تنحني «دينيرس» وتلتقف وجه «جورا» مستشارها المخلص بين يديها بكل حنو، مدركةً أن لحظة الوداع قد حانت، فتبكي الصديق والأب والرجل الوحيد الذي كان محرابها لتعتكف فيه وتبحث عن الأمان.
تسري في جسدي قشعريرة يتقافز لها شعر عنقي، وأسمع دوي ألعاب نارية تتفجر في رأسي. وصف مبالغ؟ ربما، ولكن عندما نكتب عن مسلسل «لعبة العروش»، الذي لا أتحرج أن أسميه ظاهرة، يجب أن نخلع نعلي الحذر والحيادية ونترك المتوقع والمألوف جانبًا.
الخيال البشري اللاواعي
منذ فجر التاريخ والإنسان الراوي ينسج خيوط روايته بأسلوب سردي متكرر النمط والرؤية، منظومة قصصية تقاذفتها أمواج التاريخ جيلًا بعد جيل، خرجت لنا بكل ما لذ وطاب من الأساطير السمينة بالكائنات السحرية والآلهة المزاجية، كالصراع الدائم بين الإلهة الأم هيرا وهرقل النصف بشري، وحكاية الخلق كما في الميثولوجيا السومرية القديمة، أو رحلة التيه التي عاشها أوديسيوس الملك الإغريقي بعيدًا عن جزيرته بسبب غضب الإله بوسايدون عليه، وغيرها الكثير من المناوشات التي تعبث بحياة الإنسان البائس، الذي يحاول بدوره بكل حمق أن يقف جنبًا لجنب أو يتحدى في بعض الأحيان كمال الصورة الإلهية.
في منتصف القرن العشرين، قدم لنا كارل يونغ، عالم النفس السويسري وأحد مؤسسي علم النفس التحليلي، وجوزيف كامبل، الميثولوجي والكاتب الأمريكي، تحليلات لعديد من الحكايات والأساطير التاريخية التي حملت تشابهات كثيرة في الأفكار والهياكل السردية والرمزية، بالرغم من اختلاف مصادرها ثقافيًا وابتعادها جغرافيًا عن بعضها بعضًا. أطلق يونغ وكامبل على هذا اسم الخيال البشري الجمعي اللاواعي، وهو ما يمكن وصفه بأنه الأرشيف الثقافي النفسي غير الملموس الذي تتشاركه مجتمعات العالم.
رجح العالمان أن الخيال البشري اللاواعي هو المسؤول عن إيجاد هذه التشابهات الجوهرية في العديد من الحكايات والأساطير. في كتابه «البطل بألف وجه»، يحدد جوزيف كامبل أن الرمزيات والصور الفكرية في الأساطير لا يُتحكم بها وفق القواعد المجتمعية العامة، ولا حتى اختراعها لتناسب قيم زمان أو مكان معين، بل تنشأ لحظيًا وتمتد جذورها في عمق النفس الإنسانية، تلك النفس التي تتجسد مخاوفها ومطامعها وأهواؤها على هيئة حكايات وقصص تحاول بشكل أو بآخر أن تترجم العالم من حولها وتبحث عن تفاسير لما يستعصي عليها فهمه.
وبالإضافة لمحاولات النفس الإنسانية لاستيعاب كينونتها، كان من الضروري تقديم نموذج قادر على حمل هذه المعاني السامية والجليلة التي تنبع من أعماق اللاوعي وتتمازج مع الحياة الواعية الحسية، فقدمت لنا الأساطير شخصية البطل الذي يمثل التجسيد الفيزيائي لهذه المعاني الروحية والأخلاقية. لكن يبدو أن هذه النفس البشرية المستميتة للوصول للكمال لم تتمكن إلا من خلق نموذج مبالغ فيه أيضًا ويصعب النظر إليه بحيادية.
الذات الخالدة
في كتابه «الديانة السومرية»، يشير الدكتور خزعل الماجدي إلى أنه «لكي تتميز الآلهة عن الإنسان (رغم أوجه التشابه الكثيرة) كان لا بد من اللجوء إلى فكرة الخلود التي أصبحت صفة الآلهة، وفكرة الموت الحتمي التي أصبحت صفة الإنسان». ولإدراك النفس البشرية قصورها وحتمية نهايتها بالرغم من رغبتها في التشبه بالإله الأبدي، تخلت عن فكرة الخلود الحسي لصالح فكرة الخلود الفكري، الذي سطر أسماء العديد من الأبطال والشجعان في الذاكرة الجمعية البشرية.
