فاطمة عبد الحميد تروي سيرة بيوت الكبريت في «الأفق الأعلى»

التصميم: منشور

حنان سليمان
نشر في 2023/05/14

«ليس ثمة نهايات سعيدة في حياة تقف على ساق واحدة» ، قاعدة ذكرها راوي «الأفق الأعلى» (مسكيلياني للنشر والتوزيع 2022) وهو الأعلم من موقعه، مقدمًا في الرواية نماذج عديدة في مجتمعاتنا العربية للشخصيات المأزومة المتوارثة لعادات وأعراف قاهرة. 

بين الأم المتسلطة، والأب الغائب، والزوجة المسيطرة، والرجل المُفتَقِد للقوامة، المفعول به، والطفل المنتهكة طفولته، والأبناء المضطرين للنضوج مبكرًا حتى لا يصيروا مسوخًا من أبيهم، والزوج الخائن رجلًا أو امرأة، والسيدة المعيوبة شكلًا، والذكر المعلول والآخر فارغ المضمون، تأتي رواية الكاتبة الأربعينية فاطمة عبد الحميد من صميم الواقع العربي المعاصر في 230 صفحة عبر ثمانية فصول، يميزها بناء سردي بليغ، محكم التكثيف، بديع اللغة والتشبيهات، عالي المشهدية.

يتناول النص الأدبي المنافس على جائزة البوكر العربية لعام 2023 قضايا مثل الوحدة، وتفضيل إنجاب الذكور، والزيجات الفاشلة بأنماطها المختلفة المنزلقة في بعضها إلى الخيانة والتي تارة ترجع إلى الحرمان العاطفي، أو الرتابة الخانقة، إهمال البيت من أجل التفوق المهني، أو غياب القوامة، ومن حكمت حياتهما قاعدة قليل من الثقة مزيد من التكاثر بافتراض أن الرجل تكبح الأبناء جماحه.

زواج سليمان الريس حدث يشكل محور الرواية. سليمان وحيد أمه، يتيم، تزوج من نبيلة التي تكبره بنحو العقد، وبين ليلة وضحاها صار مطلوبًا منه أن يفعل مثلما يفعل الرجال، دون أن يشرح له أحد ماذا عليه أن يفعل على وجه التحديد. 

المؤلفة وإن كانت سعودية، فإن الفضاء السردي لروايتها ليس ذا خصوصية محلية، وحيّ «بدَّار» بوصفه المكان الرئيسي في الرواية، ما هو إلا مثال للأحياء العربية كافة من شرقها إلى غربها لا يضيق بأيها. يُعرّي النص بيوت الكبريت الهشة، يقتحمها ليروي سيرتها، ولما كان البطل سليمان هو أصل الحكاية، جعلت الكاتبة من هواياته بناء بيوت من أعواد الثقاب ليذكرنا دومًا بمآل ما يبني طيلة الرواية. هذه بيوت تتصنع نموذج العائلة السعيدة، بل تُجيد اللعبة أحيانًا فتنطلي على الآخرين، بينما هي، في الحقيقة، على شفا الاشتعال. 

العُرف الحاكم لهذه البيوت المُرساة على أساسات رخوة قابلة للاحتراق هو الرغبة في استمرار سلالة العائلة خاصة لدى أولاد الذوات أيا كان الثمن، وإن كانت الهشاشة جُلّ نصيبها، وإن عمَّها الخواء ولوَّثتها الخيانة، فالمهم هو الشكل المجتمعي، الزواج كسبيل للإنجاب، التظاهر بالنموذجية وادعاء الفضيلة والمظهر الخارجي، أي شيء عدا ذلك مقدور عليه مادام تحتويه جدران البيوت، أي خلل يهون مادام تكتمه الصدور، ولا فرق في هذا بين غني وفقير.

الطفل زوجًا

حدث واحد يشكل محور الرواية، منه تُنسج الخيوط، ومنه كان التشظي، هو زواج سليمان الريس مبكرًا بقرار من السيدة حمدة. سليمان وحيد أمه، يتيم، تزوج من نبيلة التي تكبره بنحو العقد، وبين ليلة وضحاها صار مطلوبًا منه أن يفعل مثلما يفعل الرجال، دون أن يشرح له أحد ماذا عليه أن يفعل على وجه التحديد. 

