«فريجر كرين» طبيب نفسي في الأربعين من عمره، ترك ولاية بوسطن بعد طلاقه من زوجته السابقة «ليليث»، وعاد إلى مسقط رأسه سياتل في واشنطن، ليعمل في محطة إذاعية خصصت له برنامجًا يقدم فيه استشارات نفسية للمستمعين.
هذه هي الحبكة الرئيسية البسيطة لواحد من أكثر المسلسلات التلفزيونية شهرة في فترة التسعينيات. بدأ بث الحلقة الأولى عام 1993، قبل عام كامل من ظهور مسلسل «Friends» الأكثر شهرة بين هذا النوع من العروض، وكانت آخر حلقات «Frasier» الـ263 عام 2004.
تبدأ الأحداث بمكالمة هاتفية من «نايلز» الأخ الأصغر لفريجر، الذي يعمل طبيبًا نفسيًّا أيضًا، يليها لقاء يُطلِع فيه نايلز أخاه على حادثة سقوط والدهما، المحقق السابق «مارتن كرين»، في حمام منزله الذي يعيش فيه وحيدًا بعد وفاة أمهما، وبعد استقالته من عمله إثر إصابته في وركه خلال حادث سطو مسلح، وهي الإصابة التي قللت من حركته وجعلته في حاجة دائمة إلى من يعتني به.
يفهم فريجر ما يرمي إليه أخوه، ويضطر إلى دعوة والده للعيش معه في شقته الفاخرة، ويصير عليه أن يتحمل سخريته اللاذعة وتبرمه.
فريجر: الأب والابن.. صراع كلاسيكي
فريجر ونايلز مثقفان نخبويان بالشكل الكلاسيكي، يعيشان حياة مرفهة بين دور الأوبرا والمطاعم الفاخرة والمسارح العريقة، يتعمدان التباهي بحقيقة أنهما خريجا جامعتين عريقتين: هارفارد وأوكسفورد، ويتحدثان إنجليزية معقدة وقديمة كأنهما من إحدى مسرحيات شكسبير، ويتخلل حديثهما مزيج من الفرنسية والإيطالية والألمانية، ويجيدان التواصل مع مشاعرهما والتعبير عنها.
بشكل عام، هما صالحان وذوا ضمير يقظ، لدرجة أن أحدهما ينزف من أنفه عندما يضطر إلى الكذب، والآخر يصاب بألم حاد في معدته عندما يفعل شيئًا مشينًا يتعارض مع أخلاقياته.
يخبرنا المسلسل أننا في كثير من الأحيان نكون بحاجة لأن نعطي الآخرين فرصة أخرى وجديدة.
أما مارتن، الأب، فهو رجل بسيط وكتوم، حاد الذكاء، اجتماعي مرح، ينتمي إلى المدرسة القديمة التي لا تُلقي بالًا للمشاعر وتجد صعوبة في التعامل معها. فكرة مارتن عن الأبوة أن توفر لأولادك سقفًا ينامون تحته وطعامًا على مائدتهم، ولا شيء آخر.
تنقلب حياة مارتن رأسًا على عقب بعد وفاة زوجته، وبعد الإصابة التي خلَّفها الحادث. مارتن لا يطيق الجلوس في المنزل، لكن وضعه الصحي يجبره على ذلك، وهذه المرة برفقة ابنه فريجر الذي لا يشاركه أيًّا من اهتماماته، ويعجز كلاهما عن الاستمرار في حديث ما أكثر من دقيقة.
تبدأ أحداث المسلسل بهذا التناقض إذًا: نموذج من البشر يمثله مارتن، ونموذج آخر، ربما يكون طرف نقيض، هو فريجر، وعقدة الصراع أنهما مضطران للتعامل مع بعضهما. لن يستطيع فريجر التخلي عن والده، ويحتاج الوالد إلى من يعتني به.
يبدو التناقض بينهما تجسيدًا لصراع أبدي بين المنطق والعاطفة، البساطة والتعقيد، الغموض والوضوح، التأني والعجلة، التردد والتهور، وكل هذه التناقضات حاضرة بقوة في علاقة أب بابنه، اثنان لن يطيقا بعضهما في ظروف أخرى لولا قيد تلك العلاقة وحاجتهما الفطرية لإنجاحها ليعيشا حياة سوية مسالمة.
