يقول الشاعر الأمريكي «روبرت بلاي» (Robert Bly) إن السعادة مبعثها الجسد، أو الروح، أو مصدر ومكان ثالث. أفكر كثيرًا في هذا المصدر الثالث الذي طالما اعتقدت أنه «الحب»، حيث نذهب للقاء من نهواهم حقًّا، بينما يؤمن آخرون أنه «الله» نفسه.
يؤكد «بلاي» أن ما يمنعنا من إيجاد ذلك المكان الثالث هو انشغالنا بأماكننا الحالية أكثر من اللازم، لكنه يزوره بسهولة عندما يقرأ ويترجم الشعر الصوفي؛ وخصوصًا شعر حافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي، لأن حافظ يحدثنا من ذلك المكان، من «الحب» أو من «الله»، بودٍّ بالغ البساطة.
يتخطى أدب الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، الذي عاش خلال القرن الرابع عشر الميلادي، عتبة الجمال الشديد، ليأخذ بيد قارئه ويساعده كصديق. شِعر حافظ يرحِّب ويبتسم ويصفِّر ويطفو، بما يكفي كي يكتب عنه الشاعر الأمريكي «دانيال لادينسكي» (Daniel Ladinsky) لموقع (BBC)؛ يكتب عن كيف يعلِّمنا أن نحيا حيواتنا إلى أقصاها.
«لا يخشى حافظ شيئًا. يرى كل شيء، ويبصر من خلال كل شيء: هو الرجل الوحيد الذي تمنيت أن أراه أو أكونه».
‒ الكاتب الأمريكي «رالف والدو إيمرسون»
قصائد عابرة للزمان والمكان
ألهمت قصائد حافظ الشيرازي طوائف مختلفة من النخبة الأدبية عبر الأمم والأزمنة.
شمس الدين محمد حافظ هو أشهر شُعراء الفُرس، ومعجزة أدبية فريدة في رأي كثيرين، ودُرَّة عين الكاتبَين؛ الأمريكي «رالف إيمرسون» (Ralph Waldo Emerson) (1803-1882)، والألماني «غوته» (1749-1832).
ترجم كلاهما شعر حافظ الشيرازي بعد خمسة قرون من موته، وقال الأول مقولته الشهيرة في مدحه: «كتب حافظ شعرًا يحدِّث به الشعراء»، بينما أعلن «غوته» ببساطة، بعد دراسته المتعمقة لشعره، أنه «ليس كمثلِ حافظ أحد»، وهي بساطة أكد «نيتشه» أنها جمعت بين الشاعر الفارسي ومترجمه ومحِبِّه الألماني.
وغير «نيتشه»، ألهمت قصائد حافظ الشيرازي طوائف مختلفة من النخبة الأدبية عبر الأمم والأزمنة؛ مثل «آرثر كونان دويل» (Arthur Conan Doyle)، الذي اقتبس شعره على لسان شخصيته الأشهر «شيرلوك هولمز»، والشاعر الإسباني «فيديريكو غارسيا لوركا» (Federico Garcia Lorca).
كما تأثر به المؤلف الموسيقي الألماني «يوهان برامز» (Johannes Brahms)، فاستخدم عدة مقاطع من شعره في مؤلفاته الموسيقية، ولجأت ملكة بريطانيا السابقة فيكتوريا إلى كتاباته كمرشد روحي، وهو ما كان عُرفًا امتد لقرون في الشرق الأوسط.
اقرأ أيضًا: فهد العسكر: الشاعر التنويري الذي سبق عصره وحارب التقاليد في زمن مظلم
شِعرٌ لتنقية رُوحك
لفترة طويلة ظل «فال حافظ» تقليدًا يطلب فيه القارئ النصح من روح وحكمة الشاعر الصوفي عندما يواجه صعوبة أو مأزقًا في حياته، وتُعامل فيه كُتبه كما لو كانت تحوي نبوءات، وتُفتح بنيَّة إرشاد الروح إلى طريقها.
ومع أنه صوفي في طبعه، يتخذ شعر حافظ الشيرازي أبعادًا مدهشة دومًا ومحرِّضة أحيانًا:
«أنا ثقب في ناي يمُر من خلاله
نَفَسُ المسيح.. استمع إلى الموسيقى»
ويكتب في قصيدة أخرى:
«انظر كيف تبتسم شفاه الأرض هذا الصباح
رقدت بجانبي ليلة أمس، مجددًا!»
يرى الكاتب أن حافظ يعلمنا القدرة النادرة على «الانتفاع بالنور» أو «الشمس»، وقبلهما «الانتفاع بالفن». الشمس بستاني في حديقتك، والفن حبيبة تقبِّل رأسك. يمُد شِعر حافظ الشيرازي يدًا طيبة تواسي الحائرين وتمنح الحياة لطالبيها.
