يستطيع المرء أن يغير أي شيء: وجهه، بيته، عائلته، صديقته، دينه، أو حتى ربه، لكن يبقي شيء وحيد لا يستطيع تغييره: شغفه». من رواية «The Secret in Their Eyes» للكاتب الأرجنتيني «إدواردو ساشيري»، لتوضيح مدى تعلق المرء بشغفه، الذي كان متمثلًا في الرواية في صورة «كرة القدم».
في إنجلترا: المنع تبعًا لأهمية اللاعبين
حدث أول تعامل رسمي بين نظام سياسي وكرة القدم عام 1314، عندما أدانها ملك إنجلترا ومنع ممارستها.
تلك الأنا التي تحتاج بشدة إلى أن تصبح «نحن»، أن تشاطر عددًا لا بأس به من الأفراد نفس القناعة، القناعة بأنك الأفضل، بأن البقية مخادعون، بأن الحظ لا يلتفت إليهم، بأنك على صواب والبقية واهمون، الشعور بمدى أهميتك، بأن إمتاعك هو الغرض هنا، وبكونك شريكًا أساسيًّا في النصر والهزيمة حتى لو لم تحرك ساكنًا في كليهما.
ذلك هو ما تقدمه كرة القدم إلى المشجع عن طيب خاطر، المشجع الشغوف بتعبير أدق، ذلك الشخص الذي أصابه الشغف فبات يهمس بدعواته من أجل الفريق، ويصرخ فيشق حنجرته احتفالًا بهدف، ويرتحل إلى مدن لم يرها من قبل من أجل أن يساند فريقه. كرة القدم تكافئ من هُم مثل هؤلاء بمشاعر يصعب وصفها، تمنحهم ذروة السعادة الممكنة، وتتركهم بعد نهاية كل مباراة كرجل وحيد يتسكع في مدينة مهجورة كانت تعج بأحبائه قبل فترة وجيزة.
حدث أول تعامل رسمي بين نظام سياسي وكرة القدم عام 1314، عندما أصدر ملك إنجلترا آنذاك إدوارد الثاني وثيقة رسمية يدين فيها تلك «الضوضاء التي عمَّت المدينة، الناتجة عن اشتباكات حول كرات كبيرة الحجم، مما يؤدي إلى شرور كثيرة لا يبيحها الرب، لذا فبأمر من الملك تُمنع ممارسة هذه اللعبة في المستقبل».
حدث ذلك في زمن كان الشعب يدين فيه بالولاء للملك بالضرورة، إلا أن الأمر تغير كثيرًا في عصور احتاج فيها السياسيون إلى دعم الشعب، فلم يجدوا طريقًا أكثر تمهيدًا ليتسللوا عبره من كرة القدم.
اقرأ أيضًا: كرة القدم في أفغانستان: الركض من الرصاص إلى المرمى
في أوروغواي: منتخب العمال يرفع العلم في أوروبا
«عند سور مستشفًى للمجانين في ميدان مقفر في بوينس أيرس (عاصمة الأرجنتين)، كان بعض الفتيان الشقر يتقاذفون كرة بأقدامهم. سأل طفل: من هؤلاء؟ فأخبره أبوه: مجانين، إنجليز مجانين». من كتاب إدواردو غاليانو «كرة القدم بين الشمس والظل»، متحدثًا عن الصحفي «خوان خوسيه دي سوزا».
كانت المباراة الأولى لأوروغواي في الأولمبياد الصيفية في أوروبا عام 1924 ضد يوغسلافيا، وعُلِّق علمها بالمقلوب، وعُزف مارش عسكري برازيلي بدلًا من النشيد الوطني.
عُرفت أوروغواي في أوروبا قديمًا كجزء من بلاد «ريو دي بلاتا» أو نهر الفضة، وهي البلاد التي تشمل الأرجنتين وأوروغواي معًا، فبوينس أيرس ومونتيفيديو (عاصمة أوروغواي) أُنشئتا على يد الإسبان، وبمرور الوقت صارتا أهم مينائين لإنجلترا في أمريكا الجنوبية، واستقبلتا السلع البريطانية والقطارات، واستقبلتا كذلك كرة القدم عن طريق أقدام البحارة الإنجليز.
انتهت أموالهم تمامًا بمجرد أن وصلوا إلى أسبانيا حيث حطت الباخرة، ثم لم يجدوا بُدًّا من استغلال المهارة الوحيدة التي يتقاسمونها جميعًا، لعب كرة القدم، فلعبوا سبع مباريات مقابل المبيت والطعام وقليل من الأموال، ضمنت لهم مقاعد خشبية قاسية في إحدى عربات الدرجة الثانية لقطار متجه إلى باريس، وبالطبع كانوا قد فازوا بالمباريات السبعة جميعًا.