ينتقل مارتن إلى بيت فريجر، لكنه ليس وحده، فبصحبته كرسي قبيح ممزق يضعه وسط الأثاث الفاخر، وكلب يُدعى «إيدي»، لا يكف عن التحديق في فريجر بشكل مزعج. وسرعان ما تنشأ المتاعب بين الأب وابنه، ويجد فريجر أن الحل الوحيد أن يفتح كل واحد منهما قلبه للآخر.
في مشهد مؤثر يجلس الاثنان، وعندما يبدأ فريجر بالتحدث يتعلل الأب بحاجته إلى إنهاء الحديث سريعًا كي يلحق بمباراة البيسبول. هنا يتهمه ابنه بأنه أكثر الناس برودًا وانغلاقًا على ذاته، ويخبره بأنه يئس من محاولات إصلاح علاقتهما، ويقترح عليه أن يوفر له منزلًا يعيش فيه مع معالجته «دافني مون». لكن مارتن يرفض الاستسلام ويرد قائلًا: «العلاقات الأسرية تستغرق وقتًا. لا تتعجل واصبر، وسيمر الوقت دون أن تشعر».
صور جديدة، ذكريات قديمة
ألم يدفعك الفضول إلى قراءة كتاب معقد لا يناسب سنك، وكرهته أو أنهيته سريعًا لأنك لم تفهم منه شيئًا؟ ألم تشعر بعدها بسنوات برغبة في إعادة قراءته لتستخدمه مقياسًا لمدى تطور شخصيتك؟ ألم تحب بعض تلك الكتب بعد القراءة الثانية لأنك أصبحت إنسانًا مختلفًا؟ إذا كنت مستعدًّا لأن تمنح كتابًا فرصة ثانية، لِمَ لا يكون لديك نفس الاستعداد لمنح هذه الفرصة لبعض الناس في حياتك؟
بعض الناس مثل الكتب التي لا تكشف عن أسرارها للقارئ إلا بعد عناء ومجهود، ورحلة طويلة في متاهات الحياة يعود منها أكثر نضجًا وتفهمًا. ينطبق هذا المثال على العلاقة بين كثير من الآباء والأبناء، يكون كلٌّ منهما للآخر كتابًا مبهمًا، قد يفوت العمر دون أن يعي أيهما ضرورة إعادة قراءته أو اكتشافه من جديد.
يدرك مارتن أنه بحاجة إلى إعادة خلق علاقته بأبنائه بالكامل، ومنذ البداية، وليس إصلاحها، وأن يعتمد على المشاعر الإيجابية للحظات الجميلة التي جمعتهما في ما يمكن أن نسميه «حياتهما السابقة»، دون الاعتماد على اللحظات نفسها رابطًا وحيدًا يجمعهما. وعوضًا عن ذلك، يحاول خلق ذاكرة مشتركة جديدة للشخصيات الحالية، تقوم على الحب والتقبل والمساندة.
أنت لا تصعد السلم بمجرد النظر إليه
عندما كنا صغارًا، كان من الصعب علينا في بعض الأحيان أن نتعمق في تصرفات آبائنا، ونتأمل ما وراء رفضهم أو قبولهم أشياء تخصنا. كذلك الأمر بالنسبة إلى نصائحهم. أتذكر مشهدًا لأب وابنه من فيلم «The Squid and the Whale»، يُعاتب فيه الابن أباه لأنه يقول له الأشياء بطريقة «تُنفِّره من سماعها». يتعلق الأمر بالطريقة وليس بالنصيحة، بمدى وضوح المشاعر المصاحبة لها، بما يُشعِر الطرف الثاني أنه الدافع الحقيقي لإسداء النصح.
