في بداية فصل دراسي جديد بجامعة كاليفورنيا، وعندما كان المؤرخ «نير شافير» يضع اللمسات النهائية على منهج العلوم والتاريخ الإسلامي الذي سيحاضر فيه طلاب الجامعة، اكتشف أمرًا غريبًا بعض الشيء في كتاب المادة الذي يُفترض أن يكون مَرجعًا لطلابه.
لم تكن المشكلة متعلقة بالمحتوى، بل بغلاف الكتاب نفسه، الذي كان مزخرفًا وتتوسطه مُنمنمة تُظهر علماء يرتدون العمائم والملابس ذات الطابع الإسلامي في القرون الوسطى، ويتأملون السماء عبر تلسكوبات.
انتشر فن المنمنمات في مرحلة مبكرة من التاريخ الإسلامي، بعد أن انتقل إلى الإمبراطورية الإسلامية من جيرانها، تحديدًا الفُرس والهند. والمنمنمة صورة مُصغرة تحكي قصة ما أو فكرة بعينها. من أوائل المنمنمات في التاريخ الإسلامي، ما وضعه الفنان مصاحبًا لكتاب كليلة ودمنة.
هذه المنمنمة التي رآها نير شافير على غلاف الكتاب، كان مذكورًا تحتها أنها تعود إلى فترة مبكرة من التاريخ. لكن شيئًا ما كان غامضًا حيالها بالنسبة إلى شافير. ما ضايقه ليس الألوان الزاهية جدًّا، ولا أن ضربات الفرشاة على الرسمة كانت مُحددة ونظيفة للغاية، لكن ما لفت نظره كان التلسكوبات. وبالرغم من أن التلسكوب كان معروفًا في الشرق الأوسط، بعد أن طوَّره «غاليليو» في القرن السابع عشر، فلم توجد تقريبًا أي منمنمة أو رسومات توضيحية صوَّرته إطلاقًا.
تتبع شافير مصدر الصورة الكاملة، فوجد فيها شخصين آخرين. أحدهما أيضًا ينظر خلال تلسكوب، بينما الآخر يدوِّن ملاحظات على عجلٍ ويده تدور حول مجسم للكرة الأرضية، وهي شيءٌ آخر نادرًا ما كان يُرسم. مع ذلك، كان التناقض المطلق الذي يصعب تجاهله مُتجسدًا في الريشة التي يدوِّن بها الشخص الأخير، لأن علماء هذه الفترة من التاريخ كانوا دائمًا يكتبون بأقلام مصنوعة من القصب، وليس الريش. حينها لم يستطع شافير أن يُنكر أن هذه المنمنمة تزوير معاصر، مُتخفِّي في صورة زخرفة من القرون الوسطى.
في مقالٍ نُشِر في مجلة «Aeon»، يجيب شافير عن الأسئلة التي قادته إليها هذه المنمنمة المزيفة: لماذا زُيفت؟ وكيف وصلت إلى الظهور على غلاف كتاب يُدرَّس في الجامعات؟ ومَن المُستفيد من تزويرها وتزييف الحقائق التي تتضمنها؟
خداع لا يُحتمل أثره
تمتلئ متاحف كاملة بمنمنمات مُعاد تخيُّلها مراد بها تمثيل التقاليد العلمية في العالم الإسلامي.
يرى شافير أن هذه المنمنمة ليست حالة فريدة من نوعها. إذ توجد واحدة من الصور المنتشرة على موقع فيسبوك و«Pinterest» تصوِّر شياطين تُشبه الديدان وتتقافز فرحًا داخل ضرس. انتشرت هذه الصورة باعتبارها توضيحًا للمفهوم العثماني لتسوس الأسنان، وأُضيفت إلى مكتبة «بودلي» في أكسفورد كجزء من مجموعة عن الروائع الشرقية.
