عندما ألقى الطياران في الجيش الأمريكي «بول تبيتس» و«تشارلز سويني» القنبلتين الذريتين، تباعًا، فوق هيروشيما (6 أغسطس 1945) وناغازاكي (9 أغسطس 1945) اليابانيتين، تغيَّر شكل العالم للأبد. انتهت الحرب العالمية الثانية، لملمت اليابان المهزومة عشرات آلاف الضحايا معلنة استسلامها، ووقف الرئيس الأميركي «هنري ترومان» أمام العالم متمنيًا أن يعم السلام كوكبنا إلى الأبد.
لكن فوق صورة اليابان المهزومة، وابتسامة ترومان المنتصر، كان طيف القنبلة الذرية يرفرف. طيف ثقيل بقي يتوسع حتى شمل العالم كله: صورة القنبلة وهي تنفجر، صورة رماد هيروشيما، وصور الجثث الواضحة والنظيفة من دون أي آثار للدماء. كان هذا موتًا جديدًا، يليق به عهد جديد على كل المستويات.
بينما كانت الحكومات الغربية تغرق في تجاهلها للكارثة البشرية في اليابان، مرددةً أن القنبلتين لهما الفضل في إنهاء الحرب العالمية الثانية، كان الفنانون في الولايات المتحدة وبريطانيا يعيدون النظر في الكارثة تارة، ويحتفون بها تارة أخرى. التعامل المضطرب مع حدث بهذا العنف وهذه الفوضوية، وفي ظل غياب أي معطيات علمية حقيقية حول ما حصل، فتح الباب أمام خيال فني، تراوح بين الخوف من المستقبل والموت الآتي، والإباحية والجنس والإثارة. الهامش الواسع بين هذين الحدين جعل كل شيء ممكنًا فنيًّا.
بعد ليلتين من إلقاء القنبلة على هيروشيما كان مسرح «ذا بوربنك برولسك ثياتر» في لوس أنجلوس الأمريكية يدعو الجمهور إلى الحضور لمشاهدة «راقصات القنبلة الذرية»، في إشارة عرض يتخلله إغراء وإثارة لراقصات «البورليسك» الأشبه بالقنابل... الجنسية طبعًا.
في الإطار نفسه من الاحتفاء بالقنبلة، ظهر «الكوكتيل الذري» في الملاهي الليلية الأمريكية. «نادي واشنطن للصحافة» أول من يقدم هذا الكوكتيل بعد أيام من انفجار هيروشيما، وفق ما يذكر أستاذ التاريخ في جامعة ميامي «آلن وينكل»، في كتابة «الحياة تحت سحابة: القلق الأمريكي من القنبلة الذرية».
كذلك ظهرت إعلانات لمجوهرات رُوِّج لها على أساس أنها مستوحاة من القنبلة الذرية، وفق الإعلان الذي نُشِر في عدد يوليو 1946 من مجلة «فاسينيشن» النسائية. وجاء في الإعلان: «مجوهرات أزرار وحلق مستوحاة كلها من القنبلة الذرية». وقد خصصت الكاتبة الأمريكية «جاين كابوتي»، فصلًا كاملًا من كتابها «Gossips, Gorgons and Crones: The Fates of the Earth» للحديث عن تأثير القنبلة الذرية على الموضة في النصف الثاني من الأربعينيات.
لكن أبعد قليلًا عن الهستيريا الاستهلاكية التي غزت الشوارع الأمريكية، كانت الموسيقى تطبِّع بدورها مع القنبلة الذرية، خوفًا أو ابتهاجًا أو هجاءً.