ينتج هذا الوعي مئات المواقف الطريفة طوال حلقات المسلسل. فريجر معتد بنفسه وبخلفيته العلمية والثقافية، وبحقيقة أنه الأكثر دراية بنفوس البشر، لأن مهنته وحياته كلها تدور حول هذا الهدف، لكنه ينسى أن والده كان مُحققًا، وجزء أساسي من عمله كان يتعلق أيضًا بالتعمق في النفس البشرية، وفهم دوافع البشر لارتكاب أبشع الأفعال.
ربما لم يأخذ فريجر كثيرًا من هذه النصائح بجدية، إلا إنه الآن، وقد أصبح مدركًا للأساس الذي تقوم عليه، لم يعد يخجل من الاعتراف بأنه أخطأ، وبأن والده كان على حق.
أبرز النصائح التي تجاهلها فريجر ونايلز كانت تتعلق برغبتهما في شراء مطعم قديم اعتادا أن يتناولا فيه الطعام منذ الطفولة، وكان مُلَّاكه موشكين على الإفلاس والمطعم نفسه مُعرَّض للهدم. نصحهما مارتن بعدم شرائه، لا لغباء الفكرة، بل لمعرفته الدقيقة بسر تحمسهما لها: «أتريان؟ هذا ما يسبب لكما المتاعب دائمًا، أنكما لا تفكران في العمل الشاق وساعاته الطويلة. فكرتكما عن امتلاك مطعم تتلخص في ارتدائكما الملابس الأنيقة والحديث مع الأصدقاء، وبهجة طرد أعدائكما قبل دخولهم من بابه».
وهو ما كان مارتن مُحقًّا فيه.
ما يعرفه القلب ويغفل عنه العقل
هل مارتن دائمًا على حق؟ لا، هناك جولات ربحها فريجر أيضًا، ولنفس السبب في كل مرة: أنه دائمًا ما يتبع قلبه.
دفعه قلبه إلى استضافة والده وتحمُّل طباعه الصعبة، في حين عجز أخوه عن فعل الشيء نفسه. يدرك فريجر أن المشاعر كل ما نملك، لذلك نجده يشجع الآخرين على البوح والتواصل، ونكتشف في نهاية المسلسل أن الفضل يعود إليه في مساعدة مارتن على التعامل مع مشاعره والتصريح بها.
من أبرز الصور التي يتجلى فيها أثر اعتماد فريجر على مشاعره، علاقته بأخيه نايلز، فهما يتشاركان الاهتمامات والمهنة وينظمان الحفلات معًا ولا يُرى أحدهما في مكان دون الآخر، ما يجعلهما مثارًا للسخرية في أوقات كثيرة.
يُهيَّأ إليك وأنت تشهد هذه العلاقة الوثيقة أنهما يشبهان بعضهما إلى حد كبير، ما يساعد على تقوية الروابط بينهما. لكنك تكتشف أنهما مختلفان تمامًا في الطباع، وفي رؤيتهما للحياة، غير أن التقارب كان قائمًا بشكل كبير على معرفة كلٍّ منهما لمكانته عند الآخر.
في إحدى الحلقات، يُطلَب من نايلز التحقق من السلامة العقلية لشخص يُدعى «هارلو سافورد»، الذي يزعم ابنه أنه غير متزن نفسيًّا، وليس أهلًا لأن يكون المتصرف الوحيد في ثروته. يتأكد نايلز بالفعل من مزاعم الابن، ويقرر أن يشهد لصالحه في المحكمة. وفي ذات الوقت، يطلب محامي الأب من فريجر أن يقابل الرجل نفسه ويتأكد أنه في كامل قواه العقلية. يُحدِّث الأب فريجر بمنتهى العقلانية، ويخبره بأنه ليس مجنونًا، لكنه تعِب في حياته وحقق كل ما كان يحلم به. والآن كل ما يرغب فيه أن يعيش الحياة كطفل صغير يتصرف بتلقائية ولا يحمل هَمَّ العالم.
يُصدقه فريجر، بل يتحمس في الدفاع عنه، ليُفاجأ في المحاكمة بتصرفات غريبة للرجل تثبت بالفعل أنه غير متزن نفسيًّا. وكالعادة، يجعل فريجر من نفسه أضحوكة.