تُصوِّر منمنمة أخرى طبيبًا يُعِد الأدوية لرجل يعاني من الجدري، وموجودة في مكتبة جامعة إسطنبول التي تزعم أنها من كتاب «القانون في الطب» لابن سينا. هذه الصور الحديثة ليست في الواقع «استنساخًا» لصور موجودة، بل هي «إنتاجات» جديدة ومزيفة كليًّا، وتُصنَع لجذب الجمهور المعاصر من خلال ادعاء تصوير علوم الماضي الإسلامي البعيد. هذه الصور ليست إلا تصورات المستشرقين، المزيفين منهم تحديدًا، عن شكل المنمنمات وأنماط الحياة في هذه الفترة من التاريخ الإسلامي.
أخذت هذه الأعمال تخرج عن مسارها من محلات إسطنبول السياحية وسوق «البازار» الكبير، ووجدت طريقها إلى إعلانات المؤتمرات والمواقع التعليمية والمجموعات المعروضة في المتاحف والمكتبات. تتخطى المشكلة السياح السذج والأكاديميين الذين يقعون ضحية الخداع من حين إلى آخر، إذ إن عددًا من دارسي تاريخ العلوم الإسلامية تورطوا في نوع مماثل من التزييف. توجد حاليًّا متاحف كاملة مليئة بأشياء مُعاد تخيُّلها ومصنوعة في السنوات القليلة الماضية، لكن المراد بها هو تمثيل التقاليد العلمية في العالم الإسلامي.
المفارقة هنا أن هذه المنمنمات المزيفة ثمرة تفكير إيجابي، وهو الرغبة في دمج المسلمين في مجتمع سياسي عالمي من خلال قصة العلوم العالمية. تبدو هذه الرغبة ضرورية أكثر لمواجهة المد المتصاعد من «الإسلاموفوبيا».
لكن ماذا يحدث عندما نبدأ فبركة الأشياء من أجل الحكايات التي نرغب في روايتها؟ ولماذا نتقبل الأشياء المزيفة ونرفض الآثار المادية الحقيقية للماضي الإسلامي؟ ما هي تحديدًا صورة العلوم التي نأمل أن نجدها في الإسلام؟
هكذا يتساءل شافير، إذ يرى أن هذه الأشياء المزيفة تكشف أكثر من مجرد تفضيل الناس للخيالات على الحقائق، بل تُشير إلى مشكلة أكبر حول التوقعات التي يضعها كلٌّ من العلماء والجمهور في ما يتعلق بالماضي الإسلامي وتراثه العلمي والسياق الذي نشأت فيه حضارة ما.
تكتشف العين البصيرة أن غالبية المنمنمات المباعة في سوق البازار الكبير بإسطنبول، مزيفة بشكل واضح: الصبغات الصناعية لامعة وزاهية، وموضوع المنمنمة بدائي للغاية.
بعض هذه الصور تحمل أحيانًا توقيع الفنان وتاريخًا حديثًا لتُعلن أنها إبداع حديث، لكن بعضها الآخر أكثر ازدواجية. يمزق المزوِّر صفحات من مخطوطات قديمة وكتب مطبوعة، ثم يلون النص ليُعطيه المظهر الخادع للكتابة والورق القديم، ويمكنه ختم الصور بأختام ملكية مزيفة، وتُباع على أنها منمنمة حقيقية.
مع هذه الإضافات، بمجرد أن تغادر المنمنمة السوق وتشق طريقها إلى الإنترنت، يصبح من الصعب القول إنها مزيفة. تلعب خدمات الصور الفوتوغرافية دورًا أساسيًّا في نشر هذه الصور بسرعة، ما يجعلها متاحة للاستخدام في المقالات والمدونات والمجلات. من هناك، تنتقل الصور إلى المنصات الرئيسية لثقافتنا المرئية والمستخدَمة بشكل يومي: إنستغرام وفيسبوك وبنترست وغوغل. في هذه البيئة الرقمية الهائلة، يمكن حتى لخبراء العالم الإسلامي أن يخطئوا في التمييز بين هذه الصور والآثار القديمة الحقيقية.
