بدأت حركة الرسومات الجدارية أو ما يسمى بفن الشوارع (غرافيتي) بسرعة كبيرة في جميع مدن العالم، ومنها نيويورك، وذلك بظهورها على المباني والأرصفة والأنفاق والحافلات وعربات المترو وغيرها. وكان من أبرز أماكن فن الشوارع في نيويورك منطقة فايف بوينتس، التي تضم مساحة جدارية واقعة في 45-46 شارع ديفيز في لونغ آيلاند سيتي.
بحسب ما يذكره المحرر القانوني آلان فيور في مقاله بصحيفة نيويورك تايمز، فإن منطقة فايف بوينتس كانت تعد وجهة سياحية رائعة على مدار 20 عامًا، والتي لم تجتذب الآلاف من الزوار فقط، بل ساعدت على تحويل لونغ آيلاند سيتي إلى حي سكني مزدهر، أصبح في النهاية «أكبر متحف في العالم في الهواء الطلق»، كما يعبر المحامي إريك بوم. ولكن وجود هذا الفن كان يعتمد على مالك العقار السيد والكوف، فكتبت الكاتبة الأمريكية إيلين كينسيلا في مقالها بصحيفة نيوز آرت حول ما حدث في فايف بوينتس وتأثيره على كل فناني الجداريات.
قضية مجمع فايف بوينتس وتأثيرها على الفنانين
رفع عدد من الفنانين دعوى قضائية ضد مجمع فايف بوينتس المملوك للسيد والكوف بعد إفساده لأعمالهم، مطالبين بحقوقهم بالتعويضات المالية للرسومات التي أفسدت، مستندين بذلك إلى قانون الفنون المرئية والمسمى «فارا». وبحسب ما ذكره آلان فيور، صارت مسألة تحديد الاعتراف بمكانة هذه الرسومات الجدارية في يد المحكمة، الأمر الذي شغل أكثر من 20 فنانًا وقتها.
تساءلت كينسيلا في مقالها: هل من الممكن أن تكون الرسومات على الجدران بذات أهمية الفنون التشكيلية الأخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يتحمل مالك العقار مسؤولية الحفاظ على هذه الرسومات أو حمايتها؟
وذكرت أن هذه الأسئلة هي الأساس التي بُنيت عليه الدعوى القضائية، والتي تنازع فيها 20 فنانًا ضد المطور العقاري لفايف بوينتس حول مصير هذه البناية.
القضية الأولى من نوعها
تذكر كينسيلا في مقالها أن القضية أثارت اهتمام عدد كبير من الفنانين، إذ تكدس أكثر من 10 فنانين في قاعة المحكمة الفيدرالية من أجل مشاهدة مرافعة المحامين، لمعرفة ما إذا كان هدم الجدران التي تحمل رسوماتهم يمثل انتهاكًا لحقوقهم أم لا. وترى أنه من المتوقع أن تنظر القضية في مسائل وأسئلة جديدة لم تطرح سابقًا، بما في ذلك رفع مكانة فن الشوارع، ودوره في التحسين.
«لقد ارتقى فن الشارع من ناحية أهميته وشعبيته بين الناس»، هذا ما قاله المحامي باري ويربين لصحيفة نيوز آرت، وأضاف: «هذه المسائل لم تُطرح أو تناقش مسبقًا، السبب الذي جعل هذه القضية رائعة للغاية. القاضي يبدو متفقًا مع ذلك، إذ قال في ختام المرافعة لهيئة المحلفين إنهم "محظوظون" لمشاركتهم في مثل هذه القضية غير الاعتيادية».
تثير هذه الدعوى في جوهرها، كما تشير كينسيلا في مقالها، قدرة الفنانين على حماية وحفظ أعمالهم ضد سلطة مطوري العقار مِن فعل ما يحلو لهم بممتلكاتهم الخاصة. وقد بدأ هذا المسار التصادمي في عام 1993، عندما أعطى مالك العقار جيري والكوف الفنانين الحق في ملكيته، ثم أفسدها بعد ذلك.
هل للفنانين الحق والحماية والحفاظ على رسوماتهم الجدارية؟
توضح كينسيلا أن الفكرة التي تقول إن مطور العقار سيتعاون مع فناني الجدران بدلًا من السعي لإبعادهم لم تكن معروفة في ذلك الوقت. وقد أصبح مجمع فايف بوينتس أيقونة فن الشوارع لفترة من الزمن.