بعد نهاية الجلسة يجلس منزويًا شاعرًا بالخجل، يقول لأخيه: «كيف عجزتُ عن تشخصيه وملاحظة سلوكه الغريب؟ ليس بإمكاني الادعاء أنني طبيب نفسي جيد بعد هذه اللحظة». يبتسم نايلز ويخفف عنه قائلًا بلطف بالغ: «لديك دائمًا نظرة إيجابية للحياة، وهذه ميزة أُقدرها فيك كثيرًا. ربما ما أثَّر في تشخيصك هو رغبتك في ألا تنظر لسن الشيخوخة باعتبارها مرحلة عمرية يذبل فيها الناس، بل كوقت نستعيد فيه شغف الطفولة، ويمكن لأحلامنا وخيالاتنا أن تولد فيه من جديد».
كن ممتنًّا للحب في كل صوره
في المشهد الأخير من فيلم «Double Indemnity»، يجلس «بارتون كيز»، مدير قسم الادعاءات في إحدى شركات التأمين، بجوار صديقه الأثير «وولتر نيف»، الذي يعمل مندوبًا في نفس الشركة.
يحقق كيز في الحوادث التي يدَّعي عملاؤه أنهم تعرضوا لها للحصول على المبلغ التأميني المتفق عليه، وهو محقق بارع، لم يفشل مرة في كشف كذب العميل وتلفيقه بعض تلك الحوادث، لكنه خُدِع مرة واحدة فقط، عندما كان صديقه نيف هو القاتل والعقل المدبر للحادث.
كيز، الرجل الصلب الذي تتمحور حياته حول عمله فقط، وتمر مشاعره بمتاهة لا نهاية لها قبل أن تصل إلى الآخرين بشكل صريح، يجلس بجوار صديقه الغارق في دمائه، الذي يسأله: «أتعلم لماذا لم تستطع حل هذه القضية؟ دعني أخبرك، لأن الذي كنت تبحث عنه كان قريبًا منك أكثر من اللازم، كان يجلس إلى المكتب الذي يجاور مكتبك».
يرد عليه كيز مستنكرًا: «بل أقرب من ذلك يا وولتر».
يبتسم نيف بسخرية قائلًا: «وأنا أيضًا أحبك».
في الحلقة الأولى من مسلسل «Frasier»، بعد أول شجار بين الأب وابنه، يخبر فريجر والده مارتن بأنه متطلِّب وصعب إرضاؤه وعاجز عن قول كلمة «شكرًا» مقابل استضافته له. مارتن العنيد لا ينطق بها، لكنه لاحقًا يجري اتصالًا هاتفيًّا ببرنامج فريجر الإذاعي، ويميز الابن صوته على الفور فيسأله: «ما مشكلتك؟». يقول الأب: «ابني يظن أني غير ممتن لكل ما يفعله لأجلي، وهذا غير صحيح. أنا فقط أجد صعوبة في التصريح بهذا». ثم يختم مكالمته قائلًا: «شكرًا فريجر»، لكنه يصيح فجأة: «هل سمعتني؟ لقد قلت شكرًا».
في نهاية المسلسل، يقف مارتن في مواجهة فريجر ويحتضن وجهه بين كفيه قائلًا: «شكرًا من أجل... أنت تعرف».
هذه المرة، يعرف فريجر، ومارتن يدرك أنه يعرف، وأنت أيضًا (المُشاهد) صرت تعرف، من خلال رحلة طويلة أصر كتَّاب المسلسل أن تخوضها بالطريقة الصعبة، كأنك تتعرف إلى شخصيات المسلسل عن طريق التجربة، وليس عن طريق مونولوغ داخلي أو أكثر يكشف لك وحدك أحد جوانب شخصية أحد الأبطال دون أن يكشفها للآخرين.
في نهاية الرحلة، نجد أنفسنا نعرف بدقة طُرق الناس المختلفة في التعبير عن الحب، ما يجعلنا ننظر حولنا لنجد نظيرًا لكل شخصية من شخصيات مسلسل «فريجر» في حياتنا، لأنها شخصيات حقيقية من لحم ودم، أزماتها لا ترتبط بزمان أو مكان، بل بصراع أبدي لا مفر من أن يخوضه كل الناس.