قرن من الموسيقى العراقية: أذن تسمع الأغاني بشكل مبالغ فيه

التصميم: منشور

علي وجيه
نشر في 2022/08/20

في الظهيرة، يكتشف الطفل كل شيء. 

ينام الكبار، فتدب أصابعه الصغيرة بين الجوارير، وكل مساحة كان الآخرون يشيرون لها بأن «لا». يكتشف الطفل، المراهق لاحقًا، جسده، الكتب الممنوعة، بعض التسريبات السياسية في زمن كل شيء فيه يجب ألا يسرب، وبطريقة ما، أنا أمين على اكتشافات الظهيرة، حتى وصولي لمرحلة «الكبار»، التي تشير للآخرين الصغار بأن «لا». 

في تلك الظهيرة العجيبة، اكتشفت حقيبة أمي القديمة، الحقيبة التي كانت شبه مخفية، لأن وضعها آنذاك لم يكن محسومًا مع التغيرات العجيبة التي تتعرض لها الطينة الهشة في كل زمن: المرأة العراقية. وبالتالي كانت الحقيبة تشبه «لحم الحصان» في الفقه الشيعي، ليس حلالًا، ليس حرامًا، مكروه.

الحقيبة تلك كانت «بيجية» اللون، مخططة بالأزرق، ومع فتح سحابها المعدني، كانت تتسطر «الكاسيتات» كما تتسطر فقرات عمود الظهر.

الطفل يفتح الحقيبة، بالطريقة التي يتبعها أطفال البشرية كلها: إفراغ محتواها كاملًا على الفراش، ثم تأملها. 

كانت هناك وجوه غريبة لا أشاهدها على التلفزيون. في التلفزيون كاظم الساهر، هيثم يوسف، جلال خورشيد، لكن من رباب؟ من عبد الكريم عبد القادر؟ من عبد المحسن المهنا؟ من هدى حسين؟ عايشة المرطة؟ أحمد الجميري، وغيرهم. 

ثمة ما فاتك كثيرًا أيها الطفل، فاتك ودفعك إليه فضولك، كما يدفع الفضوليين في «ألف ليلة وليلة»، الذين يتركون غرف القصر الـ99 كلها، ويفتحون المحرمة منها. 

لحسن الحظ، كان لدي حينذاك مسجل صغير أسود، Sony، من الذي يعمل بالبطاريات النحيلة، يستهلك اثنتين كل مرة، وكان الكاسيت الأول: هدى حسين، وأغانيها للأطفال. 

ضاع مني الكاسيت بعد نحو عقد، واختفت الأغاني في دهاليز لا أعرفها من ذاكرتي، حتى تذكرتها وأنا على يوتيوب، وحين سمعتها، عدت آنذاك لتلك اللحظة، لحظة اكتشاف ما لا أعرف، وبصوت أجش، ترنمت: 

قصة الطير الجريح

اللي من جرحه يصيح

كلما حاول يطير

يرجع من ثاني يطيح

في الذهنية العراقية: الغناء هو الثمرة المحرمة

الأذن العراقية أذن طربية، بالأقل منذ بدايات القرن العشرين، اختراع التسجيل، ثم وجود الغرامافون، والاسطوانات، ثم الشريط ببكرتين، غالبًا ما كان من نوعية «أكاي»، ثم الكاسيت الذي غير كل شيء.

العراقيون كانوا يتحلقون في «التياتروهات» ليستمعوا للفنانات والفنانين المنتشرين في ملاهي شارع الرشيد، لم يكن هؤلاء المطربون هامشيين، كان منهم ناظم الغزالي، نرجس شوقي، سليمة مراد، عفيفة إسكندر، لميعة توفيق، وحتى البدايات العربية لفايزة أحمد، محمد عبد المطلب، ولا ننسى طبعًا ذلك الاستقبال الهائل لأم كلثوم قبلها بعقدين، حين غنت «السيدة» وسحرت بغداد وشعراءها، الرصافي على رأسهم.

في مناطق بعيدة عن العاصمة، كان الأمر أبسط: صينية ومسبحة، وحنجرة أو حنجرتان جريحتان تغنيان التغريبة العراقية الحزينة الخالدة: مسعود، حضيري أبو عزيز، خضير مفطورة، داخل حسن، كريري، جويسم، ثم تلك الالتماعة العجيبة: السيد محمد النوري، مخترع المحمداوي، طوره الخالد.

