ربما تأخرتْ هذه القراءة لمدة تتجاوز العشرين عامًا لمسرحية «مراهق في الخمسين»، التي اعتبرها البعض نشازًا في تاريخ أبطالها، وربما عملًا ليس بمُرضٍ إخراجيًا للراحل فؤاد الشطي.
ربما تأخرت هذه القراءة لأسباب مختصة بموت الناقد وجعل النقد مقتصرًا على ساحة تصفية للعدوات الفنية وفي أفضل الأشكال مرتعًا للمجاملات، إلا أن ذلك يعطي الحق لسؤال تأخر طرحه كثيرًا، وهو لماذا تأخرت مراجعة التراث المسرحي وغربلته طيلة هذه السنوات، واكتفينا بدور المتفرجين المقدسين لكل ما عُرض في تلك الحقب؟
دون دراسة حقيقية لأنواع المسرح في الكويت، أو حتى لأفكاره التي استُهلكت فرط تكرارهًا في النصوص، فلا إشارة من مشاهد أو ملاحظة ناقد تنقذ المسرح من وهم التقدم الفني الذي بات يهرم من حضوره بلباس الماضي ولغته. ربما يكون من الضروري مراجعة ذلك الإرث ومساءلته بجدية تتجاوز أداء الفنان وصولًا إلى ارتعاشة النص، اللحظة التي يرى فيها الكاتب المسرحي فكرته بفتنة تغويه، وحين يكتبها تأتي بشكل يمنح التأويل فرصها في الحضور.
ربما من الضروري دراسة التراث المسرحي الكويتي باعتباره مكونًا لوجدان الكويتي وبطلًا لذاكرة جمعية باتت تتلاشى مع خشبات المسارح المهترئة، وربما ليس الوقت يسع الكتاب والنقاد لدراسة المسرح، رغم أنهم سيعودون إليه إذ يشعرون بالفاجعة فلا يجدون المسرح في نصوص مطبوعة، بل في منصات تجارية تستحوذ على كل الفن دون أن يكون هناك مرجع سواها.
لعل مسرحية مراهق في الخمسين واحدة من المسرحيات التي تعلن أهمية حضور النقد الدارس للنص، فاستعارة معد المسرحية ومنتجها عبد الحسين عبد الرضا لنص توفيق الحكيم عن مسرحية «سر المنتحرة» أمر لا يضفي الكثير من الأهمية، وقد يظن الكثير بأن دراسة نص توفيق الحكيم الأصلي أجدى من دراسة نص مسرحية مراهق في الخمسين المقتبسة.
إلا أن إضافات المعد عبد الحسين عبد الرضا على النص وتكويته منح النص المسرحي أصالته وخصوصيته، التي جعلت منه نصًا جديدًا ليس فيه من الاقتباس إلا شخصية الدكتور وزوجته والحبيبة، أما الأبناء (بيرق ونور) وعلاقتهم بوالدهم (عبد الباري بيرق) ووالدتهم (نجاة صب القفشة) فهي اشتغالات حقيقية لمؤلفها عبد الحسين عبد الرضا، إنما هي اشتغالات تستحق الدراسة والمراجعة.
حضور أوديب
صنع عبد الحسين عبد الرضا عملًا مسرحيًا يتمادى على النص المسرحي الأصلي، إذ يبحث عن مساحات مشتركة ينطلق بها نحو المحلية، لكنه في لحظة إبداعية يخلق ثنائية بيرق ونور، الابن الأكبر والبنت الصغرى، تلك الثنائية المتناقضة التي لم تكن موجودة أبدًا في مسرحية سر المنتحرة لتوفيق الحكيم، لكنها تظهر بشكل ساخر في عروض مسرحية عبد الحسين عبد الرضا، وعميق في نصه المسرحي كذلك.
ففي اللحظة التي تتسرب من النص المسرحي دوافع الشخصيتين، تنطلق ضحكات الجمهور الهستيرية، لمشاهد تجسد حضور نظرية سيغموند فرويد حول علاقة الأبناء بوالدهم أو والدتهم، أو ما أسماه عقدتي أوديب وإلكترا، بنعومة بيرق وصبيانية نور؛ فهل هناك ما يستدعي الضحك إلى هذه الدرجة؟
يكتب عبد الحسين عبد الرضا مسرحية مراهق في الخمسين منطلقًا من الحب بكل مستوياته، من حب الزوجة والحبيبة والأبناء. وفي تناص مسرحي مع مسرحية سر المنتحرة، يؤمن الحكيم الكاتب المبتكر وعبد الرضا المعد المقتبس بالحب، فحين يذبل الحب في قلب الزوجين، ويتعدى التعايش بأسبابه كل المشاعر، تصير تلك العلاقة الزوجية المقدسة علاقة واجب تؤدى مثلها مثل العمل.