لا يتمحور الصراع في الرواية حول زواج رجل بامرأة تكبره سنا، أو زواج امرأة من رجل يصغرها، وإن لاقى هذا الفعل همسا وتهكما ليس بقليل من المحيطين في مجتمعاتنا، وما يعنيه ذلك من أحكام ورفض ووصم أحيانا قد ينسف علاقة شرعية أحلَّها الله وحرَّمها الناس، لا يعيبها إلا العُرف وما وجدنا عليه آباءنا دون نظر. وإنما الصراع متولد عن تعجل ما هو آت، عن طفولة سليمان الموءودة بزواجه وهو طفل في الثالثة عشر من العمر، ومطالبته بأن يتصرف كرجل وهو يفتقد حس المسؤولية، بل يفتقد الرغبة الفطرية من الأساس لأنه ما زال ولدًا.

أُجبر سليمان على هجر كرة القدم التي يحب، جُرَّ من أذنيه حتى صارتا كأذني الوطواط ليمكث بعيدًا عن الملعب ويُلقى به إلى عروسه، بل حُرم من الطعام حتى يختلي بها وينجبان الولد، الولد تحديدًا فأمه غير راغبة في حفيدات. خنق القطة ليكبر سريعًا، وهمّ بالانتحار حين داهمه الفشل الحياتي. لسبب ما تبدو السيدة حمدة على قناعة بأن طفلها سيجد طريقة لفهم ما عليه أن يفعل في خلوته بزوجته، وإن تفجرت فيه الإثارة بعد أكثر من عام على ارتباطه، ومجددًا كانت الكرة سببًا في هذا التحول.

عمرٌ كامل عاشه سليمان في حرمان من حياة كان يُفترض أن يعيشها، ونُضج طُلب قبل الأوان، فلا صار ثمرة طيبة، ولا هو بقى على حالته الأولى، بل عاش حالة البين بين، تتعارك نساؤه لاسترداد حقه. هو رجل تقوده امرأته، وأب لا يمارس الأبوة لثلاثة أبناء، غير جدير بحمل المسؤوليات، حتى عند وفاة زوجته التي يقول في الصلاة عليها: «ها هي نبيلة القائِدة، حتّى وهي مُسجّاةٌ في نعش، تتقدّمُنا، ونحنُ كلُّنا نسِيرُ خَلْفَها».

عاش سليمان في ظل زوجته بِعَلكة لا تبرح فمه ودون كفٍ عن فرقعات المستكة، رجلًا طفلًا لم ينهه كِبَرُه وعقده الستيني عن مبارحة كل أمله في الحياة بالعودة إلى الملعب للعب مباراة كرة قدم في عمر متأخر، ستكون مباراة اعتزاله الحياة. عمرٌ كامل عاشه ولا يغيب عن ذهنه هتاف «سليمان سليمان يحرد من بيت العرسان» الذي تغشّاه مذ كانت أمه ترشي رفاقه بالحلوى والمال حتى لا يسمحوا له باللعب معهم، فقد صار عليه تركهم ومجالسة آبائهم الرجال.

الشائع أن نسمع عن فتيات صغيرات لم يبلغن بعد وقد زُج بهن إلى قفص الزوجية في عملية بيع يقننها العُرف ويتحصل منها الأهل على ما يملأ الجيوب والبطون، لكن أن يتحول الأولاد الصغار إلى أزواج، بل أن تكون زوجاتهم أنضج منهم بسبب فارق العمر لصالح المرأة، فهذا ليس بالأمر المنتشر، بخاصة وأن سليمان الريس في النهاية لا نصيب له من اسمه، فلا هو صاحب أملاك ولا جاه كما مدلول اسمه الأول، ولا هو ريّس في شيء بل تابع يخلف المرأة التي تتسيده، أمه ثم زوجته، فما الذي حمل نبيلة على قبوله؟

صفقة العمر

تنظر نساء «الأفق الأعلى» إلى الرباط المقدس باعتباره صفقة مادية وغنيمة وفيرة. السيدة حمدة في أسرة الريس تستغل الاحتياج الفطري للشريك لدى نبيلة لتعرض عليها ابنها سليمان الذي يصغرها بأحد عشر عامًا. في المقابل، سيتغاضى سليمان وأمه عن وحمة نبيلة البنية، «اللطخة» على وجهها التي تنتقص من جمالها وتخاف معها أن يفوتها الرجال. 

حذرتها الأم وهي تُذكِّرها بعيبها الذي تقايض عليه من أن «انتظار بضع سنوات أهون بكثير من عمر يتراكم في انتظار فراش لن يدفأ برفقة أحدهم»، فقبلت نبيلة بزوج طفل ظل يبكي إلى جوارها في أولى لياليهما معًا. وحين زارها ملك الموت ليقبض روحها، تمنت لو جاءها في بداية زواجها حين كان عليها عبء تحويل سليمان إلى رجل. 

