يتقاذفون الجرحَ بين الوتر والوتر، يهوِّنون حجم الهمِّ في أضلعهم بين كل ضربة إيقاع وضغطة مفتاح موسيقي، تنقلهم الاهتزازات الصوتية بين عوالم شتى، يتسللون بانسياب في حبها، ينفثون الهمّ بالتتابع في آلات صنعوها أو اشتروها بإمكانيات بسيطة.
أطفالٌ فلسطينيون يعيشون في قطاع غزة، خلقوا ظاهرة ثقافية بإقبالهم الكبير، خصوصًا الإناث، على تعلم الموسيقى بأنواعها رغم الفقر والوضع الاقتصادي المتردي، ورغم الحصار المشدد على القطاع منذ سنوات، ورغم حكومة حماس «المُحافظة»، التي تسعى إلى تنميط الإناث وحصرهن في أدوار تقليدية.
إقبال الأطفال يزداد، رغم أن قطاع غزة لا يضم سوى أربعة مؤسسات متواضعة ومعهدًا واحدًا لتعليم الموسيقى والغناء، على يد فنانين وفنانات غزّيين قلائل، يمارس معظمهم ذلك العمل مجانًا، ويتجه بعض الأطفال بمساعدة عائلاتهم إلى تعلم الموسيقى «أون لاين» على يوتيوب.
ليس القطاع فقط: الموسيقى محاصرة
إسماعيل داوود، مدير فرع معهد «إدوارد سعيد» للموسيقى في غزة، يوضح أن «الآلة الموسيقية محاصرة بسبب إغلاق المعابر، وبالكاد نستطيع استيراد بعض الآلات. يقل عددها في المعهد، لكننا رغم ذلك لا نزال نستقبل الأطفال ذكورًا وإناثًا».
يستقبل المعهد الأطفال من عمر (سبعة سنوات إلى 16 عامًا، ووصل عددهم في 2017 إلى نحو مئتي طالبة وطالب.
تشجيع الأهل ساعد الفتاة رزان القصان التي تتعلم العزف على التشيلو، وكذلك تخفيضات الرسوم في المعهد.
تصل رسوم تعلم الموسيقى في معهد إدوارد سعيد إلى ألف شيكل سنويًّا (نحو 300 دولار أمريكي)، وهذه رسوم مخفضة لغزة استثناءً بسبب الوضع الاقتصادي، أنا الرسوم الكاملة فتبلغ 4200 شيكل (1235 دولارًا)، بحسب داوود.
يشرح مدير المعهد لـ«منشور» أن هناك قسمًا خاصًّا للمِنَح، يغطي ما بين 30% و100% من رسوم الدراسة، بناءً على تقرير لجنة خاصة تنظر في طلبات المنح، لها معايير أهمها موهبة الطالب ودخل الأسرة وعدد أفرادها.
روزانة المدهون (11 عامًا) تتدرب على عزف آلات مختلفة منذ أربع سنوات في المعهد. ورغم وضع أسرتها الجيد، فإنهم عانوا من ضغط مادي بسبب الأوضاع الصعبة في القطاع، لكن «ما دفعني للاستمرار نظام التسهيل في المعهد وتقسيط الرسوم على دفعات. الموسيقى بالنسبة لي شيء أساسي لتفريغ طاقتي السلبية بعد ساعات دوام مدرسي طويلة».
روزانة تحب الموسيقى العربية، وتحاول بعزفها العودة إلى أصول الفن العربي بعيدًا عن «الصخب المنبعث من كثير من الأغنيات والألحان الجديدة».
أما رزان القصان (11عامًا) فتتعلم العزف على آلة التشيلو منذ عامين في المعهد، وهي الأخرى ساعدها تخفيض الرسوم على الاستمرار: «حلمي الاحتراف، والموسيقى لها دور إيجابي في زيادة تحصيلي الدراسي».
بعض تلاميذ معهد «إدوارد سعيد» قدموا أداءً جيدًا في المسابقات المحلية والعربية، مثل مشاركة الطفل محمود كحيل مع أربعة من زملائه في برنامج «Arab Got Talent».
خلال الحرب على غزة عام 2009، تعرض المعهد لقصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي التي كانت تستهدف مسرح «الهلال الأحمر» المجاور. وبعد انتهاء القصف، خرج أطفال المعهد ومعهم آلاتهم التي احترق بعضها، وعزفوا الألحان فوق الركام، ولا يزال المعهد يحتفظ ببقايا من تلك الآلات المحترقة.
الفنان التشكيلي ووكيل وزارة الثقافة في حكومة التوافق الوطني، فايز السرساوي، أكد أن الإقبال على تعلم الموسيقى في غزة بدأ يأخذ منحًى أكثر جديةً ووضوحًا، خصوصًا منذ تأسيس معهد «إدوارد سعيد» عام 1993.