منمنمات تحت الطلب
حتى إذا كانت الصور المحاكية للمنمنمات بدائية وبسيطة، فإنها لا تزال تجذب الجماهير.
ما يثير القلق أكثر الصور التي يغيرها الفنانون لتتوافق مع توقعاتنا الخاصة. كانت الصورة على غلاف كتاب المؤرخ شافير، والتي يظهر فيها الرجال الناظرون إلى السماء ليلًا من خلال تلسكوب، مقتبَسة من الشخصيات الموجودة في منمنمة المرصد الفلكي في إسطنبول.
المزور، بكل سهولة، يحوِّل عالِمًا يرفع أمام عينيه «السدس» (آلة فلكية قديمة تُستخدَم لقياس المسافة بين الأجسام الفلكية) إلى رجل يستخدم التلسكوب في نفس الوضع. إنه تغيير خفي ومتقن، لكنه يغيِّر معنى الصورة بإضافة أداة لا نملك لها أي رسومات في المصادر الإسلامية، لكن نربطها بعلم الفلك المعاصر بسهولة.
حتى إذا كانت الصور المحاكية للمنمنمات بدائية وبسيطة، فإنها لا تزال تجذب الجماهير، مثل زائري الموقع الإلكتروني لمعرض «العلوم في الإسلام» الذي أنشئ عام 2013 بمتحف «تاريخ العلوم» في أكسفورد. أخذ الموقع، الذي يهدف إلى تثقيف طلاب المدارس الثانوية، الصورة من موقع إلكتروني مشابه يديره متحف «ويبل» لتاريخ العلوم بجامعة كامبريدج، والذي بدوره حصل عليها من تاجر في إسطنبول، وفقًا لسجلات المتحف الخاصة.
متحف «مجموعة ويلكوم» في لندن، وهو مؤسسة أخرى تحظى باحترام كبير، ومختصة في الأمور المتعلقة بتاريخ الطب، احتوى على عدد من المنمنمات سيئة النسخ التي توضح النماذج الإسلامية للجسم في الإمبراطورية العثمانية، والمكتوب عليها بلغة عربية مزيفة وغريبة ودون مصدر مُلحَق.
لم يجدوا التاريخ، فصنعوا واحدًا جديدًا
يقع متحف «تاريخ العلوم والتكنولوجيا في الإسلام» (Islam Bilim ve Teknoloji Tarihi Müzesi) بالقرب من مسجد «آيا صوفيا» في إسطنبول. يبدأ الزائر جولته برؤية أدوات فلكية، ثم تتغير المعروضات من الأدوات الحربية والبصريات، وصولًا إلى أمثلة عن الكيمياء والميكانيكا، بينما يتجول الزائر بين شاشات العرض، وتزداد جرعة الخيال بالمرور على الغُرف والمعروضات.
يصل الزائر في النهاية إلى قسم الهندسة. هناك، يجد آلات إسماعيل الجزري الغريبة والمعقدة، وهو عالِم من القرن الثاني عشر، وغالبًا ما يُدعى «أبو الهندسة المسلم».
هناك اكتشاف واحد فقط في النهاية. جميع المعروضات نُسخ، بعضها متخيل تمامًا. لا شيء في المعرض يتجاوز عمره العقد أو العقدين، ولا توجد آثار تاريخية في المتحف إطلاقًا. الأدوات الفلكية مُعاد إنشاؤها بمساعدة قطع في متاحف أخرى، والأدوات الكيميائية الغريبة التي لم يُعثَر على أي نسخٍ لها في أي وقتٍ مضى في الشرق الأوسط، صُنعت فقط لتعبئة المتحف.