هكذا يذهب الدكتور محمود إلى عمله ويغلق الباب في مسرحية سر المنتحرة، ويتواجد الدكتور عبد الباري بيرق خلف مكتب عيادته منتظرًا مراجعيه الذين لن يزوروه في مسرحية مراهق في الخمسين، وهنا تتناسى إقبال ونجاة صب القفشة زوجيهما وتتمسكان باللقب وحده (حرم الدكتور محمود، حرم الدكتور عبد الباري) الذي يمنح كلًا منهما مكانة اجتماعية، بينما يقع زوجاهما في وهم حب فتاة شابة تدعى عايدة في سر المنتحرة، ويمامة في مراهق في الخمسين.
قد يبدو حتى هذه اللحظة التناص واضحًا، لكن عبد الحسين عبد الرضا يفر إلى بيرق، الشخصية التي يقصدها المؤلف كفاتحة لأسباب الهجر بين الزوجة نجاة والزوج عبد الباري، اللذين ينجبان بيرق الطفل المدلل، الذي يكبر بمشاعر أوديب وعقدته السلبية، إذ يتربى قرب حب والدته المبالغ فيه، ويكبر بتلك المسافة التي تفصله عن والده عبد الباري، المسافة التي تجعله يسعى لإزاحة والده وجعله هامشًا في المنزل بدافع غيرته من والده، ويقابل ذلك رضا أمومي يشجع على تقليص دور الأب ويضخم في المقابل من حضور الابن، لدرجة تنصيبه أبًا متخذًا للقرارات المصيرية كتزويج أخته مثلًا.
لكن المعضلة تتجاوز ذلك، فبيرق الابن لا يقلد الأب عبد الباري في تصرفاته ليكونه في عين والدته وينال نصيبه من الرضا والحب، وتكون عقدة أوديب إيجابية في خلق رجل ناضج، بل يقلد والدته في التصرفات بدلًا من والده، ويكبر بشخصية الرجل الناعم، دون أن يكون نصيبه من والده إلا حظ الاسم والمنافسة.
إلكترا في بيوتنا
في حين تكبر نور ابنة عبد الباري، طالبة قسم التمثيل والإخراج في كلية الآداب، بمشاعر رفض من والدتها التي تجعلها في صف والدها، يقابلها والدها الدكتور عبد الباري بالكثير من الحب والدعم، إلا أن حضورها الصبياني في العرض المسرحي يفضح شيئًا من اضطراب الهوية الجنسية الذي نستطيع تأويله إلى عقدة إلكترا كذلك، ولكن سلبًا.
كان ممكنًا لمعد النص المسرحي أن يجعل لأوديب وإلكترا حضورهما الأكثر سطوة على النص والعرض.
في هذه العقدة تسعى البنت إلى منافسة أمها في كسب والدها، فتبدأ بتقمص شخصية الأم، ما يؤدي إلى تطورها ونضجها الجنسي؛ ولكن في مسرحية مراهق في الخمسين، كما في شخصية بيرق، تتقمص البنت نور شخصية الأب عبد الباري بدلًا من والدتها، ويتضح ذلك في طريقتها في الكلام والتصرفات، ومشاعرها المتشظية بين والديها.
يتضح من شخصيتي بيرق ونور ذلك الاضطراب الواضح في الهوية، الذي يضع مشكلة جانبية لا أدري إن كان الكاتب يقصد خلقها لأجل جعلها مطروحة للنقاش أم لأنها مادة صالحة للتندر والسخرية، فشخصية بيرق الشاب الناعم وشخصية نور المتصبينة شخصيتان مكررتان إلى حد التعب في المسرح الكويتي، إلا أن جعلهما مقرونتين بسياق والأم والأب الجاف والمتذبذب يمنحهما بعدًا آخر ومساحة خاصة تقتضي المعالجة.
كان ممكنًا لمعد النص المسرحي أن يعمق تلك الظاهرة، ويجعل لأوديب وإلكترا حضورهما الأكثر سطوة على النص والعرض بدلًا من اتصالات يمامة ومعجبات عبد الباري بيرق، لكن ثمة صمت أسسه عبد الحسين عبد الرضا الكاتب للشخصيات يدفعني لمثل هذه الكتابة بعد 25 عامًا من عرض المسرحية.
ثمة صمت يخبرنا به عبد الحسين الكاتب حول تربية أوديب وإلكترا في بيوتنا بكل ما فينا من صمت، دون أن يجرؤ أحدنا على فضحه ومده بلسانه الناطق أو العبث به حتى، والاكتفاء بالإشارة إلى تذبذب ما بين عبد الباري بيرق ونجاة صب القفشة ينتج عنه القليل من الارتعاشات والكثير من الصمت؛ هكذا نربي أوديب وإلكترا، وهكذا يكون المسرح حيًا بعد أفول العرض لأكثر من عشرين عامًا.