يعتقد كثير من الكتاب والقراء، على حد سواء، أن الكتابة الشذرية حديثة النشأة نسبيًّا على التعبير الكتابي: الفلسفي والأدبي منه على وجه الخصوص. موضحين أن التقدم الفكري وتعدد وسائل التعبير وتنوعها، وبخاصة ظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي تشترط على مرتاديها أن ينشروا عددًا معينًا من الحروف والكلمات، أسهم في تبلور هذا الشكل التعبيري، وكثرة استخدامه بين الفلاسفة والأدباء وغيرهم من محبي الكتابة.
وإذا كانت الشذرة، في غالبية الأحيان، نصًّا تعبيريًّا يحتوي على أكبر عدد ممكن من الأفكار في أقل عدد ممكن من الألفاظ، فإن ذلك جعل القراء يعتقدون بأنها الأكثر مواكبة لعصرنا، معللين ذلك بأن الكتابة الحديثة ينبغي أن تكون تليغرافية، تواكب سرعة المعرفة وسهولة تداولها، ويجب أن تشبه في الوقت نفسه الرسائل النصية التي نرسلها على هواتفنا النقالة، إلى أصدقائنا المقربين، بهدف الاستفسار عن شيء أو الرغبة في معرفة معلومة معينة على وجه السرعة.
إضافةً إلى الطابع الإلكتروني لهذا العصر، هناك آخرون يرون أن اللغة المعاصرة بطبعها عاجزة عن التوضيح، وأن تعبيراتها ناقصة على الدوام ما لم يستطع المتلقي أن يستقبل هذه اللغة بشيء من التنوع الدلالي.
يتساءل أنسى الحاج في تقديم شذراته/خواتمه: هل أفلتت الظواهر والحقائق من محيط الكلمة، وبات الواقع يُلمَس خارج لغاتها؟ ألم تعد الكلمات تبلور الحقائق وتبدعها؟ هل حلت الرياضيات محلها، والإحصاء والتوثيق والحفظ الإلكتروني؟
غير أن حقيقة الأمور ليست هكذا. فالشذرة ليست حديثة النشأة كما يتردد، إذ ظهرت في كتابات عدد من الفلاسفة الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، منهم على سبيل المثال لا الحصر: هيراقليطس وبارمنيدس وديمقريطوس، ثم غابت عن التداول حتى ظهرت في صورة أولية بعد عصر النهضة، وذلك في كتابات كثيرين أمثال «القديس أغسطونيوس» و«جان جاك روسو» و«بليز باسكال»، إلى أن طورها نيتشه وآثرها على كثير من الأشكال الكتابية، ما دعا عددًا من الكتَّاب إلى أن يفضلوا الشذرة في غالبية كتاباتهم الأدبية والفلسفية، ومنهم «فرناندو بيسوا» و«موريس بلانشو» و«إميل سيوران» على سبيل المثال لا الحصر.
سبب ظهور الشذرة وانتشارها: قديمًا وحديثًا
إذا كانت الشذرة عرفت طريقها إلى الظهور بين كتابات الفلاسفة الإغريق، لأسباب مختلفة، منها: ندرة الكتابة كحرفة مكتملة، وعدم رواج النصوص المكتوبة مقارنة مع النصوص الشفاهية، إضافةً إلى فقدان النصوص الطويلة بفعل الزمن وبقاء بعضٍ منها على هيئة شذرات، فإن هناك أسبابًا أخرى حديثة يمكن أن نذكرها، وهي الأهم من وجهة نظري.
إذ أرى أن الرغبة في كتابة الشذرة تطمح نحو كسر النسق التقليدي الصارم لإبداع الفكر، وتقديم الفكرة في شكل برقي مضيء، يثير ويوحي أكثر مما يشرح ويفسر، يفكك ويؤول أكثر مما يؤسس ويدلل. الشذرة غالبًا تطمح إلى أن تختلف لا أن تأتلف، تطمح إلى ما كان يردده نيتشه عن أنه «يرجو أن يقول في عشر جمل ما يقوله غيره في كتاب كامل».