في ديسمبر 1945، أصدر الثنائي الأمريكي «كارل وهارتي» أغنية «When The Atom Bomb Fell»، وكانت الأغنية المقاربة الشعبوية الأولى لقصف هيروشيما وناغازاكي، على اعتباره استجابة إلهية لصلوات الجنود الأمريكيين لإنهاء الحرب، وعقابًا عادلًا لشرور اليابان. بهذه السذاجة تقول الأغنية بنَفَسها الوطني المباشر:
«رجال لم يصلُّوا مطلقًا في السابق
رفعوا أعينهم المتعبة إلى الله
راجين إياه أن تنتهي هذه الحرب البشعة
أخبروه عن منازلهم وعن أحبائهم هناك
وأخبروه بأنهم يريدون أن يكونوا هناك
أنا أؤمن بأن القنبلة التي ألقيت على هيروشيما
استجابة لصلوات أبنائنا المقاتلين»
كانت الأغنية صناعة أمريكية أصيلة وواضحة الهوية. العلاقة بين مثلث الشعب الأمريكي والله والتكنولوجيا المتطورة، غالباً ما كانت تنتهي بإحالة استخدامات التكنولوجيا إلى خدمة الله والدين والعباد. لم يتأخر «فريد كيربي» عام 1946، على تأكيد هذه النظرية، مع أشهر أغانيه «Atomic Power».
كانت هذه الأغنية «الذريّة» الأولى التي تحقِّق نجاحًا تجاريًّا حقيقيًّا، فاعتبر كيربي (وإن لفترة) مغنيًا سياسيًّا، والواجهة الفنية للدفاع عن أحقية الولايات المتحدة في استخدام السلاح الذري ضد اليابان. لكن الأهم أنه في أغنيته الشهيرة كرَّس النظرية الشعبية عن أن «القنبلة الذرية كانت هدية من الله».
النجاح الأول الباهر الذي حققته أغنية تتماس مع قصف هيروشيما وناغازاكي كان لأغنية «واندا جاكسون» «فوجيياما ماما».
هدية الله هذه، تلقفتها أيضًا الجوقات الكنيسة لترددها في أكثر من عمل غنائي-ديني، أبرزها: «Jesus Hits Like and Atom Bomb» و«Atom And Evil»، وغيرهما من الأغاني ذات الأبعاد الدينية حول قدرة الله على تسخير كل هذه التكنولوجيا لصالح انتصارات أمريكا الإلهية.
سرعان ما كرَّت المسبحة لتشمل أغاني أخرى لم تلق أي نجاح حقيقي، لكنها ربطت بين القنبلة الذرية والمتع المختلفة والمرغوبة في الحياة من الجنس إلى شرب الكحول والغنى الفاحش.
عام 1947، كانت أغنية «Atom Bomb Baby» لـ«فايف ستارز»، والتي عادت مجددًا إلى المقاربة بين القنبلة الذرية والجنس والإغراء، بعيدًا عن الخطاب السياسي والديني الذي صاحب نجاح عمل زميله «فريد كيربي».
لكن التأثير الأكثر وضوحًا للقنبلتين اللتين ألقيتا على اليابان، بدأ بالظهور في خمسينيات القرن العشرين وسيتيناته. فقبل تلك الفترة كانت الأغاني، باختلاف أنواعها (روك/بوب/كاونتري) تقارب موضوع قصف اليابان بطريقة ساذجة. والأغنيات كلها لم تلقَ نجاحات تذكر. النجاح الأول الباهر الذي حققته أغنية تتماس مع قصف هيروشيما وناغازاكي كان لأغنية «واندا جاكسون» «Fujiyama Mama» (سُجِّلت سنة 1955 مع «أنيستين آلن»)، وغنَّتها جاكسون عام 1960، تقول كلمات الأغنية:
«ذهبت إلى ناغازاكي وهيروشيما أيضًا
وما فعلته بالمدينتين بإمكاني أن أفعله لك/معك»
إيجاء جنسي جديد، وإن حمل بشكل واضح مشاعر سياسية وفخرًا وتباهيًا بقصف أمريكا للمدينتين. بدا الشعور بالفخر نتيجة أمريكية طبيعية لتراكم خطابات النصر بعد استسلام اليابان، وطيلة أكثر من عقد من جهة، ومن جهة ثانية ارتفاع وتيرة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
الحرب الباردة رافقها تلويح دائم بالحرب النووية، تلويح يتقدَّم ثم يتراجع، لكن طيف هيروشيما وناغازاكي حاضر طول الوقت.
