ظهر الكثير من نصوص المسرح الكويتي في إطار التجاوب مع الصدمة الجمعية لأحداث عصفت بالمجتمع، وتبدو المسرحيات التي تدور موضوعاتها حول الغزو العراقي الأبرز في اختزال حادثة الغزو واستيعابها فنيًا. إلا أن مسرح الصدمة سبق تلك الحادثة بمسرحيات عدة، منها «حرم سعادة الوزير» عام 1979 و«ممثل الشعب» 1980، اللتين جاءتا كنوع من التجاوب مع الحياة السياسية في الكويت، ومسرحية «حامي الديار» 1985 التي تناولت فترة سياسية حساسة في تاريخ البلاد، وهي تفجير المقاهي الشعبية والظروف المصاحبة لها.
جاءت مسرحية «فرسان المناخ» عام 1983 لتعبر عن الأزمة التي ضربت آلاف الكويتيين في العام السابق، والتي شملت مؤلف المسرحية عبد الحسين عبد الرضا أيضًا (خسر قرابة 4-5 ملايين دينار)، ليكتب نصًا مسرحيًا لا يكتفي بالتعبير عن تلك الصدمة فحسب، بل يتجاوزها إلى تشخيص الأزمة سياسيًا واقتصاديًا وتحليل نفسية الأفراد المشاركين في التجربة، مما يضفي بعدًا جديدًا إلى العمل المسرحي.
يشير عالم التحليل النفسي سيغموند فرويد إلى أن الناجين من حدث معين غالبًا ما يعانون من «عصاب الصدمة النفسية»، فيعيدون تذكر الحدث وتمثيل تفاصيله في ذاكرتهم مرارًا وتكرارًا في إطار النجاة منه. قد تصدُق حالة العصاب جزئيًا على صناع المسرح في الكويت، الذين توقفوا عند أحداث كثيرة شكلت الصدمة الجمعية لأفراد المجتمع.
نجد أكثر من عمل مسرحي يتناول الغزو العراقي باعتباره واحدًا من أثقل الأحداث على المجتمع الكويتي والعربي، بدءًا بأعمال مسرحية أُنتجت ومثلت إبان الغزو مثل مسرحية «عرب 2000» للفنانة هدى حسين، وهي من تأليف عبد الرحمن الصديقي وإخراج نجاة حسين، وعرضت في دولة قطر، إضافة إلى مسرحية «أزمة وتعدي» للمؤلف محمد الرشود والمخرج نجف جمال، والتي عرضت في مصر. وبعد الغزو كثرت الأعمال المسرحية التي تناولت الحادثة، ومنها «عاصفة الصحراء» و«سيف العرب» و«مخروش طاح بكروش»، وغيرها.
تضعنا هذه الكثرة المسرحية في مأزقين، الأول يعزز من الصدمة وعصابها النفسي، إذ أكدت هذه الأعمال المسرحية وجود الصدمة في وجدان صناع المسرح، وأسهمت في تخفيف الأثر النفسي للغزو على صناع المسرح من جهة والمتلقين من جهة أخرى، وذلك عبر تكرار الحادثة ورسم تفاصيلها من جديد في محاولة لتجاوزها، إلا أنها تعاود الظهور فنيًا من وقت لآخر. أما المأزق الثاني فيعزو كثرة تلك الأعمال إلى قلة النصوص المسرحية، وضمان نجاح هذه الثيمة إنتاجيًا لرغبة الجمهور في تلك النوعية من الموضوعات المسرحية.
يؤكد مسرح الصدمة أهمية التجربة المسرحية في اختزال الحالة السياسية والثقافية والاقتصادية لشعب ما، وتجاوزها إلى توثيق الحالة النفسية إزاء صدمة معينة. إلا أن جميع الأعمال المسرحية في الكويت تجاوبت مع الصدمة بشكل سريع، ودونتها خلال فترة قصيرة دون احتضان للحدث أو المرور بفترة «كُمون» بحسب تعبير فرويد، وهي فترة احتضان الحدث الصادم واستيعابه قبل ظهوره في الذاكرة وإعادة تمثيله واستعادة تفاصيله من وقت لآخر.
