في بداية عام 2017، قابلت الكاتبة «لورين أويلر»، امرأة كانت تعرفها من خلال الإنترنت للمرة الأولى. ومن اللحظة الأولى، كان واضحًا أن هذه المرأة متكلمة جيدة، وتملك خفة ظل واضحة، وكاتبة ماهرة درست الأدب بعد تخرجها.
لكن «لورين» فوجئت عندما تحدثت مع هذه السيدة عن رواية قرأتها، فوجدتها تهز رأسها في خيبة أمل، قائلة: «لا أفهم كيف يمكن لأي شخص تبرير الحديث عن الكتب بعد الآن»، وأكملت شارحة رأيها أن البشر غارقون تمامًا في مشكلات كثيرة تتطلب كل اهتمامنا وحركتنا، وبالتأكيد ليس الأدب والرواية من بينها. العالم في أزمة، ولن ينقذه الأدب. في مقالها الأخير على «نيويورك تايمز»، تشرح الكاتبة لماذا ترى العكس تمامًا.
هل هناك نجاح ضروري؟
ترى لورين أن الثقافة يجري تقييمها الآن بنسبة كبيرة بناءً على نجاحاتها الجمالية (وإخفاقاتها بطبيعة الحال). أصبح لأعمال بعينها قيمة أكثر أهمية في الوقت الحالي، وهي تلك التي تسلط الضوء على تجارب مجموعات مهمشة أو تبعث رسالةً أخلاقية حول خطورة الأحكام المسبقة والتحامل. تصحيح أتى متأخرًا وصحب معه ضريبة تأخره: لم تعد هذه الأعمال مجرد وسيلة إلقاء ضوء أو تثقيف أو تحريض أو طريقة لقضاء بعض ساعات يوم الأجازة، لقد أصبحت هذه الأعمال «ضرورية».
هذه الكلمة، أي الضرورة، أصبحت تمثل عكازًا استطراديًّا لوصف وجهات النظر الإيجابية حول عمل ما، أو لوصف ثناء لا يمدح الجمال فقط، وإنما يمكن إلصاقه بأي شيء، بدءًا من الكوميديا الرومانسية ثنائية الأبعاد، مرورًا بجزء كبير من الكتب المرصوصة بجانب مكاتبنا. هذا العمل ليس فقط جميلًا، إنه «أخلاقي»، أو «له ضرورة ما».
تظهر هشاشة الوصف السابق بوضوحٍ عندما يُعتمَد عليه لتحويل الانتباه إلى عامل واحد فقط من العمل الفني. فيتدخل الناقد، مجبِرًا القارئ على النظر إلى جانب واحد فقط من العمل. مثلاً، وصف «هيلتون ألس»، الكاتب في صحيفة «ذا نيويوركر»، مسرحية «توني كوشنر» «الملائكة في أمريكا»، والتي تستمر لثماني ساعات، بأنها «عبقرية، وضرورية، ومن المهم مشاهدتها».
إذا اكتشفنا مرةً أنه لا جدوى من العمل الفني، فإن محاولات إيجادها تضر بالعمل أكثر مما تفيده.
لكن ما أصبح ضروريًّا هو أن نوضح ما هو واضح أصلًا: مهما يكن العمل الفني حاسمًا وبديعًا ومعبرًا، فإنه لا حاجة «ضرورية» لوجوده.
ومع ذلك، فإن الإنترنت، وهو نفس القوة التي أسهمت في زيادة الوعي بحركات العدالة الاجتماعية، قد أدى إلى وضع حمل كبير على فترات انتباهنا الممزقة. من السهل الآن رؤية كل الطرق المخيفة التي يسبب بها العالم كل المعاناة الموجودة، فقط بتصفح موقع تويتر لبضع ساعاتٍ.
إن احتمالية ضرورة الفن تسمح لأفراد من الجمهور بتحرير أنفسهم من اضطرارهم لتكوين اختيارات، هذا العمل «ضروري»، عليك أن تقرأه، أو تراه، أو تسمعه، وذلك لتقديم آراء قصيرة منمقة. هذا التأثير يبدو كأنه منهج دراسي سخيف لا نهاية له. إنها نسخة أبرع قليلًا من الشعار التسويقي لأول عرض إخباري ساخر تقدمه امرأة، «فول فرونتال مع سامنثا بي»، والذي يقول: «إما أن تشاهد برنامجنا، وإما أنك شخص متحيز ضد النساء».
يبدو أن هذا التلميح يُستخدَم في كل مكانٍ إلا في العمل الفني نفسه، وهو بمثابة تنبيه للجمهور، واتهام للعالم الذي خلق المشكلات التي يناقشها العمل. إذا اكتشفنا مرةً أنه لا جدوى من العمل الفني، فإن محاولات إيجادها ، عن طريق المحاججة بضرورته، تضر بالعمل أكثر مما تفيده.
اقرأ أيضًا: لأسباب عقائدية وللصدفة: هشاشة الفن أمام الحياة
علاقة متوترة
كانت العلاقة، وما تزال، بين الفن والسياسة، مشحونة دائمًا. خلال الثورة الفرنسية، كتب الشاعر والفيلسوف الألماني «فريدريك شيلر» أن «المنفعة يجب أن تكون هدف الفن»، واقترح أن الفن، مع قدرته على إمتاع العقل، فإنه لا بد من أن يكون طريقًا للوصول إلى حرية ذات معنى. ثم رفعت الحركة البوهيمية شعار «الفن من أجل الفن» ضد طلب وجود معنى أو أخلاقيات في الفن أصلًا.