نبيلة نفسها تفعل مع ابنها البكر ما فعلته معها حماتها وهي ابنة خالها، تختار له إحدى تلميذاتها، وتقنعه أنها اختيار جيد ستساعده في التغلب على التلعثم، مشكلة لم يدرِ أنها لديه أصلًا. ولما علمت صبيحة زواجه أنه لا يعرف ما يفعل الرجال في زواجهم، شرحت له كما شرحت من قبل لزوجها الطفل، ومع الشرح هوت قدسيتها في عينيه. 

في المقابل، تستغل الأم في أسرة أخرى هي أسرة «الصاهد» الغنية احتياج امرأة بائسة لعيشة كريمة تُدعى سمر، لتعرض عليها ابنها فاضل ذا القلب المعلول. على أثر المقايضة، تعيش سمر عمرها وحيدة في شقاء عاطفي على مشارف سن اليأس، تدفع ثمن اختيارها في شقة فاخرة. ترى نفسها كلبة هرمة بجسدها المترهل جرّاء الولادة القيصرية، لا يأتيها زوجها في العام إلا مرتين أو ثلاثة، أما الطلاق فيعني خسارة رهان العمر وفقدان كل ما اكتسبت.

نماذج النساء التي تقدمها فاطمة عبد الحميد في روايتها هنا تنتمي في الغالب لقالب واحد هو قالب الأنثى التي لا تظهر ضعفها.

تساؤلات النوع 

يمكن القول بتصاعد خط روايات النوع وعلاقات الحب الملتبسة، التي يقع فيها شريكان هما زوج وزوجة في علاقتين أخريين، وبوضوح. هذه الروايات قفزت مع مطلع العقد الحالي من مجرد الطفو على الساحة الأدبية إلى الوصول لقوائم جائزة مرموقة كالبوكر العربية بل وحصدها أحيانًا. في العام الماضي فازت بالجائزة رواية الكاتب الليبي محمد النعاس «خبز على طاولة الخال ميلاد» التي تتناول المفهوم المعقد للرجولة في المجتمع العربي، وفي العام سابقه دخلت «الاشتياق إلى الجارة» للكاتب التونسي الحبيب السالمي في القائمة القصيرة، وها هي «الأفق الأعلى» في السنة الثالثة. في الروايات الثلاثة كانت هناك دومًا شخصية الزوجة الخائنة. 

اللافت أن رواية النعاس صدرت عن دار «رشم» السعودية بالاشتراك مع «مسكيلياني» التونسية، والأخيرة هي ناشر رواية «الأفق الأعلى» كذلك.

نماذج النساء التي تقدمها فاطمة عبد الحميد في روايتها هنا تنتمي في الغالب لقالب واحد هو قالب الأنثى التي لا تظهر ضعفها، المتفوقة على الذكر دراسيًّا ومهنيًّا وفي الجمال والقيمة، من بُرمجت على وضع الأمومة المهيمنة أمًّا كانت أو زوجة، تُخرس الضحكات، وربما تنتقم من كل زوجة سعيدة تطالها يدها لأنها بائسة مع شريكها. سمر كانت نموذجا آخر لهذا أحبها سليمان.

لكن الكاتبة أيضًا تنتصر بين السطور لبعض القيم منها مثلًا الاهتمام بالبيت ومتطلبات الزوجية وعدم الاكتفاء بالتفوق المهني. نقرأ «إنّها تفتقِدُهُ كما لو أنّه كانَ الجزءَ الوحيدَ المتحرّكَ منْ حياتِها، رغم كلِّ النّجاحاتِ المهنيّةِ التي حقّقتْها».

تبرهن لنا الرواية على أن فاقد الشيء يعطيه إذا ما زُرع في محيط آخر غير محيط الأزمة، هكذا ذاق سليمان الحب مع جارته التي ينهش فيها الحرمان العاطفي، لتبدأ أحاديث الشرفة والنافذة والسمر مع «سمر». في هذه العلاقة عاشا حياة بديلة، قصة عاطفية غريبة لم يَرِداها من قبل. قطع فيها شوطًا نحو الرجولة فصار يحتوي ويحب ويحتد وينهي ويأمر فيُطاع ويغضب ويكسر، وأحبت سمر كفتاة في العشرين.