هذه الكتابة تعرض نفسها وهي تكتشف. إنها توحد بين التحرير والتسويد.
إن التمرد على الروح الكلاسيكية في التفكير، والشك في «العقلانية» كمفهومٍ أو كرؤية للعالم والإنسان تهمل ما هو حدسي وإشراقي، أسهما في انحياز المختلفين مع هذه القناعات إلى أن يسجلوا أفكارهم بطريقة شذرية متقطعة، إيمانًا منهم بأن هذا النوع من الكتابة صورة صادقة للفكر الذي هو في الأصل شذري ومتقطع وغير مكتمل، ما يُذكِّرنا بالشعراء الذين دفعوا عن أنفسهم تهمة الغموض بأنهم يكتبون عن عالم غامض بطبيعته، ومن الطبيعي أن تخرج قصائدهم صورةً للعالم الذين يكتبون عنه في أثناء تشكله، وليس بعد اكتماله.
هذا يشبه ما يقوله عبد السلام بنعبد العالي عن الشذرة: «كأن هذه الكتابة تضبط الفكر وهو يعمل، إنها تعرضه في أثناء مخاضه. فلا معنى هنا للتمييز المعهود بين منطق العرض ومنطق الاكتشاف. هذه الكتابة تعرض نفسها وهي تكتشف. إنها توحد بين التحرير والتسويد».
من خلال قراءة شذرات عدد من الكتاب يتبين لنا أن الشذرة لا تشرح ولا تفسر ولا توضح. إنها تعقد مناقشةً مع قارئها، وإذا امتلك هذا القارئ ما يؤهله إلى استمرار المناقشة، فإنه قد يصل إلى دلالات لا معاني، وإيحاءات لا براهين، لتستمر المناقشة في وعيه الذي سيعتد بنفسه أكثر ليناقش العالم كله في صوره المتناقضة.
الشذرة ليست خاطرة
اعتماد الشذرة على ما هو شعري أكثر مما هو منطقي وفكري، وعلى ما هو إيحائي وإشاري أكثر مما هو تفسيري شارح، يجعل كثيرًا من القراء والكُتَّاب يخلطون بينها وبين الخاطرة، وكأنها تسجيل لكل ما يرد على الخاطر من دون تدقيق وتمحيص. وهذا في نظري وعي قاصر ببنية الشذرة ومحتواها.
فكما يتعب الشاعر ويُجهِد روحه في اصطياد اللفظة المناسبة بالإيقاع المناسب، نرى كاتب الشذرة يحاول أكثر من مرة، أن يصوغ أكبر عدد ممكن من الرؤى والتأويلات، في أقل عدد ممكن من الكلمات، لتخرج الشذرة كالبرق، شعاعًا نحيلًا، لكن بإمكانه أن يضيء السماوات والأراضين، وأن يحمل شحنة كهربية بإمكانها أن تحرق الأخضر واليابس.
لتوضيح الفرق أكثر بين الشذرة والخاطرة، يمكننا أن نقرأ ما كتبه إدوار البستاني في مقدمة ترجمته «خواطر» الفيلسوف والرياضي واللاهوتي الفرنسي «بليز باسكال» (1623-1662). فعن متى ولماذا وكيف وضع باسكال خواطره، يقول البستاني: «كان هذا في سنة 1656، وهي السنة التي شفيت فيها «مرغريت بيريه»، ابنه شقيقة باسكال، شفاءً فوريًّا عجائبيًّا من قرحة في مدمعها بعد لمسها شوكة من الإكليل المقدس، الأمر الذي زاد شعلة الإيمان اضطرامًا في قلب باسكال، فعزم على تأليف الدفاع عن الدين الذي لم يصل إلينا منه إلا أشتات من الخواطر بدت في حالتها الأولى وكأنها فقرات لا تلاحم بينها ولا رباط».
أوضح البستاني أن باسكال وزَّع خواطره في وريقات لا ترابط بينها، فجاء بعضها تامًّا في وضوحه وروعته، وبعضها الآخر قلق التركيب، مضطرب المبنى، مشوبًا بالأغلاط الإملائية، ما يدل على أنه كتبها إما مستلقيًا على ظهره متألمًا، وإما أنه نصَّها على أحد خدمه أو زائريه.
