لطالما كانت معظم جدليات جمهور كرة القدم في جميع أنحاء العالم حول أحقية فريق بالفوز على آخر، إما في مباريات معينة أو حتى في بطولات مهمة. لكن نادرًا ما نرى نقاشًا على نطاق أوسع وأشمل، حول أهلية النظام أو المؤسسات المنظمة، ومدى حرصها على تطبيق العدل. يزعم الكاتب أليخاندرو تشاكوف في مقالة له نشرت على موقع ذا أتلانتك أن كرة القدم لا تكترث بتحقيق العدل في المنافسة، فكيف ذلك؟
مقاومة وتلكؤ
يدلل تشاكوف في مقالته بأهم سوابق الظلم، وما كان ليحدث لو وُجدت التقنيات آنذاك، فيذكر أن تاريخ كأس العالم حافل بالظلم؛ فلقد أسهم هدف «يد الإله» الشهير للاعب الأسطوري دييغو مارادونا في فوز الأرجنتين على إنجلترا في ربع نهائي كأس العالم 1986، بعد أن استخدم يده لإرسال الكرة إلى شباك المرمى.
وفي نهائي كأس العالم 1966 بين ألمانيا الغربية وإنجلترا، لم تتجاوز تسديدة المهاجم الإنجليزي جيف هيرست خط المرمى؛ إلا أن الحكم اعتبره هدفًا، واضعًا البريطانيين في المقدمة بعد تعادل مستعر.
ويشير الكاتب إلى أنه لو أتيحت الأجهزة الإلكترونية في ما مضى، لأسهمت في تصحيح أخطاء الحكام في عديد من الحالات، ما يؤثر على نتيجة المباراة، وبالتالي على تاريخ كرة القدم.
لكن هذه الرياضة كانت تقاوم مثل تلك التقنيات حتى وقت قريب، فلم تُعتمد الأجهزة الإلكترونية التي تستشعر تجاوز الكرة لخط المرمى إلا في نسخة 2014 من كأس العالم، وفي هذه النسخة اعتمد فيفا أخيرًا تقنية إعادة الفيديو، التي تسمح باجتماع حكم الفيديو المساعد (أو حكم الـVAR) مع ثلاثة حكام في غرفة عمليات للتواصل مع الحكم الرئيسي خلال المباريات، ليعينوه على اتخاذ القرارات الصعبة.
ويطرح الكاتب مسوغات ادعائه الجريء، فيبدأ بمشكلة تحديد اللقطات التي تستحق الرجوع إليها. فمع التسليم بإمكانية تعديل القرارات من خلال الفيديو، إلا أن قرار الرجوع إلى اللقطة من عدمه هو قرار حكم الساحة وحده.
تعقيدات تقنية الفيديو تهون أمام واقع أن الخداع أصبح جزءًا لا يتجزأ من اللعبة؛ فكرة القدم كرياضة لا تكترث بسمو الأخلاق والعدالة.
في الشوط الأول من مباراة ألمانيا والسويد في كأس العالم 2018، رفض الحكم الرجوع إلى لقطة تبدو ركلة جزاء واضحة على مدافع ألمانيا ضد المهاجم السويدي. وفي مباراة البرازيل وبلجيكا في ربع النهائي، رأى حكم المباراة أن لقطة عرقلة المدافع البلجيكي فينسنت كومباني للمهاجم البرازيلي غابرييل جيسوس لا تستحق المراجعة، مع أن الحكم وقف في منتصف الملعب يستمع من خلال سماعته لبرهة. وأزيد على ما ذُكر في المقالة حادثتين داخل منطقة الجزاء لم يرجع لهما الحكم في مباراة البرتغال والمغرب، حين دفع المدافع البرتغالي فونتي المهاجم المغربي خالد بوطيب، ولمس المدافع الآخر بيبي الكرة بيده.
يستأنف أليخاندرو الحديث عن الوضع النفسي والمزاجي للحكم، فقد بدا على الحكام التردد في طلب الإعادة في كثير من الأحيان، ربما لأنهم لا يريدون الظهور بمظهر هش؛ فاللاعبون سرعان ما يستشعرون تردد الحكام.
بل يظهر حتى أن بعض اللعبات محصنة ضد الفيديو، فالتدافع والشد أثناء تنفيذ الركنيات مثلًا يتجاهله الحكام معظم المرات؛ وقد يكون سبب هذا التساهل تصورهم أن المباراة ستحتوي على العديد من ضربات الجزاء حال التدقيق في مثل هذه اللعبات.
يضيف الكاتب أن الإعادة لا تعطي صورة دقيقة تمامًا، فالإعادة البطيئة لا تضمن دائمًا إظهار التعمد أو الأثر. وما يصعب العملية هو تمرس كثير من اللاعبين المحترفين في فن الخداع، فيُظَن أن المتعمَّد حادثًا، مثل أن يلمس مرفق اللاعب رقبة الخصم «عن غير قصد»، أو أن يفقد المدافع توازنه فيقع على قفص المهاجم الصدري «عن غير قصد».
