نافورة في نفق؟ كان هذا الانطباع الأول عندما عبرت للمرة الأولى من نفق دروازة العبد الرزاق. كانت رائحة دكان السندويتشات تفعم المكان، وكنت أنا في حيرة من أمري. هل يكون هذا المكان المناسب لإقامة المعرض؟ فكرت وأنا أراقب قطة تسلك طريقها نحو الرصيف الآخر. هناك مخزن واسع، ومواقف من كل جانب، هذا مناسب، ولكن المنطقة هنا غير مألوفة إلا لمن يعمل أو يعيش في محيطها. حتمًا أحتاج إلى إرفاق خريطة ببطاقات الدعوة.
في يوم المعرض 3 ديسمبر 2009، الموسيقى هادئة والصور التي التقطتها لواجهات المدينة جاهزة للعرض، ولكن من هذا الذي يوزع العصير على الناس؟ إنه من محل العصير المجاور، انتهز الفرصة وصار يبيع للناس العصير. فرحت كثيرًا، فلحظة الحياة التي دبّت في النفق أصبحت مفيدة للمحلات المحيطة به. هكذا تعمل المدينة، محطات انتظار، ومحطات عبور، لحظات صغيرة وأخرى كبيرة كلها تعمل كالتروس، تحرك بعضها بعضًا في حوار زمني متناغم.
أغلب التعليقات التي جاءتني بعد المعرض كانت حول المكان الذي كنا فيه، وكأن ماء النافورة سرى في عروقهم، وأنعشتهم ميكانيكا المدينة. يقول يحيى إنه بينما كان يطالع صورة لمبنى يظن أنه مر عليه بالسيارة يومًا، قاطع فكرته رجل يقول إنه يعيش هنا. بينما خرج أحمد من النفق ليجد ما رآه أفضل موقع لمشروعه الصغير، هنا بعيدًا عن المجمعات البراقة، هنا حيث تسكن نافورة في نفق.
رجعت بعد نحو ثلاثة أشهر لعبور النفق، فوجدت خيمة قد نُصبت من أجل رواد الدكان، وعُلقت على حوائط النفق لوحات تعكس كويت الماضي. كانت مفاجأة، هل تأثر الدكان بما حدث في النفق قبل فترة؟ أم تأثرت شركة المرافق العمومية المسؤولة عن المكان وقررت أن تجمله ببعض اللوحات؟ لم أفهم ما حدث، ولم أتوقع هذا التغير في المكان، ولكن أعجبني أن أرى تحولًا في علاقة الناس به. بعد فترة وجيزة، أخبرت ردينة بما حدث في النفق، وذهبنا معًا لزيارته، ولكني فوجئت بأعداد كبيرة من المقيمين مجتمعين في حلقات حول النافورة، وعندما سألت عن السبب، قال لي أحدهم إنه لقاء اجتماعي توجيهي للمقيمين الجدد.
لقد التقطت هذه الصور الثلاثة عام 2010، رغبةً مني في الكتابة عن هذا التغير الصغير الجميل في جزء من المدينة، ولكن مفاجآت نفق الدروازة ظلت تتوالى، والمنطقة المحيطة به استمرت في التغيير، ولم أكن أعرف متى عساني أحكي قصتي عنه. ففي ظرف ثلاث سنوات تقريبًا تبدل الدكان الشعبي إلى مقهى عصري، وأقام طلبة التصميم العمراني في جامعة الكويت عرضهم التقييمي في النفق، وذلك لكونه موقع الدراسة، وقدموا فيه تصميماتهم لتطوير المنطقة.
مررت من خلال هذا النفق مرات عديدة، وذلك باعتباري جزءًا من فريق «مدينة» الذي يقدم جولات ودراسات حول علاقة الإنسان بالمدينة. أحيانًا أكون مرشدة وأحيانًا أخرى مستمعة. وقد كانت روايتي تختلف في كل مرة أقصها على من يمر معي في هذا النفق، فأحيانًا أرويها من زاوية تاريخية وكيف أن الدروازة (إحدى بوابات سور المدينة القديمة) صارت نفقًا، وأن «الطين صار سميت»، وذلك لتأهيل المدينة لمشروع المترو الذي كانت مخططاته تُدرَس في الثمانينات. وأحيانًا أخرى تغلب تجربتي الشخصية على الرواية، وهي تجربة يغلبها الشك، فمن الجيد أن يتفاعل الإنسان مع المدينة، ولكن من المهم أيضًا أن يسمح لغيره من الناس بالحياة في المدينة بشكل متعادل.
عندما قرأت خبر ردم النفق، تبادرت إلى ذهني آخر صورة حية له، وهي جولة بالتعاون مع معماريي إيه جي آي (AGi Architects) وتذكرت المعمارية عائشة الصقر معي ذلك اليوم، وقالت:
«كان ذلك سنة 2015، وكانت الفكرة أن نستكشف ونتخيل المدينة مشيًا على الأقدام. زرنا فيها أماكن قد نراها يوميًا بأعيننا، ولكنها للأسف غير مُستغَلة ولم يُعد تأهيلها. جبنا الساحات والبلكونات، وصعدنا على الأسطح، وعبرنا اللواوين، وكان "نفق الدروازة" إحدى محطاتنا. ولأن الغرض من الرحلة إحياء تلك المرافق وتخيل أنشطة مناسبة لها، فقد دعونا عازف جيتار إلى المكان لكي يقدم عرضًا قصيرًا دون تكلف، فقد كان المكان ملائمًا جدًا للموسيقى والتجمهر. وبكل عفوية جلس أحد المشاركين إلى جانب العازف وبدأ في الغناء. هذه اللحظة العفوية التي تُدخل البهجة إلى قلوب المارة تحصل كثيرًا في المدن الأخرى، ونفتقدها جدًا في مدينة الكويت».
توقفت عند عبارة اللحظة العفوية، فتذكرت القطة، وبائع العصير، والدكان القريب. قد لا نفقد اللحظة العفوية فعلًا في المدينة، ولكننا نفقد مؤهلاتها عندما توضع القيود على المساحات العامة. إن المدينة، حسب مفهوم الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر، فضاء يشترك في خلقه السكان بقدر الدولة. والمساحة العامة هي مساحة الثقة بين أفراد المجتمع والدولة، وهي مساحة مبنية على السماح، تُحترم فيها تعددية المجتمع واختلاف الثقافات. ولذلك فهي فضاء مهم للحياة التشاركية، وموازنة كل ما هو غير مُنصف في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، وتأهيلها للتغيير.