قد يعجبك أيضًا: كلاسيكو المتعة والصناعة: من يفوز بـ«كرة القدم»؟
كانت المباراة الأولى في الأولمبياد الصيفية ضد يوغسلافيا، ويومها عُلِّق علم أوروغواي بالمقلوب، وعُزف مارش عسكري برازيلي بدلًا من النشيد الوطني، وذهب الجميع لمشاهدة هؤلاء القادمين من نصف العالم الآخر كي يلعبوا كرة القدم، وكانت النتيجة قاسية، فأوروغواي فازت بسبعة أهداف مقابل لا شيء، مع أداء مبهر تمامًا.
فاز منتخب أوروغواي بالمباريات تباعًا وبأداء أقرب ما يكون إلى السحر، حتى تقلدوا الميداليات الذهبية في المباراة النهائية، وارتفع علم أوروغواي فوق كل الأعلام، لكنه عُلِّق بصورة صحيحة هذه المرة، وعُزف النشيد الوطني في حضرة العمال هؤلاء السحرة.
عرفت أوروبا علم أوروغواي، بل واعترفت بها رسميًّا، بسبب المنتخب الذي كان مكونًا من العمال، فـ«بيدرو أريسبي» كان يعمل صباحًا في تقطيع اللحوم و«خوسيه ناسازي» في تقطيع الرخام، وكلاهما يقطع الكرات من الخصم مساء، أما «بيدرو بيتروني» فكان بقالًا، وعلى أرض الملعب يوزع الكرات، يشاركه في التوزيع «بيدرو سيا»، الذي كان يعمل في توزيع الثلوج خلال الظهيرة، بينما كان «خوسيه أندرادي» موسيقيًّا متجولًا في الكرنفالات وماسح أحذية، وأول لاعب ذا بشرة سمراء تعرفه كرة القدم في أوروبا.
بعدها بأربع سنوات، رجع هؤلاء الفتية ليفوزوا بالذهب مرة أخرى في أولمبياد 1928، ثم بأول كأس للعالم عام 1930، وحينها علق المسؤول الأوروغواني «أتيليو نارانشيو» بعبارة مهمة للغاية: «لم نعد تلك البقعة المنسية على خريطة العالم».
في أمريكا الجنوبية: ملوكٌ رغم أنف السياسة
«ھذا الخلاسي (المولود لأبوين أبيض وأسود) ذو العينين الخضراوين ھو مؤسس الطريقة البرازيلية في اللعب، وھو من مزق المناهج الإنجليزية، ھو أو الشيطان الذي كان في باطن قدمه. لقد حمل فريدنريتش إلى الاستاد الأبيض الوقور وقاحة الفتيان السمر (...) ممن يستمتعون بتقاذف كرة من الخرق القماشية في الأحياء الفقيرة، وهكذا وُلد أسلوب جديد منفتح على الخيال، يفضل المتعة على النتائج». إدواردو غاليانو في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل».
قرر الرئيس البرازيلي عام 1921 عدم إرسال أي لاعب أسود إلى بطولة كأس أمريكا لأسباب تتعلق بسمعة الوطن، فخسرت البرازيل مباراتين من ثلاث مباريات.
أقيمت أول بطولة لكرة القدم في أمريكا الجنوبية عام 1916، وكانت مباراة الافتتاح بين تشيلي وأوروغواي، وانتهت لصالح الأخيرة بأربعة أهداف مقابل لا شيء، لكن مسؤولي تشيلي طالبوا في اليوم التالي للمباراة بإلغاء النتيجة، بدعوى أن فريق أوروغواي ضم لاعبين «أفارقة».
كانت تلك هي المرة الأولى التي يشارك فيها لاعبون سود البشرة في مباريات كرة قدم رسمية، هما «إيزابيلينو غرادين» و«خوان ديلغادو»، ولم يكن هذا مستساغًا آنذاك. ورغم التهميش الذي لاقاه مثل هؤلاء من رجال الدولة، فإنه لم يقف حائلًا أمام فرض موهبتهم على الجميع، وانتزاع بقعة ضوء ليقفوا فيها منتصرين.
في عام 1921، قرر الرئيس البرازيلي «إبيتاسيو بيسوا» عدم إرسال أي لاعب أسود إلى بطولة كأس أمريكا المقامة في بينوس أيريس لأسباب تتعلق بـ«سمعة الوطن»، فحُرم منتخب البرازيل من الأسطورة «آرثر فريدِنريتش»، وكانت النتيجة الخسارة مباراتين من ثلاث مباريات، ليعود فريدِنريتش إلى المنتخب مرة أخرى عام 1922 ويحقق اللقب مجددًا.