إن حالة مثل دعس اللاعب المكسيكي ميغيل لايون كاحل المهاجم البرازيلي نيمار المصاب سلفًا في ثمن نهائي كأس العالم، هي الحالة التي لا يبقى للحكم فيها غير حدسه في الفصل. ولقطة نطحة المدافع الكولومبي ويلمار باريوس الغريبة للاعب الوسط الإنجليزي جوردان هندرسون هي حالة مشابهة أيضًا.
أهي مشكلة تقنيات أم مشكلة سلوك؟
مباريات كرة القدم تتضمن كمًا هائلًا من الأحداث، ويتنافس خلالها 22 لاعبًا لمدة 90 دقيقة، وما يهم هو حدث واحد فقط: إدخال الكرة إلى الشباك، وبالتالي يتحتم عليها أن تكون سادية وممتعة بغياب العدالة عنها. فنظام اللعبة حافز للاعبين كي يتلاعبوا بالتفاصيل لغرض تسجيل الأهداف.
أثناء كأس العالم 2018، حازت لقطات تمثيل نيمار على النصيب الأوفر من الميمز، إلا أن لقطات التلاعب والاحتيال في كرة القدم أوسع وأكثر تنوعًا؛ فالحراس يتقدمون خطوة حتى تزيد فرصة التصدي لركلات الجزاء، والمدافعون يرفعون أيديهم خلال الارتقاء تظاهرًا بعدم لمس الخصم، واللاعبون يتظاهرون بالتضرر حتى يكسبوا الأخطاء، وآخرون يتظاهرون بالإصابة لتضييع الوقت، وما تمثيل نيمار إلا أوضح الخداع.
يستدل الكاتب بمباراة إنجلترا وكولومبيا في ثمن نهائي كأس العالم 2018، ويصفها بمسرحية شاهدنا فيها نحيبًا وخداعًا وتمثيلًا سيئًا، وهذه دلالة على أن الخداع في كرة القدم ليس مرهونًا بثقافة معينة ولا بعطل البوصلة الأخلاقية عند بعض اللاعبين.
تعتمد نسبة حدوث هذه الألاعيب على عوامل متغيرة، تبدأ من مدى أهمية المباراة مرورًا بالحالة النفسية لفريق الخصم، وتنتهي بإدراك اللاعبين مدى سيطرة الحكم على المباراة. وبالطبع فإن سعي الفريق نحو تغيير مجريات المباراة لصالحهم أمر طبيعي.
البقاء للأقوى
يزعم أليخاندرو أن كأس العالم تفرز بعض هذه الصفات الطبيعية، بالتشديد على مبدأ «الفائز يظفر بكل شيء». لا يمكن لبطولة يُحدد الفائز بها عبر نتائج ثلاث مباريات في المجموعات وأربع إقصائية أن تصطنع اهتمامًا بالغًا بالأداء أو العدالة.
يصرح تشاكوف بأن البطولة تقتات على المأساة، وعلى المفاجآت. ولعل انعدام القدرة على التنبؤ هو أفضل الإيجابيات في عالم كرة القدم القذر؛ فلن يجد المحتقَر عالَمًا أنسب حتى يثبت نفسه، ولن يلقى المتغطرس ساحة أشد عليه عقابًا. يقول مدرب منتخب ألمانيا السابق يواخيم لوف في تصريح له عام 2017: «نود أن نثق في وجود متنبئين بيننا»، لكنه خرج بعدها من دور المجموعات بعد خسارة من كوريا الجنوبية رغم الفوارق الفنية. حينها فرح البرازيليون مرددين أن «البرازيل هي المرشحة الآن»، قبل أن تصعقهم بلجيكا.
يقر الكاتب بصعوبة المهمة، فيذكر أن انتظار أن يشتمل الفيديو على ضبط الالتزامات الأخلاقية الأعمق والأشمل تقديرًا هو تحميله فوق ما يحتمل. ما إن تنجح ابتكارات كرة القدم في حل معضلة محيرة، حتى تظهر معضلات أخرى.
بوسع المرء ازدراء اللعبة لثغراتها في مسألة التقدير ولنتائجها المجحفة المتكررة، أو أن يتقبلها ببساطة. وعادة ما يكون الخيار في هذه القضية مرهونًا بالفائدة المكتسبة لفريقك.
أخيرًا، يرى أليخاندرو تشاكوف استحالة عدالة كرة القدم، ويؤكد أنها لا تخرج في المجمل عن أصلين: عدم قابلية اللعبة في جوهرها، وعدم رغبة المؤسسات التنفيذية المنظمة لكرة القدم.