حصل تجاوز سريع بنصوص مسرحية نُفذت على خشبة المسرح في وقت قياسي، وهذا التعبير عن الصدمة وتخطيها خلال فترة قصيرة يوحي بشيء من الغرابة، ويثير عدة تساؤلات عن جودة النصوص المقدمة من ناحية التعاطي مع الموضوع وعلاقته بظروف مادية إنتاجية، وكذلك عن إسهام الفن في تجاوز الصدمة لدى صناع العمل المسرحي والمتلقي في آن.
أزمة المناخ: عن فن يعبر عن الصدمة
في عام 1983، قدم كل من الفنانين عبد الحسين عبد الرضا ومحمد المنصور عملين مختلفين حول سوق المناخ وإفلاسه. قدم عبد الرضا مسرحية فرسان المناخ من تأليفه، بينما قدم المنصور أوبريت غنائيًا بعنوان «سوق المناخ»، من تأليف فايق عبد الجليل وألحان مرزوق المرزوق. يتناول العملان عالم سوق المناخ وتجاره الذين انتقلوا من حالة ثراء مبالغ به إلى حالة خسارة وإفلاس تام، وهو ما يؤكد تأثر صناع الفن بصدمة المناخ وإفلاسه، وحالة تداعي الحدث من جديد وتمثيله في محاولة للنجاة من ذاكرة مثقلة بالصدمة. وربما تكون هذه هي الحالة الأولى للصدمة الجمعية في الكويت قبل الغزو العراقي بسنوات، وقد حظيت بالتمثيل والتكرار بشكل نسبي في محاولة لاستيعاب الحدث وتجاوزه.
يوثق عبد الحسين عبد الرضا في المسرحية أزمة اقتصادية سياسية كبرى، وذلك عبر تناولها في لوحات متنوعة غير مترابطة تتنقل ما بين السوق وبيوت التجار والبنوك ومجلس الأمة وغيرها من الأماكن، لتصنع صورة كاملة عن الأزمة. تبدو أعراض الصدمة واضحة على مؤلف فرسان المناخ، فجميع اللوحات المسرحية توحي باستذكار الحدث ومحاولة رسمه من جديد للقفز عليه وتجاوزه، في حالة أشبه ما تكون بـ«اضطراب ما بعد الصدمة»، حين تعود الذاكرة لأحداث ماضية مرتبطة بالصدمة وتستعيدها بأشكال متنوعة.
نخوة ومناخ.. حب مزور
يوثق عبد الحسين عبد الرضا في المسرحية قضية إفلاس سوق المناخ في لوحات متنوعة تدور جميعها حول تجربة ثراء مبالغ فيه ونهاية غير متوقعة للتضخم المادي.
إحدى اللوحات تدعى «حب مناخي»، وفيها يقف أحد صغار تجار السوق يدعى مناخ (يؤدي دوره عبد الرضا) على الخشبة منتظرًا وصول أحدهم، وبينما يأكله الانتظار تكون نخوة (استقلال أحمد) المحبوبة قد وصلت، ليبدأ اللقاء الغرامي، ويبدأ كل منهما في مشاركة أحلامه في العلاقة وحفل الزواج مع الآخر. في هذا المشهد الرومانسي يطرح المؤلف فكرة العلاقات الإنسانية في زمن طغيان المادة، وارتباط التعبير عن المشاعر بالماديات (أسهم سوق المناخ). يلخص المشهد صدام المادة مع العلاقات الإنسانية وتشظي الفرد بين المادة والمشاعر في مقولة مناخ لنخوة: «حبي لج حب المزيني لي صعد 100 فلس باليوم، حبي لج حب الدواجن وأسمنت الخليج».
هنا فقط يتحول الحب من تجربة شعورية إلى مادة طاغية، وهو ما يبدو مطابقًا لما وصفه عالم الاجتماع والفيلسوف زيغمونت باومان في كتابه «الحب السائل»، من تحويل تجربة الحب إلى ما يشبه السلع الأخرى التي لها مفعول السحر، والإغواء بالتلويح بكل تلك المميزات، والوعد بالإشباع الفوري للحاجات دون انتظار ولا جهد ولا تعب. يتكرر هذا في أكثر من نموذج للحب خلال النص المسرحي، سواء مع نخوة ومناخ أو منصور بوحظين وزوجته، إذ تبدو العلاقات رهينة لحالة إشباع الحاجات المادية، فإن توفرت كان الحب، وإن غابت انتهى وراح.