لكن والكوف هدم المبنى من أجل إفساح المجال أمام الوحدات السكنية في عام 2013، إذ عمد إلى تبييض الجدران المرسومة في منتصف الليل، ثم ادعى أنه اتخذ هذا الإجراء في ذاك الوقت لأن مشاهدة الفنانين لأعمالهم تُزال ببطء على مدى عدة أشهر سيكون تعذيبًا لهم. أدى هذا إلى رد فعل عنيف من قبل الفنانين، الذين وصفتهم كينسيلا بأنهم لم يصدقوا فعلته وغضبوا على ذلك، مما أدى إلى رفعهم لهذه الدعوى القضائية، بحجة أن أعمالهم محمية بموجب أحكام حقوق التأليف والنشر المنصوص عليها في قانون الفنون المرئية الصادر سنة 1999، والمعروف باسم فارا.
من النادر أن يرفع الفنانون دعوى قضائية لحماية عملهم من التشويه أو الإفساد أو التعديل، بالإضافة إلى حقهم في بعض الظروف في منع تدمير المبنى الذي يحمل أعمالهم. تقول كينسيلا إنه من النادر جدًا أن تحال مثل هذه القضايا التي يحكمها قانون فارا إلى المحكمة، فمعظمها ينتهي بالتسوية أو الرفض. وبالتالي فإن محاكمة فايف بوينتس تعتبر أول قضية فارا تبت فيها هيئة المحلفين، بدلًا من قاض فرد لديه خبرة في قضايا حقوق التأليف والنشر.
للرسومات الجدارية مكانة معترف بها قانونًا
ركزت جهود المدعين في المحاكمة بشدة على إثبات أهمية أعمال الفنانين، فركز المحامي إريك بوم أثناء المحاكمة، وبالاستعانة بوجود العدد الكبير من الفنانين للإدلاء بشهاداتهم، على الوقت والجهد اللذين يبذلهما الفنان لتنفيذ الرسم الجداري، بالإضافة إلى تأثير فايف بوينتس على سمعتهم، وعلى الأضرار الناتجة جراء تبييض الجدران المرسومة.
ومن جهة أخرى، سعى محامي الدفاع ديفيد إيبرت إلى إنكار الفكرة القائمة على أن التدمير الذي حدث في فايف بوينتس له تأثير سلبي على الفنانين، من حيث أنه طلب منهم تقديم مقارنة المبيعات، وتساءل عما إذا كان من الممكن فصل هذا العمل وبيعه. كما أشار إلى أن فناني فايف بوينتس اعتادوا الرسم فوق أعمال بعضهم البعض هناك. وذكر في بيانه الافتتاحي في المحكمة أن الفنانين دمروا رسوماتهم أكثر من السيد والكوف، وأضاف أن نحو 11 ألف لوحة جدارية أتت وذهبت خلال العقد الماضي تقريبًا.
لا يمكن لهيئة المحلفين المكونة من سبعة أشخاص إعادة فايف بوينتس مرة أخرى، ولكن سيكون لهم القرار في ما إذا كان للفنانين الحق في الأجر مقابل أعمالهم.
من الجوانب الرئيسية في القضية، والتي لم يناقشها الفنانون أو يتجادلوا حولها، أن والكوف أوضح بشكل دائم أن فايف بوينتس لن تظل باقية، وأن الفنانين نفذوا أعمالهم الفنية مع معرفتهم الكاملة بأنها لن تبقى للأبد.
أول ما قاله المحامي بوم مخاطبًا هيئة المحلفين كان إن «هذه القضية تتعلق باحترام ممتلكات الناس»، لكن محامي الدفاع حوَّر هذه الفكرة قائلًا: «لم يكن هناك الكثير من الحديث عن ممتلكات السيد والكوف».
بعد سماع شهادات نحو 20 فنانًا من المدعين في القضية، قرر المحامون اللجوء إلى خبراء ومؤرخي الفن لمحاولة تحديد ما إذا كانت جدران فايف بوينتس تتمتع بمكانة معترف بها. وفي النهاية، لا يمكن لهيئة المحلفين المكونة من سبعة أشخاص إعادة فايف بوينتس مرة أخرى، ولكن سيكون لهم القرار في ما إذا كان للفنانين الحق في الأجر مقابل أعمالهم. وقد وجدت الهيئة أن إفساد الرسومات في فايف بوينتس عمل غير قانوني، بحسب ما يذكره آلان فيور في مقالته.
انتهت المحاكمة رغم طبيعة الفن العابرة، فقد رأت هيئة المحلفين أن أحد مطوري العقارات في مدينة نيويورك انتهك القانون عندما أفسد مجمع فايف بوينتس. وقد أعلن السيد بوم النصر بقوله إن «هيئة المحلفين انحازت بقوة لحقوق الفنانين، وهذه رسالة واضحة للناس بأن تبييض المباني من قبل مُلاكها يعد عملًا تخريبيًا واضحًا ومتعمدًا».