ربما سيظل النقاش حول غاية الفن مستمرًّا حتى تأتي لحظة التحرر الحقيقي، لذا تظل تلك العملية متكررة عبر التاريخ، يُدعى الفن كثيرًا لخدمة فكرة ما، في معركة أيديولوجية.
ترى الكاتبة، من ناحية أخرى، أن الفنَ يقبل التكيف دون حدود، ويستوعب الفعاليات السياسية بشكل طبيعي. لكننا عندما نستخدم كلمة «ضروري» أو «مهم» لوصف أعمال فنية، فإننا نقيدها. ليس هذا مدحًا على الإطلاق، ولا يجب أن يكون.
اقتراح أن وقت الفراغ دعوة بالغة الأهمية لـ«رعاية الذات»، وهو المفهوم الذي حقق شعبية كبيرة بين مستخدمي «تمبلر» في السنوات الأخيرة، والذين يقدسون اقتباسًا من عام 1988 لـ«أودري لورد»: «رعاية الذات ليست تدليلًا لها، وإنما حفاظًا عليها، وهو بمثابة نضال سياسي».
أصبح بوسعك الآن إعادة تصنيف أي نشاط لطيف كمُكِّون أساسي لممارساتك السياسية. وسرعان ما استغلت الشركات والأشخاص ذوو التأثير، على إنستغرام، هذا الاعتقاد لبيع منتجات أكثر، ووجد الأفراد تفسيرًا عميقًا لموعد تجميل أظافرهم الأسبوعي، أو الوقت الذي يقضونه في قراءة الروايات، أصبحنا بحاجة إلى وضع علامة «سياسية» على كل شيء نفعله. لا بد من أن يكتسب كل شيء ما شعارًا سياسيًّا ما، وأن يكون كل شيء معبرًا عن طريقة ما في العيش. بل وفلسفة ما.
اعتبار معرض فني أو رواية أو حتى فيلم أمورًا «ضرورية»، هو مناورة تمويه مشابهة تضيف ثقلًا أخلاقيًّا إلى مسعى جمالي. غالبًا ما يكون الأمر مُرهِقًا للجمهور والعمل الفني والفنان أيضًا، عندما نصف عملًا بأنه «ضروري»، فإننا نفصل دوره عن قدرته على إثارة المشاعر، وبالتالي يمنعنا من أي تقييم نوعي. من سيرغب في الظهور بمظهر الشرير وهو ينتقد عملًا ذا رسالة أخلاقية؟
قد يهمك أيضًا: 3 أعمال فنية تخلِّد الوجود الإنساني
ليست الضرورة كل شيء
في نقد قصير لرواية «الخروج غربًا»، للكاتب الباكستاني الأصل محسن حامد الذي يحكي قصة لاجئين يفرَّان خلال حرب أهلية، من أجل حضور «مسابقة الكتب» السنوية، يصف الكاتب «باتريك هوفمان» الرواية بأنها «تحفة فنية مكتملة. فهي (كالعادة) ضرورية وملائمة وحكيمة وجميلة». لكنه بذلك يجعل الأمر يبدو كما لو كانت «الضرورة» شرطًا مسبقًا لأن يكون العمل «تحفة فنية»، والذي بدوره، بسبب الطلب الملح لـ«الضرورة»، قلل من قيمة ثنائه السابق.
بجانب الالتزام والتطلب، يمكن أن يُقترَح وصف «الضرورة» أيضًا بالحتمية، أو الشعور بأن هذا العمل إجباري لتثقيف الجمهور سياسيًّا. هناك صفات عدة يمكن تطبيقها على الفن الجيد: متحرك، ذكي، مبهج، حزين، مبتكَر، ممل، سياسي. لكن الفن الجيد ليس عليه أن يكون أيًّا من هذه الصفات بالضرورة، ما نريده هو أن تكون هناك احتمالات.
عندما نصف عملًا فنيًّا بأنه «ضروري»، فإننا نحجب الجمهور عن تلك الاحتمالات، ونسرق حكم الفنان الذاتي واستقلاله. يضع هذا الأمر الفنانين الذين أتوا من خلفيات مهمشة، تحت ضغط متكرر لخلق أعمال فنية تعكس خلفياتهم التي أتوا منها وتمثلها، وإلا، فلن يقرأهم أحد. على الكاتب الذي جاء من نظام استبدادي أن يكتب عن الحياة تحت ظل هذا النظام، على الكاتب الذي عانى من حرب أهلية في بلاده أن يكتب عنها، وإلا لن يهتم أحد بأن ينشر له.
الأسوأ من ذلك، أن هذه الطريقة تضع الإنتاج الفني في إطار من الحتمية، أي أنه كان سيحدث في كل الأحوال، وأن دور الفنان ينحصر في النقل الأمين. بهذا يتلاشى العنصر الجمالي بالكامل، ويأتي في المرتبة التالية، كأننا نقول أن هؤلاء الفنانين لا يملكون سيطرة على قراراتهم ومهاراتهم. فالسؤال الذي ينشأ لو حصرنا الفن في عنصر الفائدة والقيمة والضرورة، هو لماذا نكتب رواية إن كان مانيفستو سيؤثر بشكل أفضل؟