كلا السياقين في الغناء العراقي حظي بتسجيلات وإنتاج جيدين، فاسطوانات «جقماقجي» الشهيرة، وتسجيلات شرهان كاطع، وغيرها من المحال الأصغر، كانت تُصدر تلك الأغاني بشكل مكثف. الأرشيف العراقي الذي يستقر بعضه في المكتبة الوطنية – دار الكتب والوثائق، والبعض الآخر باعه نحيلو الذاكرة لمكتبة قطر الوطنية، يكشف عن ذلك. تسجيل حفلات من الثلاثينيات صعودًا، وقبلها كان تسجيل بستات «عثمان الموصلي»، أبي الموسيقى العربية وأستاذ سيد درويش، واضحًا ومؤثرًا، وبعض نماذجه موجودة على يوتيوب. 

لم تحسم أمي موقفها من الحقيبة، ولا جدتي، المرتبطة منذ أن وعى الجميع بسجادة صلاتها. كانت جدتي التي ترى الغناء حرامًا تغض البصر وإن كانت لا تنهر، عن سيد محمد. سمعت في ما بعد أنه غنى في زفافها على جدي، نهاية خمسينيات القرن الماضي.

في الذهنية العراقية عمومًا، الغناء هو الثمرة المحرمة، الاختراع العجيب الذي همهم به رجل الكهف في لحظة وحدة عجيبة أمام الكون، هكذا افترض بدايته. الغناء هو ما يروح عن نفوس الرجال، وعن أحزان النساء، هو ما يرقصهم ويبكيهم، ما يجعلهم أقرب لذواتهم، وهم المبتعدون عنه للوصمة الاجتماعية، إن كان المطرب مطرب إذاعة وتلفزيون، أو مطربًا يغني مع الكاولية (الغجر)، أو شخصًا يترنم وحده.

هذه الأذن، يختلف ما تشربه من أصوات: تختلف الألحان، الأدوات، الكلمات، لكن الثابت إن كانت «كمنجة وجوزة»، أو «صينية وسبحة»، أو أوركسترا، أو عازف عود، وإن كان نصًا عباسيًا لأبي نواس، أو قصيدة للحبوبي، أو دارميًا بسيطا كتبته امرأة وحيدة، أو عاشقة دخن قلبها لحظة استذكارها لحبيبها، أو بستة بسيطة، فإن الأذن العراقية لا تنفك عن السجود أمام ترجيع الصوت وترديده، حتى إن كان قرآنا، أو مواليد نبوية، أو لطميات.

رجل الدين، وإمام جامع الحيدرخانة في بغداد، الباحث في تراث العاصمة الشيخ جلال الحنفي، كان من عشاق المقام وعازفي العود، وصنف فيها كتابًا عام 1964 (المغنون البغداديون والمقام العراقي)، وظلت علاقة الغناء والدين متقاربة، شيوخ يغنون، معممون يطربون، تسجيلات لا تبعد عن المراقد المقدسة سوى بضعة مئات من الأمتار.

أنهى رائد المقام العراقي محمد القبانجي سيرته الغنائية مؤذنًا في مسجد، وأنهى المطرب الريفي العراقي فرج وهاب مسيرته كذلك قارئًا مصيبة الحسين، وكذا الحال مع هاني الكرناوي، وحتى حسين جاسم عربيًا، الذي كان مؤذنًا في مسجد. 

قلب يتقلب بين الله و«مزامير الشيطان»، التي تُوجِب «صب الحديد المذاب في الأذن يوم القيامة»، لكن التاريخ يحتفظ بكل شيء، وبذات المقامات إن بدأت بالبسملة أو «لا تدرْ لي أيها الساقي رحيقا». 

أول عتبة في الغناء العربي، طربية، مسجلة، محدثة، هي «أنا هويت وانتهيت» لسيد درويش، تقابلها خليجيًا «دمعي جرى بالخدود»، للبحريني محمد بن فارس. ومن الغرائب أن درويش كان من المتأثرين بأبي الموسيقى العراقية الملا عثمان الموصلي (1845-1923م)، بل إن «زوروني كل سنة مرة» هي إعادة إنتاج للحن شهير لمدائح نبوية له، تحت عنوان «محمد يا رسول الله».

ثمة موسيقى أكثر من اللازم، وتنوع في هذه الرقعة الجغرافية، عراقيًا أو عربيًا، أقوام يمرون غزاةً ويتركون أثرهم في المطبخ والموسيقى، ومحليون يصطادون الألحان من تركيا وأوروبا ويعربونها، فضاء شاسع من التناصات التي تجعل كل شيء قابلًا للتداول، من قال إن ثمة هوية للأذن والمعدة؟ مهما انشقت تلك البلدان وتغيرت خرائطها، ستنجح الآلات في عبور الحدود أسرع من أي جيش آخر.

غناء كثير، بلدان مزدحمة، وثمة أذن تسمع الأغاني بشكل مبالغ فيه. 