قد يهمك أيضًا: هل تحارب كرة القدم العنصرية أم تدعمها؟
في جنوب إفريقيا: دوري السجن لكرة القدم
«كرة القدم حافظت علينا أحياء». «طوكيو سيكسويل»، السياسي ورجل الأعمال الجنوب إفريقي.
«عندما كنا في جزيرة روبن (حيث السجن)، كان الراديو منفذنا الوحيد نحو بطولة كأس العالم، وعبر كرة القدم استطعنا أن نحتفي بالإنسانية في الطرف الجنوبي للقارة الإفريقية، ونتشاطر ذلك مع بقية أنحاء القارة والعالم». نيلسون مانديلا.
في أحد أكثر السجون عنصرية، هناك في جزيرة روبن على بعد سبعة كيلومترات من كيب تاون في جنوب إفريقيا، حيث عُزل كل أصحاب البشرة السوداء الذين نادوا بالمساواة والعدل، تقدم المساجين في أول أيام شهر ديسمبر عام 1964 بمذكرة إلى مسؤولي السجن، من أجل السماح لهم بممارسة كرة القدم على أرض ممهدة خارج مبنى السجن.
قوبل الأمر بالرفض، لكن بعد إلحاح المساجين كل سبت لمدة ثلاث سنوات متصلة، واقتراحهم تخفيض حصص الغذاء مقابل كرة القدم، سُمح لهم باللعب.
تطور الأمر إلى إنشاء دوري من ثلاث مراحل تحت مظلة اتحاد رسمي، عُرف باسم اتحاد «الماكانا»، ولُعبت كرة القدم بقواعد الاتحاد الدولي «فيفا» المعروفة للجميع. كانت الكرة في هذه الجزيرة بمثابة صرخة في وجه السياسة التي اتسمت بالعنصرية المطلقة آنذاك، وكان من ضمن المشاركين في هذا الدوري نيلسون مانديلا، أما الرئيس الحالي لجنوب إفريقيا، «جاكوب زوما»، فكان يشارك كحكم ساحة.
في كرواتيا: ركلة بوبان تدفع نحو الاستقلال
بعد الحرب العالمية الثانية، استطاع «تيتو» أن يكوِّن يوغوسلافيا الاتحادية بتوحيد كرواتيا وصربيا وسلوفينيا والجبل الأسود ومقدونيا والبوسنة. كان الاتحاد في بدايته جيدًا، لكن الوضع اختلف كثيرًا بعد وفاة تيتو عام 1980، فتعالت أصوات الاستقلال في كرواتيا، وكانت كرة القدم تؤدي دورها المعتاد والمحبب إلى الجماهير.
في 13 مايو 1990، كان مشجعو فريق «دينامو زغرب» الكرواتي على موعد مع مشجعي فريق «رِد ستار بلغراد» الصربي. كانت مواجهة قومية في المقام الأول، سبقتها حرب شوارع بين الطرفين.
بعد عشر دقائق من بداية المباراة، بدأت جماهير رِد ستار بلغراد في الهتاف «زغرب صربية»، وهو الأمر الذي لم يتحمله الكروات، فبدأت أعمال الشغب ووصلت إلى الملعب سريعًا. ركض لاعبو بلغراد خارج الملعب، وبدأت الشرطة تتعامل مع المشاغبين.
في وسط الملعب تمامًا كان شرطي، اتضح لاحقًا أنه من البوسنة واسمه «رفيق أحميتوفيتش»، يضرب مشجعًا لدينامو زغرب بهراوته، لكنه فوجئ باللاعب الكرواتي «زفونيمير بوبان» يركض ويطير موجهًا قدمه نحو وجهه، في واحدة من أشهر الركلات في الملاعب على الإطلاق. انتهى اليوم بكثير من الجرحى، وبصراخ بوبان: «أين الشرطة الآن؟ أين الشرطة من كل ذلك؟».
أصبح بوبان بطلًا شعبيًّا في كرواتيا بعد ذلك المشهد، وربما كانت تلك الركلة حلقة شعبية مهمة في سلسلة استقلال كرواتيا، التي استقلت رسميًّا بعد عام من الحادثة، وصُنِّفت المباراة في تقرير «سي إن إن» واحدةً من خمس مباريات غيرت العالم.