الرواية تؤنسن الخطيئة ولا تشيطنها، بخاصة في حالة سمر التي أدماها حالها فحاولت الانتحار، تجعل القارئ يتفهم ما ألَّم بها من ظروف ومكابدة دفعتها إلى الخيانة القلبية والجسدية، ففي العادة تُغفر الخيانة الزوجية للرجل، أمّا المرأة فلا، على شدة وقعها في الحالتين. 

لكن الرواية أيضًا تثير أفكارًا وتساؤلات عن الطمع والإرادة والأولويات، فليس كل الأبطال ضحايا، إلا أن البعض يختار حياته ويهوى أن يراه الآخرون مُجبرًا عليها، رغم تملكه زمام تغيير الدفَّة طيلة الوقت، مُستدِّرا عطفًا وشفقة ليست في محلها. نعرف مثلًا أن زوج سمر في الأوراق هو مريض قلب، فإن منعته صحته منها، فكيف يفسر بخله بالمشاعر والحضور؟ وكيف يفسر غيابه عن حياة الابن والابنة ودوره في حياتهما الذي لا يكاد يُذكر مع انشغاله بالسفر رفقة أصحابه؟ 

من الجدير بالذكر أن الرفض المجتمعي للعلاقات التي تكون فيها المرأة أكبر من الرجل ليس حكرًا على العرب، كما تعبر الكاتبة الفرنسية النوبلية آني إرنو في روايتها «الشاب» الصادرة العام الماضي، وفيها تحكي عن علاقة قديمة جمعتها بشاب يصغرها بنحو 30 عامًا ونظرة الأصدقاء بل والأغراب لهما. غير أن الأخذ بإرث أدبي لأديبة فرنسية تبلغ من العمر 82 عامًا دون اعتبار للتغيرات التي مرت بفرنسا وأوروبا لن يعطي الانطباع الصحيح عن المجتمع الفرنسي اليوم، حيث الرئيس نفسه متزوج من امرأة تسبقه بربع قرن، وحيث لم يعد هناك مأزق للحمل خارج الزواج، وهي قضية تناولتها إرنو في روايتها «الحدث». إرنو في العادة تحكي عن أحداث عاشتها قبل ثلاثين عامًا أو أكثر. 

الموت راويًا

بعيدًا عن كل ما سبق من علاقات متشابكة، تخطفك عتبات هذا النص بدءًا من العنوان إلى تفاصيل الغلاف، وفي الاستهلال تقرأ: «أنا أسوأُ مخاوفِكَ، وأنا كاتمٌ سِرَّ زيارتِي المباغتةِ لكَ، وهذا ما لنْ يحبَّهُ كلُّ مَنْ يهتمُّ بأمْرِك. ولتعلَمْ فحَسْب، أنّه لا فرقَ بيْنَ أن تُولِّيَ وجهَكَ شطْرَ الحائطِ لحظةَ وصُولي أو أن تُولِّيَ له ظهْركَ، ففي كلتا الحالتينِ لنْ تستطيعَ منِّي إفْلاتًا. لأنّني سأكونُ حِينَها أضْخَمَ نفُوذٍ يسْتَولي عَليْكَ».

سرعان ما تدرك أنك إزاء صوت راوٍ عليم فريد وغير مستساغ، هو الصوت الذي يفر منه الناس. الراوي في هذه الرواية هو صاحب اللمسة الأخيرة والألم الأخير، هو ملك الموت الذي من عليائه يرى العالم بأحيائه يتحركون كنقاط كثيرة صغيرة تُقبَض على حين. 

يصوره الغلاف وكأنه مُطّلع على ما حوته صدور الشخوص، كأنه يقرأ من نافذة إسرارهم فلا شيء يستغلق عليه. لكن الاستهلال الخاطف ما يلبث أن يخفت مع الدخول في العلاقات المتشرذمة التي تتقاطع خيوطها مع محيطك الاجتماعي بشكل أو بآخر، وكأن هناك تجاذبًا بين فكرتين تتنازعان على القارئ، وكلما هممتَ بنسيان صوت الراوي والانهماك في الأحداث، باغتك بساعة الصفر التي قبض فيها أرواحًا في نهاية بعض المقاطع، ليذكرك بحقيقة أنه المحيط بهذا النص المميز، وإن أحدث تقديم بعض شخوصه ربكة في المتابعة.

هذه المراجعة جزء من ملف جائزة البوكر العربية: «منشور» يراجع الكتب المرشحة في القائمة القصيرة.

مواضيع مشابهة