إلى جانب مسير التاريخ، تسير الأغنية

المحتوى الثقافي الأرَقّ، الأسرع تأثرًا بكل ما يدور، هو الأغنية: لحنًا وأداءً وكلمات، ولذا، مع قليل من التركيز، تكشف لك الأغنية بالضبط عما يدور في البلاد، أقصد العراق هنا بالضرورة، وينطبق ذلك على البلدان الأخرى بكل تأكيد.

الأغنية أصدق من مصنفات المؤرخين، فهي لا مركزية، ولا تحتاج لدار نشر وتكليف ومجلدات، جلسة بسيطة على صينية الشاي طبلًا، ومسجلًا، وأربعة أصدقاء، يمكن أن يكشفوا عما يحدث.

لم تكن الأغنية البغدادية سياقًا مجتمعيًا ملحوظًا، كان المقام من جهة هو إعادة إنتاج لتحف الشعر العمودي العربي، والبستات (الأغاني الخفيفة التي تلي المواويل) هي استراحة من الموال المنهك، حتى بدأت لحظة ساحرة اسمها: ناظم الغزالي.

انتقل الغزالي، الشاب الوسيم زوج سليمة باشا مراد لاحقًا، إلى تنفيذ اشتراطات المقام العراقي بقصيده المذهل، لكن الأغنية كانت محتوى موسيقيًا تاما، حديثًا، ولعل ذلك يختلف كثيرًا عما سبقه من أغان وبستات، أعني ما أنتجه في «مروا عليه الحلوين»، «جان القلب ساليك»، «يا خشوف العلى المجرية»، «قلي يا حلو منين الله جابك». ومع الإهمال العراقي الواضح في ما يخص التسجيل والأرشفة، اتجه إلى الكويت لتحفظ الشركات هناك تراثه، قبل وفاته المبكرة المفاجئة.

الغزالي لم يشكل نسقًا وظاهرة، كان حجرًا ملونًا غريبًا في المدرسة البغدادية، لكن الجنوب كان له رأي آخر، خصوصًا بعد انقلاب عبد الكريم قاسم (1958م)، وحركة النزوح الواسعة لأهالي الجنوب هربًا من الإقطاع وبحثًا عن فرص عمل أفضل في العاصمة.

بين «الميزرة» و«كرادة مريم» و«مدينة الثورة» و«خلف السدة»، تكدس الجنوبيون الفقراء، هم وكل إرثهم الذي قدموا به من ميسان وذي قار وبعض المحافظات الأخرى. وقبل أن تقرر العاصمة التعامل معهم بريبة، وعدم اندماجهم بشكل جيد في مجتمعها البرجوازي، المتعالي، الخارج من انتهاء حقبته الذهبية بعد مقتل العائلة المالكة على يد العسكر، سمع هؤلاء الفقراء نداء آخر يدغدغهم: اليسار العراقي، ممثلًا في الحزب الشيوعي العراقي.

الشبان الذين كانوا آنذاك متطلعين وحداثيين، كانوا في أغلبهم شيوعيين أو أصدقاء للشيوعيين، من الشعراء: عريان السيد خلف، كاظم إسماعيل الكاطع، جودت التميمي، ذياب كزار، زامل سعيد فتاح، كريم العراقي، وغيرهم. ثم الملحنين: كوكب حمزة، محمد جواد أموري، محسن فرحان، حميد البصري، طالب القره غولي (لم يكن شيوعيًا، لكنه تعامل معهم بشكل ملحوظ)، جعفر حسن. ومن المطربين: فؤاد سالم، حسين نعمة، ياس خضر، قحطان العطار، فاضل عواد، صباح السهل، كمال محمد، سامي كمال.

هذا ما يمكن أن يسمى بعصر الأغنية العراقية الذهبي: الأغنية السبعينية.

كانت الأغنية منتوجًا ثقافيًا متطورًا، في وقت كانت البلاد حتى قبل «الجبهة الوطنية» بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث تشعر بهدوء نادر بعد الستينيات: عقد الانقلابات، وقبل انقلابة البعث على المنجل والمطرقة، كان الهدوء واضحًا، والاسترخاء والتحضر وصل حتى الملابس والدراسة والشوارع التي بالغت في أناقتها ونظافتها، لذا كان هناك ازدهار في الأغنية، التي كانت تتعامل مع الحب كقيمة عليا والوطن «الباسم سعيد»، كما في «حاسبينك» لفاضل عواد (طالب القره غولي ملحنًا، زامل سعيد فتاح شاعرًا)، وقبلها «إعزاز» لياس خضر، بذات الثنائي الساحر هذا.

كانت الأغاني تخاطب الشعب بشكل عام، ليس هناك عاشق ومعشوق، هناك «نحبكم» و«لو تريدون الوفا»، و«إعزاز»، و«عايفينا»، وغير ذلك. لكن ذلك الخطاب الذي كان يعكس استرخاء واضحًا، لم يكن ليستمر طويلًا، فالوحش البعثي التقط ذوي القمصان الحمر، ثم التفت إلى رفاقه المؤسسين في «قاعة الخلد».