اقرأ أيضًا: «تاني والنبي يا ست ده أنا جايلك من طنطا»: عن تفاعلنا مع الموسيقى
غزة: حياة ملونة بالإيقاع
يجب أن لا تتوقف نغمات الموسيقى في غزة بسبب الحصار أو الفقر أو الحرب، فهي ما يلوِّن الحياة لدى الصغار.
الفنان والملحن مسعود الدريملي، الذي أسس استوديو متواضعًا داخل بيته، يحكي أن «هناك لهفة لدى الأطفال، لا سيما الفتيات، الذين يتوافدون إلى بيتي لتعلم الموسيقى، ومحاولتهم إجادة أداء بعض الأغنيات الوطنية المشهورة. الجميل أن أغلبهم يتجه إلى الموسيقى الطربية الأصيلة، ويحبون التراث الفلكلوري الفلسطيني، وهو ما يزيد في إنعاش هذا اللون، مقابل طغيان اللون الغربي الصاخب».
يلاحظ الدريملي كيف يتحسس الأطفال ظهر العود بأكفِّهم، ويُدخلون أناملهم الصغيرة خلسةً بين أوتار الغيتار المشدودة، فيما تدور أعينهم في المكان بحثًا عن الريشة، لكن «يؤلمني ضيق المكان والوقت، لا يمكنني استيعابهم كلهم، رغم أنهم في أمَسّ الحاجة إلى تبني مواهبهم، التي يمكن أن تكون صوت فلسطين عالميًّا. يجب أن لا تتوقف نغمات الموسيقى في غزة بسبب الحصار أو الفقر أو الحرب، فهي ما يلوِّن الحياة لدى الصغار».
رزان طليب، ابنة الخمسة عشر عامًا، واحدة من الفتيات اللاتي يتعلمن عزف الغيتار مع الدريملي، تحكي لـ«منشور» أنها تفضِّل العزف إلى جوار نبتة «الألوفيرا» التي زرعتها داخل إصيص صغير في شرفة منزلها: «أشعر أن عزفي يزيد نموها أكثر من الماء. أنا وهي والجيتار ننمو معًا مع الألحان. لا أخشى صوت الصاروخ بقدر خشيتي أن يسكن صوت الموسيقى في غزة بسبب الحصار والفقر والتهديد الدائم بالحرب».
والدة رزان أكدت أن ابنتها كانت لا تَمَلُّ من الإلحاح في طلبها أن يعلمها خالها العزف على الغيتار، فيما كانت هي غير متشجعة خشية أن يؤثر تعلم الموسيقى في تحصيلها الدراسي، خصوصًا أنها متفوقة، لكن ما اكتشفته أن دراستها لم تتأثر سلبًا، بل زادت سرعة فهمها وصبرها على بعض المسائل الحسابية المعقدة».
لا نتعلم، أو نتعلم «on line»
هديل وتوأمها حسن يُكملان بعضهما، هي تغني وهو يعزف الأورغ، ويستمتعان بإحداث «ضجيج جميل في البيت».
محمد، الذي لم يتجاوز أحد عشر عامًا ويقطن في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يحكي أن أباه كان يشجع أمه، وهو بعدُ لا يزال جنينًا في بطنها، على سماع الموسيقى الكلاسيكية، لأنه «هلّأ مِتل ما بتسمعي هو بِسمع، ويمكن بيرقص كمان».
يبتسم متابعًا حديثه لـ«منشور»: «بدأتُ أتعلم الموسيقى في المنزل، علمني أبي العزف على عود قديم لديه، وبدأت ببعض المقطوعات البسيطة ودندنة أغنيات طربية قديمة لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب، ثم عزفت مقطوعاتي الخاصة، التي أعجبت كل من كان يسمعها».
يكمل محمد بشيء من الحزن: «أبي يدرك جيدًا أن موهبتي ومهاراتي في العزف على العود تحتاج إلى تدريب متواصل في مدرسة متخصصة، لكن الوضع المادي الصعب يمنع أن تكون الموسيقى أولوية في حياتنا كأسرة محتاجة. ورغم ذلك، فالعود لا يفارقني، وحلمي بأن أصير أحد أشهر عازفي العود في العالم العربي حتمًا سيتحقق».
والد محمد يؤكد أن ثَمّة طاقة غريبة يمنحها العزف لابنه، يتبدل به الحال، يصبح أكثر سعادةً وصفاء ذهن، حتى أنه يعزف في الصباح قبل الذهاب إلى الدراسة غالبًا. يستخدم الأب الموسيقى حين يحدث قصف من طائرات الاحتلال، يعزف فيلتف أطفاله حوله، يحاول تهدئة روعهم وتحسين مزاجهم.
أما هديل وتوأمها حسن فيكملان بعضهما في الفن، فهي تغني وهو يعزف الأورغ، ويستمتعان بإحداث «ضجيج جميل في البيت»، بحسب ما يؤكدان.