يصف كامبل في السياق ذاته شخصية البطل بأنه «إنسان ميت في الحاضر، وأما كإنسان الأبدية هو إنسان كلي أصبح كاملًا وغير معني بالجزئيات، فقد ولد من جديد». يشير صراحةً إلى الطريقة، المشوهة في رأيي، التي أنتجت شخصية بطولية يصعب على عوام الناس التمازج معها لمثاليتها المفرطة.
تعمد جورج مارتن وضع جون سنو في الرواية ليكسب تعاطف المشاهدين، فيكون البطل الذي تعود عليه الجمهور وحلقة وصل بدلًا من أن يقصيه بشكل نهائي مثله مثل أغلب الشخصيات.
كل هذه الإسقاطات الثقيلة كانت مسؤولة عن خلق قصص أحادية السياق والطرح، تتبع نموذجًا قصصيًا تقليديًا، فقد كان نمط أغلب الروايات يعتمد على نموذج سردي واحد مهما اختلفت أداة العرض بصريًا. فالرواية تبدأ ببيئة يوتوبية فاضلة، تتعرض للتخريب الذي عادةً ما يكون بسبب قوى شر خارجية مُقصاة عمدًا عن هذا العالم المسالم، وكأن الشر عنصر هجين غير أصيل في الحياة الطبيعية. يتبعها استنفار من قوى الخير، ومحاولات تهدف لإعادة التوازن، ما يخلق لنا حبكة أو عقدة يدور محور الرواية حولها، ما تلبث أن تنتهي بانتصار الخير وانهزام الشر.
كما ذكرنا سابقًا، لم يخرج البطل من قالبه الذي أشار إليه كامبل. ولنأخذ شخصية «جون سنو» مثالًا، وهو الذي في اعتقادي قد تعمد جورج مارتن وضعه في الرواية ليكسب تعاطف المشاهدين، فيكون البطل الذي تعود عليه الجمهور وحلقة وصل بدلًا من أن يقصيه بشكل نهائي مثله مثل أغلب الشخصيات. هناك أيضًا شخصيات مارفل، مثل كابتن أميركا أو الرجل العنكبوت، أو مجموعة أفلام DC مثل الرجل الخارق أو الرجل الوطواط، أو غيرهم العديد من الأبطال الذين يُعرضون بصيغتهم الذكورية الخيرة المبالغ فيها، رغم وجود بعض الاستثناءات الجندرية، كما نرى أن البطل لا يتهاون لحظة في تقديم نفسه قربانًا في سبيل إنقاذ غيره، بدون لحظات شك أو حتى رفض للمغامرة بأكملها، فيتحدى الصعاب بطريقة تكاد تكون انتحارية.
يتدخل الراوي هنا فيدير دفة الحكاية بطريقة ملتوية تضمن تخدير الجمهور بجرعات من المثالية المفرطة، التي تشل الوجدان فترسم لنا صورة كائن يكاد يكون سماويًا خاليًا من الازدواجية البشرية، فيُنَّصب قدوةً وبطلًا على الوعي البشري، الذي ما زال عبثًا يصارع كي يرتقي بإنسانيته مطاردًا وهم الخلود الإلهي.
بعيدًا عن التعميم، تكفي الباحث أو القارئ دراسة سريعة في محتوى الروايات والأفلام من حيث صياغة الهيكل السردي، بغض النظر عن مكان نشأتها، ليجد أن العديد من الكتاب والرواة قد انتهجوا هذا المسلك السهل نسبيًا في تقديم قصص متوقعة المحتوى والنهاية، فأغلب الروايات سعيدة وكل الأبطال يعيشون بسلام للأبد، ولا ننسى أن الخير قسرًا في هذه الروايات هو المنتصر الأول.
لكن ما تعمد هؤلاء نسيانه أن الحياة الواقعية بعيدة كل البعد عما يكتبون عنه، وأن المثاليات والأخلاقيات الفلسفية العالية التي تناقلتها الأجيال في هذه الأساطير أفسدت الفرصة في خلق مقاربة سردية وعالم متخيل يستطيع القارئ أو المشاهد الانتماء إليه والتآلف معه، وهذا برأيي ما تمكن جورج آر. آر. مارتن من الانتباه إليه.