في الهندوراس والسلفادور: كرة القدم ذريعةً للحرب
جو التنافس الذي تخلقه كرة القدم يؤدي بالضرورة إلى مشاحنات بين طرفي المباراة، أما إذا وُجد ذلك الجو المشحون من الأساس بين مشجعي كرة القدم، فإن ملعب المباراة قد يتحول إلي ساحة قتال، وتصبح مباراة الكرة ذريعة يستخدمها السياسيون لشحن الهمم وتوجيه الأفراد نحو نوايا سياسية خالصة.
بعد فوز السلفادور في تصفيات كأس العالم عام 1970 على الهندوراس، نشرت الأخيرة جيشها على طول الحدود بين البلدين، ونشبت حرب راح ضحيتها آلاف.
أهم مثال على ذلك مباراة كرة القدم التي أقيمت بين الهندوراس والسلفادور عام 1969، التي كانت مباراة فاصلة في تصفيات كأس العالم 1970، بعد مباراتين تناوب فيها البلدان الفوز كلٌّ على ملعبه، وتناوب جمهور كل فريق الاعتداء على الجمهور المنافس بعد كل مباراة لأسباب لا علاقة لها بكرة القدم.
يعود سبب النزاع إلى هجرة السلفادوريين للهندوراس، التي تسببت في زيادة حجم البطالة هناك، فأصدرت الهندوراس قانونًا بعدم تمليك الأراضي الزراعية للقادمين من السلفادور، واحتفظ كل بلد بقدر مماثل من العداء للآخر، واستغل الإعلام المباراة لشحن الجماهير.
فازت السلفادور، فنشرت الهندوراس جيشها على طول الحدود بين البلدين، وكذلك فعلت السلفادور، مما تسبب في نشوب حرب راح ضحيتها آلاف.
وإلى الآن تشهد مباريات الأرجنتين وإنجلترا تناحرًا غير مبرَّر، ويُرجع الجميع ذلك إلى حرب الفوكلاند بين الدولتين عام 1982. كذلك، شهدت مباراة كرة القدم بين إيران وأمريكا في كأس العالم 1998 اهتمامًا دوليًّا غير مفهوم، لمباراة بين فريقين تذيلا المجموعة وخرجا من الدور الأول للمسابقة.
في المنطقة العربية: كرة القدم تشارك في التوتر
يحاول «فيفا» عدم خلط الرياضة والسياسة، ويشير دومًا إلى أهمية عدم التدخل الحكومي، وعدم رفع لافتات سياسية أو إشارات تعبِّر عن حزب معين أو تيار سياسي خلال المباريات، لكن الأمر دومًا يبدأ وينتهي بعيدًا عن ملعب كرة القدم.
نقل كثير من المواقع تصريح منسوبة إلى رئيس «فيفا»، بأنه تسلم طلبات من ست دول عربية لسحب ملف قطر لاستضافة كأس العالم.
ألقت السياسة بظلالها على الكرة في المنطقة العربية كذلك، فمباريات كرة القدم بين العراق والكويت تلقى اهتمامًا خاصًّا، لطبيعة العلاقة الشائكة بين البلدين بسبب الغزو.
اقرأ أيضا: وقائع التلاعب بذاكرة الكويت لكُره العراق
تحاول كرة القدم دومًا التنصل من سيطرة السياسة، لكن الأمر لا يبدو يسيرًا مهما تقدمت الأيام وتطورت الوسائل، فالخلافات السياسية الحالية بين قطر وعدة بلدان عربية لها أثر كالعادة على كرة القدم.
تناقلت مواقع عربية وعالمية عدة، عن موقع «The Local» السويسري، تصريحات منسوبة إلى «غياني إنفانتينو»، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، مفادها أنه تسلم طلبات من ست دول عربية لسحب ملف قطر لاستضافة كأس العالم.
بالطبع أنكر «فيفا»، وكذلك أنكرت بعض الاتحادات المذكورة، وتأكد زيف الخبر بعد أن أعلن موقع «The Local» أن الخبر انتشر عبر «نسخة مزيفة من الموقع». لكن قرارات أخرى ربما تدفع إلى تصديق ما حدث، مثل انسحاب نادي الأهلي المصري من بطولة كأس العالم للأندية لكرة اليد بسبب إقامتها في قطر، وكذلك قرار بعض الدول عدم استقبال إشارة بث قنوات «beIN» القطرية.
القادم من الأيام سيشهد تطورات أكبر بالتأكيد، فبحكم الجوار، لا بد أن تلتقي إحدى الدول العربية الستة قطر في منافسة دولية رسمية، فهل ستنتصر السياسة أم تفعلها كعادتها كرة القدم؟