أشار البستاني إلى أن الأفكار كانت تزدحم في ذهن باسكال، ويحُول مرضه دون التبسط فيها، فيدونها أحيانًا رؤوس أقلام إلى أن يتبحر فيها لو أسعفته العافية.
الخاطرة لن تكون شذرة إلا إذا أراد لها كاتبها ذلك من خلال الاجتهاد في صوغها أكثر من مرة.
من خلال ما قاله البستاني عن ظروف وضع خواطر باسكال، يتبين لنا أن الفيلسوف نفسه لم يكن يعمد إلى الكتابة الشذرية. فقط كان يضع رؤوس موضوعات على أمل أن يعود إلى الاستفاضة فيها وشرحها ووضعها في نسق ومنهج معين بعد أن يَبُلَّ من مرضه، لكن القدر لم يمهله، فمات عن 39 عامًا.
نستطيع أن نقول لأنفسنا إن الشذرة قد تكون خاطرة، أي ترد على خاطر كاتبها من دون وعي تام أو عمل وجهد، كالبيت الذي لا يعرف شاعره من أين جاء. لكن الخاطرة لن تكون شذرة إلا إذا أراد لها كاتبها ذلك من خلال الاجتهاد في صوغها أكثر من مرة، مُبدِّلًا وموفِّقًا بين الكلمات إلى أن يتمكن من اصطياد تلك السمة البرقية التي تسم الشذرة، وتُذكِّرنا بالإشراقات الصوفية، وتفسر لنا سبب وجودها، أو ما يشبهها، بغزارة في كتابات المتصوفة الذين انحازوا للنثر بديلًا عن الشعر في تسجيل إشراقاتهم، ومن هؤلاء النفري في مواقفه، من دون أن نغفل بالطبع ابن عربي والسهروردي المقتول في غالبية كتاباتهما النثرية.
الشذرة ليست حكمة
الشذرة في الغالب مزيج من الرؤية الشعرية والتأمل الفلسفي والإشراق الصوفي والحدس، ما يجعلها لا تحتاج في إثباتها إلى البراهين، إنها مثل لمعة البرق، إذا استطاع الناظر أن يرى السماء في أثناء هذه اللحظة الخاطفة، فبها ونعمت، وإذا لم يستطع، فعليه أن يتصور سماءه الخاصه بحسب إمكانياته التخييلية.
من هنا، نرى أننا نبعد كثيرًا عن فهم ماهية الشذرة فور أن نتلقاها في صورة «حكمة». فالكاتب، حال الكتابة، هو في الأصل قارئ للعالم، لا يمتلك معنىً معينًا يستطيع أن يهدي به أحدًا إلى طريق محدد أو معرفة مشهود لها بالصحة المطلقة. ومن غير الجائز له أن يدَّعي احتكاره رسالة معرفية ما، لأنه في الأصل لا يعرف، هو فقط يختلف عن الآخرين بأنه يعرف أنه لا يعرف.
لذلك كان من الطبيعي أن يقول «أنطونيو بورشيا» عن شذراته: «لا أحب أن يسمي أحدٌ ما أكتبه بالحكمة. سيجعلني ذلك أشعر بالإهانة». وقد أطلق على شذراته هاته اسم «أصوات»، قد تجد أذنًا مصغية، وقد لا تجد. وحتى إذا وجدت من يصغي إليها، فلا بد من أن تجد من يناقشها ويقلبها على أوجهها المتعددة.
إن صوغ الحكمة من أسهل ما يكون من وجهة نظر المبدعين. إذ يكفي أن تمتلك الجرأة على أن تقول للقارئ: افعل ولا تفعل. حتى تصوغ حكمة لا تحتاج من سامعها إلا مصمصة الشفاه، وليس إعمال العقل والقلب.