على الشعر أن يكون عشيقًا: يشعُّ نورًا بذاته ويترك بداخلك شمسًا للأيام الباردة. يُذهِب الفن جوعك وعطشك.
وخلال دراسة حيوات ومؤلفات الشعراء المستبصرين شرقًا وغربًا؛ مثل جلال الدين الرومي، و«ميكيل أنجلو»، و«سانت فرانسيس» (Saint Francis)، و«كابير» (Kabir)، و«ميرا» (Meera) وغيرهم، رأى كاتب المقال الشاعر الأمريكي «دانيال لادينسكي» قاسمًا مدهشًا يجمع بين أعمالهم.
كوَّنت كلمات هؤلاء الفنانين، المختلفين قلبًا وقالبًا، وعلى تبايُن لغاتهم وأزمانهم، رسالة واحدة في جوهرها. يُعد حضور هذه الرسالة مقياسًا صادقًا لنجاح كل قصيدة تُقرأ أو تُدرَّس، وكذلك أي قصيدة تُكتب.
وكما اعتبر «إيمرسون» حافظ مقياسًا أصيلًا لذاته في حياته كلها، يضعه «لادينسكي» نصب عينيه عند معاملة شخص آخر، أو مصادفة حيوان أو نبتة. وكما تنقي قطعة القماش الماء السائر خلالها من شوائبه، يحاول كاتب المقال أن يصبَّ نفسه خلال قصائد حافظ، وخلال خيالاته عن الشاعر نفسه.
وصفة لجعل حياتك أفضل
تُقدم الرسالة التي جسَّدها حافظ، والتي لاحظها الكاتب بعد دراسة أعمال وحيوات المذكورين سابقًا، تعريفًا مهمًّا لمسعى الفن، وضوءًا يجب اتِّباعه: اعشق وامنح.
وتكمن صفة الفن وقيمته العظمى في قدرته على أسر انتباه الآخَر ثم استغلاله. فعندما يأسرنا الجمال، يحصُل الشاهد دومًا، أو الجمهور، على شيء في المقابل. يقول حافظ:
«رفعني وجه الجبل إلى أعلى من الجبل ذاته
ملأتني غمزة في أغنية بالبهجة
وعرفت لحنًا من ترانيم الفردوس
وسط الغابة، التي تتركني أمشي بين أذرعها العارية
جثوت على ركبتيَّ أصرخ في صمت – نعم،
نعم يا صديقتي المقدَّسة، ليبتلعني بهاؤكِ»
يضع الانغماس في شعر معلمٍ حقيقي مثل حافظ داخل ذهنك مكونات دائمة لوصفة تجعل حياتك أفضل، إن أعددتها بتأمل.
إن إرشاد الآخرين لتذوق الحضور أمر جوهري لكسب انتباههم. ولهؤلاء الذين تطاردهم أحداث الماضي أو تخوُّف المستقبل، يمكن للحظة الحاضرة أن تكون هدية، خصوصًا إن كانت هدية يضعها الفن في جيبك بخفة، بضربة فرشاة، أو نص مكتوب، أو منحوتة، أو آلة موسيقية، أو خطوة في رقصة باليه.
الدافع الجوهري وراء كل سطر كتبه حافظ هو أن يُضيء شمعة في قلوبنا.
يساعدنا حافظ الشيرازي لنرِثَ الحاضر الذي هو ملكنا بالفعل، حقٌّ منذ الولادة، ويتحدث عنه بأسلوب مباشر في بعض قصائده؛ ليشرح لك كيف تطالب بحقِّك في اللحظة الحاضرة.
قد يعجبك أيضًا: هل يُغني «فيسبوك» و«تويتر» عن قراءة المتنبي ونجيب محفوظ؟
السماء كما لو كانت نبيذًا
نشر كاتب المقال 700 قصيدة مترجمة عن حافظ الشيرازي في ستة كتب، ويرى أن الدافع الجوهري وراء كل سطر كتبه حافظ هو أن يُضيء شمعة في قلوبنا، وأن يُحيي غريزتنا الدائمة للمرح والضحك والرقص، وأن «يرفع ركنَيْ فمك» خالقًا ابتسامة. يجلب حافظ الخفة في وجه ثِقَل الساعة أو اليوم في الحياة، في وجه ثِقَل الوقت، وكان حُبُّ حافظ شجرة لم يقتلها الوقت.
يساعدنا حافظ لنسامح مَن لم نستطع أن نسامحهم بعد، ونُقدِّر مَن لم نُجِلَّهم بعد. تمسح تلك القوة الهائلة، قوة بصيرته، على روحك وتترك فيك الرغبة (التي تصبح قدرة واعية) بعدم إيذاء أحد مطلقًا بصوت أو بحركة. يُقال إن حافظ في حياته لم يكن قادرًا على الإتيان بفعل غير طيب.
