كانت عشرينيات القرن الماضي بداية ازدهار صناعة أفلام الـ«Western» أو «الغرب الأمريكي»، التي كانت في ذلك الحين أرضًا خصبة تحتمل طرح ثمار متنوعة.
أراد صُنَّاع تلك الأفلام إعادة الأمريكيين إلى أصولهم وماضيهم. مصطلح الويسترن لا يزال يحمل دلالة عظيمة الأهمية في الثقافة الأمريكية، واستمر نجاحها من العقد الثاني في القرن العشرين حتى سبعينياته، فقد شارك فيها أشهر الممثلين والمخرجين وأكثرهم ذكاءً. واستمر هذا النجاح يتوالى عامًا بعد الآخر، لتكون من أبرز علاماته فيلم «High Noon».
أفلام الفترة المكارثية
لم تكد فترة الانحياز إلى الشخصية الأمريكية تخفف من حدتها حتى بدأ أسوأ عصور السينما الأمريكية في الفترة التي صدرت فيها «القائمة السوداء»، التي نشرها السيناتور «جوزيف مكارثي» في الفترة بين 1950 و1955، بسبب الخطر الشيوعي الذي كان يُهدد أمريكا في ذلك الوقت.
في البداية أيدت أغلبية الأمريكيين الحملة لأن دعاية مكارثي اعتمدت على أن الشيوعية «دين يريد القضاء على المسيحية».
ما فعله مكارثي أن وضع مئات الأفلام في قائمة سوداء، وتكفي معلومة عن الخلفية السياسية لصناع الفيلم ليُصبح جزءًا منها، الأمر الذي دفع عددًا من هؤلاء إلى الخوف، فمنهم من استمر في الكتابة والإنتاج بأسماء مختلفة، وظهر ذلك في فيلم «The Front» للمخرج «وودي آلن» إنتاج عام 1976، الذي تناوله بشكل كوميدي ساخرًا من تلك الفترة المظلمة.
على الرغم من إدراج أسماء صناع فيلم «High Noon» (ظهيرة مشتعلة) في القائمة المكارثية السوداء، فإن المنتج «ستانلي كرامر» أقدم بجرأة شديدة على إنتاجه مستعينًا بالمخرج «فريد زينمان»، وبطولة «جاري كوبر» و«جريس كيلي».
اجتمعت في الفيلم عناصر أفلام الغرب التقليدي، من حفنة الأشرار، والمنتقمين، والفتاة الجميلة التي يأسرها الأشرار لتهديد رجل القانون بإلقاء البندقية.
كان عنصر البنادق والأسلحة والحانات الرخيصة على الطريق، إلا أن فيلم «ظهيرة مشتعلة» جاء بشكل مختلف عن أفلام الويسترن المتعارَف عليها، من إلقاء مسؤولية الشر وحدها على الهنود الحمر والمكسيكيين، وتبادل إطلاق الرصاص الهستيري المتفَق عليه في هذه النوعية من الأفلام. جاء الفيلم دراميًّا لا يخلو من فلسفة الخير والشر، وتحمُّل مسؤولية الوطن وأرواح الأبرياء، حتى مشهد النهاية البسيط وغير المتوقَع مروره بهذه السلاسة التي ميزت جميع أحداث الفيلم.
«الجميلة والطيب والشرير»
تدور فكرة الفيلم حول الانتقام الذي يخطط له المجرم في مقابل المسؤولية والأخلاقيات التي يتعامل بها المارشال الذي تسبب في اعتقاله. يبدأ بحفل زواج المارشال «ويل كين» (غاري كوبر)، والجميلة «إيمي» (غريس كيللي)، ويُفاجأ الجميع بوصول برقية مفادها أن «بين ميلر» (شيب وولي) أُفرِجَ عنه بعد الحكم عليه بالإعدام، وسيصل إلى البلدة في قطار الظهيرة.
يبدو الرعب على ملامح الحضور، لكن كين يرفض الهروب مع عروسه بعيدًا عن الخطر رغم تخلي المواطنين عن مساندته في معركته القريبة. غير أن إصراره الكبير على مواجهة ميلر وعصابته يقابله حرص الجميع على إبداء تبريرات عدم التطوع، ومنهم من يرى في ذلك «عملية انتحارية»، مؤكدًا أن من يتطوع ينبغي أن يكون لديه الرغبة في الموت.
كانت ظهيرة حارة، استطاع فيها مدير التصوير «فلويد كروسبي» استخدام الضوء والظل في تباين بصري بديع، أعطى صورة الفيلم مفهومًا جماليًّا تشكيليًّا مثل اللوحات، ما يعكس سيكولوجية الدور الذي يلعبه كوبر، ويتيح الفرصة لأبعاد أخرى متمثلة في نجاح كوبر نفسه في تصدير قَسَمات وجهه الذي بدت عليه المعاناة من حرارة الشمس، إذ يتصبب بالعرق خلال بحثه عن متطوعين من أبناء البلدة متجولًا على قدميه، ويشعر هؤلاء بالمسؤولية مع اقتراب ساعة موعد وصول القطار الذي يحمل ميلر، المجرم العائد بغية الانتقام، والذي يمثل عنصر الشر في الفيلم.