وفر التوأمان على والدهما تكاليف التدريب والمواصلات عن طريق التعلم «أون لاين»، إذ يفهمان وزن المقطوعة الإيقاعي والنوتات والمقامات الموسيقية المستخدمة في الأغنية عن طريق مقاطع فيديو على يوتيوب.
اقرأ أيضًا: صغير السن، يعزف الطبلة، يرقص التنورة: قابلوا الطفل آدم مصطفى
أطفال غزة يعزفون الصبر
«أثّر الكورال إيجابًا في تحصيلي الدراسي، وكذلك في نفسيتي وتطوُّر شخصيتي».
عرب محمد، مديرة مؤسسة «السنونو» للثقافة والتراث والفنون، التي تستقبل المواهب بين ستة و50 عامًا، شرحت لـ«منشور» أن «الهدف من التدريبات التي تقدمها المؤسسة هو رعاية الحالة الثقافية الفلسطينية، وتفعيل مشاركة المرأة، ورعاية الطفولة، وطبعًا نشر الموسيقى لِما لها من أثر علاجي في التخفيف من الضغوط التي يتعرض لها أطفال غزة، وتحفيزهم على طلب العلم وتحسين مستواهم»، لافتةً إلى أن معظم طلبة المؤسسة من المتفوقين دراسيًّا.
وصل عدد الطلاب المسجلين في 2017 لدى مؤسسة «السنونو» إلى 640، مع زيادة واضحة في عدد الإناث، وهو تقريبًا ضِعف ما كان عليه في 2012، رغم ازدياد الأوضاع صعوبة.
تؤكد عرب محمد أن الكورال مجاني في المؤسسة، مع إمكان التكفُّل بدفع مواصلات من لديهم الموهبة الحقيقية والجدية والالتزام بالمواعيد كشروط أساسية.
بلال صالح (17عامًا)، كورال وعازف عود منذ ست سنوات في مؤسسة «السنونو»، يوضح أن معدله الدراسي 98% لأن «الموسيقى علمتني الهدوء والسلام الداخلي، ليس في داخلي نية للكُره أو الإيذاء، الموسيقى متنفسي الوحيد لتفريغ الطاقة السلبية».
أما سماح سالم، البالغة 16 عامًا، والتي تغني الكورال في المؤسسة من أربع سنوات، تؤكد بدورها أن «الكورال أثّر بالإيجاب في تحصيلي الدراسي ونفسيتي، وطوّر شخصيتي. نريد إيصال رسالة السلام عبر الموسيقى والكورال».
«نداوي الأطفال بالموسيقى»
يعاني مليوني فلسطيني في القطاع من أزمات اقتصادية ونفسية وإنسانية خانقة، ويشكِّل الأطفال 60% منهم.
انشراح زقوت أخصائية نفسية، تشرح أهمية نشر ثقافة العلاج بالموسيقى لأطفال غزة، لا سيما مع الضغوط النفسية المتواصلة التي يتعرضون لها، وخَوض القطاع ثلاثة حروب دامية متتالية خلال أقل من ست سنوات: «نتجه إلى علاج الأطفال بالموسيقى بشكل أكبر، ووجدنا أنها أكثر فائدةً من العلاج بالطب التقليدي في كثير من الحالات، إذ تساعد على تحسين حالة الأطفال الصحية، النفسية والحركية والمعرفية، وتحسن مزاجهم وحياتهم بشكل عام. حين ندعوهم في جلسات التفريغ النفسي إلى الغناء والعزف، نشعر بمدى الراحة التي تكتنف أرواحهم نتيجة حرية الارتجال في الغناء والرقص».
يعاني مليوني فلسطيني في القطاع من أزمات اقتصادية ونفسية وإنسانية خانقة، ويشكِّل الأطفال 60% منهم، أكثر من نصفهم يعانون أمراضًا نفسية متعددة، جراء شن الاحتلال الإسرائيلي هجومًا على غزة بين الحين والآخر.
وفقًا للمؤرخ الفلسطيني سليم المبيض، دخلت الموسيقى قطاع غزة للمرة الأولى عام 1948 عبر فرقة «الفدعوس» المصرية، التي جاءت تحمل الآلات الموسيقية النحاسية وتعزف في جنازات الشهداء، ثم توالت الفرق على غزة في أعياد المولد النبوي وبعض المناسبات الدينية.
وفي أوائل ستينيات القرن الماضي، بدأ مدرس مصري تدريس الموسيقى لـ40 طفلًا في مدرسة يافا بغزة، ثم انطفأت الحالة الموسيقية في القطاع بعد نكسة 1967 والاحتلال الإسرائيلي، قبل أن تعود للانتعاش مجددًا مع تولي الرئيس الراحل ياسر عرفات السلطة الفلسطينية عام 1994، ولا تزال في ازدهار حتى الآن رغم كل شيء.