نما «السيد النائب» ليتحول إلى «السيد الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله ورعاه»، ليدخل إلى حرب طويلة مع إيران. شاهدنا كثيرًا من الشبان يقفون طوابير يغنون للمعركة، التي لم يقتنعوا بها، قبل أن يتناثر بعضهم على البلدان: فؤاد سالم إلى الكويت، قحطان العطار إلى أوروبا، فاضل عواد إلى ليبيا، سامي كمال وجعفر حسن إلى اليمن، بينما بقي الآخرون في العراق وغنوا لصدام والحرب، إلى جانب مطربين عرب كثيرين، ففي النهاية محاكمة المطرب ليست قاسية مثل محاكمة المثقف والكاتب، لوجوده في مساحة عاطفية من مناطق حكم المرء على الأشياء.

حرب وجوع وملابس ملونة

بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، حاولت السلطة بث موسيقى فرحة لتغطية الأثر السلبي للحرب، لكن عدد الشهداء والمعاقين والخسارات الاقتصادية بسبب حمى التسليح لا يمكن أن تخفيها «وداعًا يا حزن» لياس خضر. وفي كل الأحوال، لم يكن الأمر ليستمر طويلًا للترميم، فقد دخل صدام الكويت، وخرج الجيش متبوعًا بالصواريخ الأمريكية، قبل أن يقرر جندي منهك فتح النار على جدارية صدام في ساحة سعد بالبصرة، ليعلن بدء «الانتفاضة الشعبانية» عام 1991.

سقطت المحافظات بشكل متتال، كانت الرثائيات على كاسيتات بسيطة، على ألسن الجيل الثاني من مطربي الجنوب، ما بعد اليسار العراقي: كريم منصور، حسن بريسم، قاسم ماجد، فيصل حمادي، حسين البصري، صباح الخياط، وغيرهم. كان الحزن واضحًا، والانكسار أوضح، قبل أن تبدأ السلطة في إنتاج جيل جديد بعد انطلاق «تلفزيون الشباب»، بإدارة عدي صدام حسين، منتصف التسعينيات.

رغم الحصار الاقتصادي الذي فرضته العقوبات الأمريكية، والوجوه التي تفتقر للعافية، بدأ العراقيون يلاحظون الجيل الجديد، بالقمصان المزركشة والأغاني العاطفية البسيطة. تراجع اللحن بشكل واضح، أغنية سريعة، قصيرة، كوكتيلات مسموعة تباع في التسجيلات، لم تعد الأغنية تتجاوز عدة دقائق، وكانت تلك حقبة ذهبية لتصوير الكليبات الحديثة: حاتم العراقي، هيثم يوسف، مهند محسن، عقيل عمران، نمير عبد الحسين، قاسم السلطان، سيناء، وغيرهم.

الأغنية التسعينية كانت مزيجًا من بقايا الأناقة والرثاثة والإيقاع السريع (بتأثيرات توزيع حميد الشاعري على المحيط العربي)، لكنها كانت تشبه كل شيء في تلك الفترة: الجوع وبقايا العافية، الملابس كثيرة الألوان التي لا يمكن استبدالها بسهولة، الشوارع التي أصابها فقر الدم والاخضرار.

مع نهاية التسعينيات، ازداد اتجاه العودة إلى اللاهوت، وكان دعم صدام بحملته الإيمانية واضحًا لتيارات دينية سنية، وظهر تيار شيعي معارض، لمحمد محمد صادق الصدر، فعادت حقيبة أمي لتمتلئ بكاسيتات المقتل، والشيخ الوائلي، وبعض لطميات باسم الكربلائي، باستعاضة موسيقية لمحتوى زال واختفى.

ورغم كثرة الإنتاج الفني، كان العراق بكل مفاصله يتجه إلى الانحدار: الديكتاتور ونظامه، بعض سياقات السلوك القديمة، الأغنية، الملبس، وحتى المطبخ. وحين جاءت لحظة 2003، لم يعد ذلك الإرث موجودًا نسقًا، وما حدث بعد ذلك لا يستحق سطرًا ربما في هذه المادة.

أمامي قرن عراقي كامل أتجول فيه على يوتيوب، لاستقراء تلك الجملة الموسيقية والجملة الشعرية، هي أصدق كثيرًا من مصنفات المؤرخين كما أسلفت، قرن صار مجرد أثر ونوستالجيا، قرن لم يثمر بعد 2003 أيًا من سياقاته القديمة.

الحقيبة الآن ازدحمت بأشياء كثيرة، لدرجة أنني لا أعرف بالضبط حقيبة من هي.

مواضيع مشابهة