يواجه شعر حافظ الشيرازي الأشياء التي تمنعنا من عيش حياة راضية، يستخدم استعارات فريدة تنسج سحرًا غير معهود، يتوق لأن تقودنا قيمنا العليا إلى مكان يصبح التنفس فيه أسهل قليلًا، حيث يمكننا أن ندع القلق ونقول: «ليست الحياة بهذا السوء. في الواقع، الحياة مدهشة».
يقول حافظ:
«إذا لم تتخلَّ عنك قدماك من نشوة الوقوف أمام حجابٍ يُكشَف
إذا لم تُغنِّ دمعة العرفان وهي تسري من عينك
إذا وجدتَ كُلَّ ما تلمسه راحتك يبوح لك بسرِّه
كلماتي تخفي أسرارًا ذهبية لا يصعب إيجادها،
وستشفي قلبك من مئة خوفٍ وداء»
نجد أن الكثير من قصائده تخاطب تحرير الحواس وتطهير الإرادة، حتى نتذوَّق السماء كما لو كانت نبيذًا، ونحتضن الأشياء التي نحبها، بعقولنا أو بذراعينا، لتصبح بدورها نبيذًا وغذاءً لأرواحنا. وعلى مهل، يفُك حافظ وثاق «أجنحتنا الزمردية».
قد يهمك أيضًا: حكاية مستشار أعمال لبناني ترك وظيفته ليصنع النبيذ المحلي
حكايا المعلِّم
تحضر إلى البال حكايتان يقصُّهما كاتب المقال عن معلِّمه حافظ الشيرازي، وهنا أيضًا تَبِين أبعاد متفاوتة لشخصية حافظ، وتُظهر أولًا، في رأي الكاتب، قدرته المذهلة على ألَّا يكون مملًّا أبدًا، بممارسة رقصته الذهبية: عشق الآخرين ومَنحِهِم.
تقول الحكاية الأولى:
«جاءت امرأة شابة إلى حافظ وسألته:
ما دليل المعرفة بالله؟
حلَّ الهدوء على حافظ، ووقف صامتًا لقرابة دقيقة، وهو ينظر بمودَّة إلى عيني الشابة
ثم قال برفق:
يا عزيزتي، هُم الذين أسقطوا السكين من أيديهم.
العارف بالله هو مَن ترك السكين القاسية التي يُشهرها غيره في وجه ذواتهم الرقيقة،
وفي وجه الآخرين»
ويظهر في الحكاية الثانية حديث عن الشهوة الحسيَّة، وهي جزء من المحرك الإنساني يعتنقه حافظ الشيرازي كليًّا، ويرى الجسد ورغباته مدفعًا، مشاكسًا، إلى الجنة. تقول الحكاية:
«جاء طالب جامعي جاد، ربما جادٌّ أكثر مما يجب، من بلد أخرى
لرؤية حافظ وطلبِ الإذن منه شخصيًّا لترجمة بعض قصائده
في كتاب صغير
وقال لحافظ: ما الصفة الأساسية في قصائدك،
تلك التي يجب أن تحملها ترجماتي
لتكون صادقة وأصيلة؟
وابتسم حافظ، ووضع ذراعه على كتف الرجل
وقال: تريد أن تعرف حقًّا؟
رد الشاب: بالتأكيد.
حسنٌ إذًا، بدأ حافظ الكلام،
ترفع قصائدي ركنَيِ الفم
فم الروح، وفم القلب،
وتؤثر في جميع فتحات ممارسة الحب».
ومثلما كانت الحياة، المدهشة أبدًا، هدية الشمس والأرض ومعجزة عطائهما، يكون الفنان جزءًا من ذلك أحيانًا، وحتى غير الفنان، أيُّ شخص ممتلئ بالشغف خفيف القلب، أو مستعد للموت في سبيل قضية أو قيمة عُليا.
وعلى نهج الطبيعة والفن، قد يكون العقل أيضًا جزءًا من ذات مطلقة، ويعامِل كل الأشياء باحترام.
تمتد لنا يد مقدسة من حكمة حافظ وتعاطفه غير المحدود. تلمسك اليد التي ربما تكون روح حافظ الحاضرة دائمًا، كُليَّة الوجود. يضع شعره أحجارًا في فسيفساء الوعي المستنير، توجِّه عقولنا إلى وعي أعمق بالذات، والقوة، والحرية.
إن عبقرية حافظ الشيرازي المرحة التي تهجم على قارئه تجعل قراءة قصائده أشبه بالوقوف أمام منجم ذهب، أو أمام البدايات الأولى لعلاقة حب تجمع عاشقًا بمعشوقته، وتضم كل من يحمل رسالة حافظ قريبًا من قلبه.