لعبة العروش والتجديد السردي
«لعبة العروش» رواية لم نُفلح كجمهور في التنبؤ بما سيحدث فيها، وهذا ما استفز فينا روح الفضول، فقد أدركنا منذ البداية أن كل شيء مباح. نرى أن الكاتب، بمساعدة مجموعة الكُتاب اللاحقين، لم يتشبث بشخصياته بحميمية، وهذه قد تكون حالة نفسية يفهمها بعض الكتاب، ففي مقابلة مع الكاتبة العمانية جوخة الحارثي، الحائزة على جائزة مان بوكر لعام 2019 عن روايتها «سيدات القمر»، تذكر أنه «يجب في لحظة معينة أن أمتلك الشجاعة وأقول: سأتخلى عن هذه الرواية، وإلا فإنها لن تنتهِ، لأنني أظل أفكر فيها وفي شخصياتها وأحداثها».
هذا ما تميز به مارتن، فخلق بلامبالاة متفننة أبطالًا على قدر كبير من الازدواجية في معايير الخير والشر، التي لم نعهدها عندما نفكر في البطل الأوحد، فأربكونا ولم نتمكن من تحديد علاقتنا بهم، أنحبهم لأنهم يشبهوننا في خوفهم من المجهول وجهلهم بما سيأتي وسذاجة أحلامهم، أم نكرههم لأنهم لا يقدمون لنا مُثلًا وأخلاقيات عليا، فنراهم يكذبون ويقتلون وينتهكون أعراضًا وينسفون ما نشأنا عليه من فهمنا الضيق لفكرة البطل؟
شوهت الحكايات التقليدية في اعتقادي فهمنا لكينونة البطل وفصلته عن واقعنا، فأصبحنا لا نملك القدرة على التماهي مع ما نقرأه من روايات ونراه أدبًا نخبويًا فقط. بعض الأمثلة على ذلك: البطل العربي العظيم عنترة، المغوار الذي يلجمه حبه لإبنة عمه وولائه لقبيلته وأعرافها من التصدي لكمية التنمر والعنف التي تعرض لها من والده وأبناء عمومته، فيقابل هجومهم واتهاماتهم لوالدته بالعهر والنجاسة بصمت الراهب العابد الذي يحني رأسه احترامًا وحبًا، ولكنه يستميت في الدفاع عنهم في غزواتهم وحروبهم. يقول في إحدى قصائده:
سكتُّ فَغَرَّ أعْدَائي السُّكوتُ وَظنُّوني لأَهلي قَدْ نسِيتُ
وكيفَ أنامُ عنْ ساداتِ قومٍ أنا في فَضْلِ نِعْمتِهمْ رُبيت
وإنْ دارْتْ بِهِمْ خَيْلُ الأَعادي ونَادوني أجَبْتُ متى دُعِيتُ
وهاهو شهيد الوطن إبراهيم حمدي، بطل رواية «في بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس، يترك خلفه والدته وحبيبته ويضحي بنفسه لأجل فكرة الوطن العظيم، ونراه شامخًا بكل يقين البطل الذي نعرفه، لا تهزه رياح الشك أو الخوف، وتتلاشى الأنا الفردية في سبيل ديمومة الجمع الأكبر.
وأخيرًا البطل المسكين حنا يعقوب، الذي تمزقت قلوبنا لمعاناته وتشرده الذي دام ما يزيد عن عشر سنوات في بلاد بلغراد، تاركًا بقسر وبحسرة زوجته وطفلته في بيروت يتحرون عودته الملحمية في رواية «دروز بلغراد» لربيع جابر، الذي تمكن بكل روعة من رسم شخصية مسالمة خيرة تكاد أن ترتقي لدرجة القداسة.
تلاشى وهج الشخصيات في لعبة العروش شيئًا فشيئًا، وأصبحت الحكاية بجوهرها المثير هي الأساس.
كُتاب كُثر وحكايات من التاريخ الإنساني أسهموا وأسهمت في خلق أبطال ملائكة على هيئة بشر، ولعله الحل الأسهل لكسب تعاطف الجمهور والقراء. لكن في اعتقادي، ما جذبنا كل هذه السنوات وجعلنا ندمن رواية ومسلسل «لعبة العروش» هو أن الأبطال مثلنا لا يعرفون ماذا سيفعلون بعد آخر معركة، ولا يستطيعون التنبؤ بمن سيكون الصديق الوفي ومن سيغرز خنجره في ظهورهم. هذه شخصيات أظهرت غضبها ووجعها وانكسارها بكل واقعية، ولم تتهرب من وجع الحياة، وتمكنت من مواجهة شياطينها، وتخلت عن تقوى الأنبياء المزيفة. لقد رأينا الذات البشرية بعنصري الخير والشر معًا، يتجليان جنبًا إلى جنب في نفس واحدة، فألفناها لأنها كالمرآة التي رأينا أنفسنا فيها.