High Noon: السينما في حصن الواقع
ليس هناك ما يسمى السينما الواقعية، مهما حاولَت أن تبدو محاكية للواقع. من المستحيل أن يمر عليك الزمن كشخص عادي كما يمر بمثل هذه السرعة على شاشة.
لكن في فيلم «High Noon» ركز المخرج على حالة انتظار وقوع المعركة الفاصلة لمدة ساعة واقعية من مدة عرض الفيلم الذي يعيشه المتلقي لحظةً بلحظة، على دقات عقارب ساعات الحوائط القلقة التي تظهر في معظم مشاهد الفيلم، وهو ما صبغ الأحداث بالمصداقية، وجعل المشاهدين يحسبون الوقت المتبقي على المقابلة المنتَظرة بين رجل واحد وأربعة من عتاة المجرمين، في غزل سردي مُحكَم وواقعي لقصة تواجهها البشرية في كل العصور، عن الخير والشر وضعف الأغلبية الخائفة.
الموسيقار الأوكراني-الروسي «ديمتري توامكين»، الذي حصلت موسيقاه للفيلم على أوسكار أفضل موسيقى تصويرية، برع في استخدام الموسيقى وتوظيفها لإبراز نقاط ضعف مشاهد الفيلم وقوته، والتي تأرجحت بين مشاهد الإصرار على المواجهة من جانب المارشال كين، ورحلة البحث عن الداعمين، وكذلك مشاعر الإحباط الناتجة عن تخلي إيمي (زوجة كين) عنه ومغادرتها البلدة، إذ تتداخل أغنية الفيلم بصوت «تيكس ريتير» مع موسيقى توامكين، التي عبَّرت عما يدور في قلب كين من مشاعر تجاه زوجته.
إبهار أداء الشخصيات النسائية
تحتفظ مكتبة الكونغرس بالفيلم كوثيقة تاريخية واجتماعية تعبر عن المجتمع الأمريكي.
منذ قرر صناع أفلام الغرب الأمريكي التراجع عن إلقاء الضوء على السكان الأصليين للقارة والمكسيكيين، وإظهارهم في أدوار الأعداء الأشرار، كان يجب أن يتجهوا ناحية المرأة وسيطرتها الأنثوية على مسار الدراما.
نقابل في «High Noon» فتاتين تملكان كمًّا وفيرًا من الجاذبية والجمال لأغراض درامية بحتة، منها استخدام وجودهما كمَخرج من المأزق الدرامي الذي يلجأ إليه السيناريو عندما يُريد الهروب من شرح مطوَّل لأحداث قصة طويلة، فيكتفي بأن يُشير إلى أنه حدث «من أجل امرأة».
يتزوج كين من إيمي قبل دقائق من بدء أحداث الفيلم، ثم يتلقى البرقية بعد إنهاء مراسم الوعود الزوجية أمام القس. إيمي هي المرأة التي عانت الفقد من قبل، وشاهدت مقتل والدها وشقيقها، وراقبت لحظات احتضارهما الأخيرة، وبلغت من الفقد حد أنها تتخلى عن الوقوف إلى جانب زوجها كي لا تضطر إلى مشاهدته يحتضر أمام عينيها.
تقابل إيمي المكسيكية «هيلين راميرز» (كيتي خورادو) التي سبق أن كانت على علاقة حب مع المارشال كين. تشعر إيمي بالغيرة عند رؤية كين يصعد إلى غرفتها في الفندق، فتسارع إلى طلب لقائها ظنًّا أن هيلين هي سبب بقاء كين في البلدة رغم الخطورة الشديدة على حياته. وفي حوار متحضر بين المرأتين، تشرح هلين لإيمي أنها لا تملك شيئًا حيال الأمر، بل إن إيمي هي من يتحكم في مصير حياتها وزوجها، ليدفع ذلك إيمي إلى الانتظار بجانب كين والتراجع عن رغبتها في الرحيل.
للمرأتين أداء مختلف كاختلاف الليل والنهار، لكنهما تلتقيان في نقطة مصيرية تبرز ذلك الاختلاف، إذ يُقابل هدوء إيمي وبراءتها جبروت هيلين وقوتها، وكذلك ملامح إيمي البريئة وجسدها الرقيق في مقابل ملامح هيلين التي تضج بالأنوثة الشرسة وجسدها الممتلئ. التقت المرأتان في حوار من إبداع الكاتب «كارل فورمان»، الذي نُشِرَت قصته في مجلة «10 نجوم» الأمريكية، واقتبسها المخرج زينمان لصناعة أيقونته السينمائية «ظهيرة مشتعلة».
ظهيرة مشتعلة: الفيلم والتاريخ
صار «High Noon» أحد علامات السينما الأمريكية، وتحتفظ به مكتبة الكونغرس كوثيقة تاريخية واجتماعية تعبر عن المجتمع الأمريكي في تلك الفترة. إنه العمل الذي نال الحُسنيين: واجه عددًا من الظروف السياسية والأخلاقية التي تجعل ظروف إنتاجه تحديًا استثنائيًّا، ولم يؤثر ذلك في قوته الفنية والجمالية، فصار من كلاسيكيات السينما الأمريكية.