هذه المؤسسات، بحسب آلان دونو، مسؤولة عن توفير ما تحتاجه بقية القطاعات من موظفين وخبراء سياسيين واقتصاديين وإداريين ومعلمين إلخ... من جهة، ومدها بما تحتاج إليه من منتجات معرفية من جهة أخرى. وطالما أن هذه المؤسسات خاضعة لهيمنة نظام التفاهة، وطالما أن باحثيها بدورهم خاضعون لها، فإنها تبيع منتجات تافهة تنقل تفاهتها إلى مؤسسات وقطاعات أخرى. والنتيجة ليست زيادة رأس المال فقط، باعتباره أساس نظام التافهة، بل التفاهة ذاتها التي تشجع على الإغفاء بدل التفكير. أو على الغباء بالأحرى.
أما الملاحظة الأخيرة فتتعلق، أولًا، بأن ما سبق ينطبق على السياسة والثقافة والاقتصاد والتجارة. وثانيًا، بحقيقة أن هذه الهيمنة ليست قائمة فقط على ثنائية السلطة والضغط، كما هو الحال في رواية «حفلة التفاهة»، وإنما على ثلاثية تضمهما إلى جانب الاضطرار إلى الخضوع. فالفرد يَعرف، غالبًا، أنه يؤدي عملًا تافهًا، أو يعمل على بحث تافه، أو يعمل في مؤسسة تافهة، أو يتعامل مع ممولين تافهين، ولكنه مضطر للخضوع لهم طالما أن الأمر مرتبط في النهاية بوجوده. فالمؤسسات مستعدة دائمًا لإقصاء من يتمرد على قواعد التفاهة، بل وعلى الحرص على عدم توظيفه في أي مؤسسة أخرى. أما العامل، فهناك بديل له.
أمام ما سبق، لم يعد الأمر يتعلق إذًا بتحديد هوية من في حفلة التفاهة، أو الإجابة على سؤال ما إذا كان جميع من الحفلة تافهين. فما يتضح دون عناء، أن مساحة الحفلة تضاعفت بما يكفي لنكون داخلها جميعًا، وبطريقة أفقدت الأسئلة السابقة معناها، لصالح أسئلة جديدة تتعلق بكيفية الخروج من الحفلة.