جمع مارتن تشعبات روايته بصمغ الأحداث لا الشخصيات، وجدنا أنفسنا نضيع في تفاصيل عالمه، في تاريخه وعقائد قبائله وتنوع الثقافات التي خُلقت في هذه الرواية. فُتنا بالأجناس الغريبة والكائنات السحرية، فتلاشى وهج الشخصيات شيئًا فشيئًا، وأصبحت الحكاية بجوهرها المثير هي الأساس.
عودة البطل
في مكان ما في سلسلة التاريخ، فقدت القصة دورها الذي قدمه لنا يونغ آنفًا، لم تعد تحاول أن تلعب دورًا ساميًا في إصلاح الذات البشرية وسبر أغوارها، بل خلقت لنا نموذجًا مشوهًا، إذ إنها بالغت في نزع الإنسان من إنسانيته، وحاولت قهرًا أن تحوله لكائن جديد، أن تحوله لذات سماوية لا تمت لذاته البشرية بأي قرابة.
في سبيل أن نقترب من فكرة الألوهية المطلقة، تجاهلنا إنسانيتنا وراكمنا صفات الخير فينا، في سبيل تجريدنا من صفات الشر، فلم تعد هناك منطقة رمادية: إما آلهة أو وحوش كاسرة، واضمحلت إنسانية هذا المخلوق المشوه في المقابل.
لم يحاول مارتن بالتأكيد أن يرفع الذات الإنسانية لمصاف الآلهة الخالدة، فنرى شخصياته تتصرف على النقيض من فكرة الإله الحكيم المليء بالمحبة ومنبع القيم الخيرة.
أعاد مارتن الإنسان الجائع للمغامرة، لحلقة التحدي بينه وبين الآلهة، ولكن هذه المرة أعاده للمنافسة كإنسان، إذ إنه تمكن من تحرير شخصياته من عبودية الخير وجعلها تعانق ازدواجيتها المتجذرة فيها، فلم يعد يهم أن نتحدى الآلهة في الخلود كما فعل أوديسيوس وهرقل وجيسون في الميثولوجيا اليونانية، بل يكفي أن تقبل الشخصيات هذه شرها لتفتننا، لنقترب منها ونخلق نموذجًا بشريًا روائيًا جديدًا، مكونًا بذلك قدرًا متفردًا يشابه الواقع في صعوبة تكهن توقعاته.
قرأنا ورأينا في كتب «لعبة العروش» وفي المسلسل التلفزيوني كيف أن أتفه الأسباب كفيلة بقلب عوالم الشخصيات، وكيف أن هذه الشخصيات تتماهى بسلاسة مع الخصائص الإنسانية التي نمتلكها جميعًا، وللمرة الأولى تقبلنا فكرة أن الشر قد ينتصر، وأن الخير قد لا يتمكن بالضرورة من رفع رايته عاليًا، وأن صلاح العالم قد لا يأتي بالضرورة بمساعدة يد خيرة.
تعاطفنا مع فكرة أن الخير والشر متأصلان ولا ينفصلان بداخل النفس البشرية، وأن نزعة الشر قد تكون في بعض الأحيان ضرورية لاستمرار الحكاية، مثلها مثل نزعة الخير والرغبة في الصلاح. والمدهش أيضًا أن الكاتب تمكن من تقديم مفاهيم وأفكار تشمئز منها النفس السوية بطريقة وجدنا فيها أنفسنا نبرر للشخصيات سلوكياتهم المنحرفة، منجرفين معهم في نفس درب الانحلال الأخلاقي المريض الذي يرتعون فيه.
لم يأتِ جورج آر.آر. مارتن بالجديد، فما زال جوهر كتاباته يتبع نفس النمط السردي المعروف، لكنه لم يتقيد بالتقاليد الروائية ولا بأخلاقيات شخصية البطل، ولم يحاول أن يقدم قيمًا تربوية سامية يُسقطها من برج عاجي على الجمهور. ألقى مارتن قشرة الموز على الطريق، ووقف يراقب الحكاية تروي نفسها بعيدًا عن المثاليات. لم يقيد شخصياته بما يجب أن يكونوا عليه، بل ترك المجال لهم ليكتشفوا أنفسهم وسرائرهم معنا، فنندهش لدهشتهم، ونبكي لوجعهم، وتقشعر أبداننا لقراراتهم وردود أفعالهم التي سمَّرتنا ما يقارب العشر سنوات أمام الشاشة، لتقدم لنا نموذجاً جريئًا وحديثًا للأسطورة المعاصرة.