لعل ذلك ما دعا «كارل كراوس» إلى أن يحذر من أن «فن الشذرة يبدو بالنسبة إلى من يستطيع ذلك أمرًا صعبًا. لكنه أمر سهل بالنسبة إلى من لا يستطيعه». يضيف كراوس للتوضيح، أو للتضليل، فالأمر سواء في هذا النوع الكتابي: «الشذرة لا تتدثر البتة بالحقيقة. إنها، إما نصف حقيقة، وإما حقيقة ونصف».
الشذرة ووسائل التواصل الحديثة
من الواضح أن أيامنا هذه التي استجابت لمطلب سهولة المعلومات وسرعة تداولها، جعلت عددًا كبيرًا من الكتاب يلجأوون إلى الشذرة كوسيلة للتعبير أفضل من النصوص الطويلة وأكثر منها مواكبة للعصر. من هنا يروادنا السؤال: ما موقف الكتابة الأدبية من كل جديد يطرأ عليها؟ وهل تترك نفسها للتأثر بهذا الجديد كليةً، أم بإمكانها أيضًا أن تؤثر فيه؟
المتابع، ولو بشكل عابر، لمواقع التواصل يكتشف مدى تأثر الكُتاب بهذه الوسائط، واعتمادهم عليها كنافذة لنشر إبداعاتهم، ما جعلهم في كثير من الأحيان يحاولون كتابة ما يناسب مثل هذه الوسائط، طمعًا في الحصول على متابعين أكثر.
من يقف أمام تيار «الجديد» خائفًا من التأثر به، فهو لا محالة هالك، ومن يترك نفسه لهذا الجديد ليجرفه، فهو بالتأكيد غارق.
من ناحيته، يقول زكريا محمد، في مقدمة مجموعة قصائد نثرية باسم «كشتبان»: «اعتدت، خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة (الطبعة الأولى 2014) على كتابة قصائدي على الحاسوب، ثم رميها على صفحتي فورًا. أي إنني لم أترك مساحة من الوقت بين الكتابة والنشر»، معترفًا بأنه لم يكن بإمكان هذا أن يحدث قبل فيسبوك، لدرجة أنه يمارس عملية التدقيق النهائي للقصيدة بعد نشرها على موقع التواصل.
نعم، إن مواقع التواصل أثرت بشكل ملحوظ في بعض الكُتَّاب، لدرجة أنها جعلتهم، إلى حدٍّ ما، «يفصِّلون» نصوصًا بعينها تناسب ذائقة متابعي هذه المواقع، والذين عادة ما يفضلون السهل والبسيط والقصير نسبيًّا، والذي بالضرورة لا يحتاج إلى جهد كبير ولا إعمال عقل لتلقيه، لتصبح عملية التلقي بدورها سريعة وغير متأنية ودون فعالية بين القارئ والنص، بحيث لا يهتم بتوسيع دلالات النصوص وتنويعها.
يعلق زكريا محمد نفسه قائلًا: «... وهكذا صرنا أمام دورة إنتاج واستهلاك لم يسبق لها مثيل. دورة في منتهى العجالة». ليتساءل في النهاية: «غير أن ما لا أدريه، إنما هو مقدار تأثير فيسبوك في هذا كله: أكانت التغيرات في قصيدتي على علاقة ما بدورة الإنتاج الغريبة في فيسبوك؟ أم إنها تغيرات حدثت ببطء، ثم أعلنت عن نفسها على صفحتي؟».
من يقف أمام تيار «الجديد» خائفًا من التأثر به، فهو لا محالة هالك، ومن يترك نفسه لهذا الجديد ليجرفه، فهو بالتأكيد غارق. غير أن المبدعين يقفون من كل جديد موقفًا إبداعيًّا وجماليًّا بالضرورة، يناقشه حينًا ويجادله أحيانًا، حتى يصلا معًا (المبدع والجديد) إلى طريق يؤدي إلى عالم أكثر انفتاحًا، وإبداع لا يعرف الحدود. لذلك كافحت الشذرة طوال الزمن لتظل حاضرة ضمن الأشكال التعبيرية الأدبية والفلسفية حتى يومنا هذا.