أغنية «بوب ديلان» «A Hard Rain's A-Gonna Fall»، سنة 1962، والتي تزامنت مع أزمة الصواريخ في كوبا، كانت الأكثر سوداوية في تلك الحقبة، مستحضرة ثيمات مختلفة من الحرية إلى الحياة والبيئة والحرب.
كلما مرت السنوات تبدو ذكرى هيروشيما وناغازاكي أكثر قرًبا وواقعية، وقعها أكثر ثقلًا على العالم كله.
تلتها أغانٍ كثيرة، بدا أثر القنبلتين الذريتين واضحًا فيها، مثل «What Have They Done to the Rain» لـ«ذا سيرتشرز» (1965) التي كانت تدعو إلى وقف التجارب النووية في العالم.
لكن تبقى إحدى أكثر الأغاني ارتباطًا بقصف اليابان، هي «I Come And Stand At Every Door» التي تروي قصة طفل في السابعة من ضحايا قصف هيروشيما. لأول مرة يكون لضحايا القنبلتين هوية. لأول مرة تنظر الموسيقى الأمريكية إليهم ككائنات حقيقية، كانت موجودة، وفي لحظة معينة، في ثوانٍ قليلة هي مدة انفجار القنبلة، انتهت حياتهم، دُمرت ألعابهم وكتبهم وطعامهم وفرشهم. طفل ياباني في السابعة من هيروشيما، «في السابعة الآن، كما كنت في السابعة وقتها، عندما يموت الأطفال، لا يكبرون»، كما تقول الأغنية.
كلما مرت السنوات تبدو ذكرى هيروشيما وناغازاكي أكثر قرًبا وواقعية، وقعها أكثر ثقلًا على العالم كله. في السبعينيات استمر إصدار الأغاني التي تقارب بشكل أو بآخر الحروب النووية انطلاقًا مما حصل في اليابان:
في فيديو كليب أغنية «بلوندي» التي حملت عنوان «Atomic» نشاهد انفجار هيروشيما وبعده أناسًا يرقصون بأشكال مشوهة أو غير واضحة. في تلك السنوات السبعينية القليلة بدا أن الهوس بالحروب النووية بدأ يتلاشى.
لكن الاتحاد السوفييتي دخل أفغانستان. استُنفرت أمريكا مجددًا، وعاد التلويح بالحرب النووية التي بدت أقرب من أي وقت مضى، مع ارتفاع وتيرة التجارب النووية في الفضاءات المفتوحة حول العالم. فأصدر الفريق الألماني «نينا» أغنيته «99 بالونًا أحمر» (1983) التي حملت رسائل سلام، فيما اعتبرتها الصحف الأمريكية رسالة ضد نشر «تحالف شمال الأطلسي» للصواريخ النووية. في العام نفسه سجَّل الفريق البريطاني «frankie goes to hollywood»، أغنية «قبيلتان» التي تصدَّرت سباق الأغاني في بريطانيا لأكثر من تسعة أسابيع.
مع سقوط الاتحاد السوفييتي تغيَّر شكل الأغنية السياسية في الولايات المتحدة والدول الغربية. عادت موسيقى الكاونتري إلى قواعدها تغني عن الكحول والنساء والجنس والسفر والحياة، أما الفنانون السياسيون، فباتت وسائل تعبيرهم عن مواقفهم تختلف.
تدريجيًّا ذلك الطيف الثقيل لهيروشيما وناغازاكي بدأ يخبو، ويبتعد. يبتعد كثيرًا، فيكاد يختفي، لترفرف أطياف أخرى لمجازر وجرائم كثيرة أخرى، نراها هذه المرة مباشرة أمامنا، فلا تترك مجالًا، لا لخيال بشري ولا فني مفترض.