الرجل الجديد.. صنع في «سوق المناخ»
في هذه التجربة الجديدة للثراء، يُظهر النص المسرحي فكرة الرجل الجديد (New Man) للطبيب النفسي والفيلسوف السياسي فرانز فانون. لكن بينما يعتبر فانون الرجل الجديد وليد الاستعمار، تقدمه «فرسان المناخ» على أنه وليد لحالة طارئة من التطور والتضخم المادي في مجتمع عانى من الفقر على مدى فترات كثيرة.
أنتج سوق المناخ نموذجًا إنسانيًا مجردًا من العواطف في تعاملاته، لا تحركه إلى الأمام سوى المصلحة المادية والأسهم المكتوبة. المادة تحكم الحب، وتقرر لعلاقاته الإنسانية الاستمرار أو التوقف، وهذا ما يوضحه عبد الحسين في مسرحيته من خلال العلاقات الإنسانية المؤقتة بين منصور بوحظين وحمدي محاسب البنك وأسرة زوجته، إضافة إلى علاقة منصور بوحظين برفاقه التجار في السوق، وهي علاقات مسوّمة بالمادة فقط، فلا مشاعر أو مودة تظهر بأي شكل من الأشكال.
تحيل شخصية منصور بوحظين إلى نوع من الشخصيات التي كتبها باومان في الحب السائل، والذي يصفه بأنه «إنسان بلا صفات، بلا روابط اجتماعية تحكمه، ساكن مثالي لاقتصاد السوق والأنماط التي تبث السعادة». تظهر معظم شخصيات العمل المسرحي في سعي حثيث وراء المادة متناسية العلاقات الإنسانية، التي إن ظهرت لا تكون سوى في إطار المادة وسبل الحصول عليها عبر الشريك، رغم تصوير المؤلف والمخرج لها بشكل فكاهي.
«مكتب قلم دلال.. بحبه مجنون»: سعار الثراء
يسجل عبد الرضا في عمله المسرحي حالة التضخم المالي كاملة وصولًا إلى لوحة «سهرة مناخية»، التي قد تبدو للبعض سهرة غنائية عابرة جاءت للترفيه عن المتلقين. ورغم حذفها لاحقًا من تسجيل المسرحية، يكشف وجودها بالشكل الذي صوره العرض المسرحي عن التردي الأخلاقي لدى بعض من أغناهم سوق المناخ في ذلك الوقت: جلسة غنائية ومشروبات روحية وفتاة الليل «وردة». كل مظاهر الانحراف الأخلاقي هذه يصورها المؤلف في تجربة الثراء الطارئ التي حققها سوق المناخ، ويبدو فيها تماثله مع قصيدة «الأرض اليباب». فبينما يكتب تي إس إليوت في قصيدته عن تردي الأخلاق بعد الحرب العالمية الثانية، وهي التجربة الوحشية التي أدت لكل أنواع التردي الأخلاقي في أوروبا، يكتب عبد الرضا «سهرة مناخية» عن سقوط الأخلاق في سعار الثراء.
تعتبر مسرحية «فرسان المناخ» واحدة من أذكى النصوص الكويتية وأكثرها رشاقة، وتختزل تجربة اقتصادية وإنسانية مريرة في لوحات مسرحية مستعجلة تواكب سرعة المرحلة وتحولاتها، بينما تأتي أغنيات العرض لتقول الكثير عن مناخ مرتبك.
أمام هذا العمل المسرحي يبدو التساؤل مستحقًا عن تجاهل معظم مسرحيات الألفين للأحداث الصادمة ومحاولة تغييبها، وتفاعلها في المقابل مع موضوعات فردية منغلقة حول مشاكل اجتماعية، بينما تجاوب مسرح الثمانينيات والتسعينيات مع صدمات سياسية واقتصادية كبرى. قد يبدو ذلك التجاهل نوعًا من التعبير عن الصدمة وتخطيها، إلا أنه في الوقت ذاته طمس لأحداث كبرى مر عليها المسرح دون مناقشة أو احتضان.