هذا التزييف الكلي في حد ذاته ليس أصل المشكلة، حسب رأي شافير. فبعض القطع نادرة حقًّا، وبعضها الآخر قد لا نجده اليوم. لكن من المفيد أن نرى إعادة التكوين في النماذج والمنمنمات، ما يجعل هذا المتحف فريدًا هو رفضه شبه الكلي لجمع الأشياء التاريخية الحقيقية، حتى إن إدارة المتحف لم تُعلن صراحةً، ولم تُبرر قط حقيقة أن مجموعتها تتكون من معروضات مُعادٌ إنتاجها. إنهم ببساطة يعرضونها في الواجهات الزجاجية دون محاولة لتعيين موقعها في تاريخ الحضارة الإنسانية، بخلاف ذكر تواريخها ومواقعها الأصلية.
هناك رغبة في استخدام المنمنمات كرؤية إيجابية للعلوم لتخليص الإسلام من التعرض للإسلاموفوبيا في الآونة الأخيرة.
ما الدور الذي يؤديه أي متحف لا يحتوي على أشياء تاريخية حقيقية، وبخاصةٍ إن كان متحفًا للتاريخ، ودون أن يخبر زائريه عن حقيقة ما يعرضه؟
متحف «تاريخ العلوم والتكنولوجيا في الإسلام» ليس الحالة الوحيدة. تنتهج متاحف أخرى النهج ذاته، مثل متحف «صابونجي أوغلي» (Sabuncuoğlu) لتاريخ الطب في مدينة أماسيا شمال تركيا، وكذلك متحف «ليوناردو دافنشي» في ميلانو بإيطاليا، والذي يصنع الآليات التي رسمها دافنشي في دفتر ملاحظاته.
عكس المنمنمات المزيفة في المزادات، لم تُبنَ هذه المؤسسات بغرض خداع السياح. واحد من أهم مؤسسي متحف تاريخ العلوم والتكنولوجيا في الإسلام، الباحث الراحل فؤاد سزكين، وهو كذلك مؤسس معهد «تاريخ العلوم» بجامعة غوته في فرانكفورت. وكان مؤرخًا وباحثًا جمع مصادر متعددة في العلوم الإسلامية.
لكن مشروعه يتشارك صفات محورية مُعينة مع المنمنمات المزيفة. المتحف يصنع معروضات تلتزم بفهمنا المعاصر لما كان عليه «العلم»، ويتعامل مع صور العلوم الإسلامية كما لو كانت تمثيليات حرفية ومباشرة للأجهزة والأشخاص الذين كانوا في الماضي.
ما يزيد من انتشار هذه الصور، في رأي شافير، ليس الخداع على طول الخط، بل هنالك رغبة في استخدام رؤية إيجابية للعلوم لتخليص الإسلام، كدين أو كثقافة أو كمسلمين، من التعرض للإسلاموفوبيا في الآونة الأخيرة. فالغرض هو مساواة العلم الإسلامي القديم بالحداثة.
في عالم متأهب دائمًا لتدمير الإسلام، باعتباره نقيضًا للحضارة، يبدو أنه من الأفضل محاولة دعم رسالة مفادها أن العلم مشروع عالمي، أسهمت فيه البشرية كلها.
تقع هذه المشاعر خلف مبادرة «ألف اختراع واختراع»، وهو معرض متنقل عن العلوم الإسلامية، وتردد على عدد من متاحف العالم. يقول شعاره: «اكتشف العصر الذهبي واخلق مستقبلًا أفضل». بالنسبة إلى غير المسلمين، قد يشير هذا إلى أن معتنقي الإسلام أشخاص عقلانيون في النهاية، وقادرون على الإسهام في حضارة مشتركة. بالنسبة إلى المسلمين، قد يوحي ذلك بأن التمكن التكنولوجي متاح لهم بالفعل.
قد يهمك أيضًا: لأسباب عقائدية وللصدفة: هشاشة الفن أمام الحياة
بأخذ هذه الأفكار المثالية في الاعتبار، هل تبرر الغاياتُ الوسائل؟
بدلًا من إنفاق ملايين الدولارات لبناء المنمنمات والقطع المزيفة، كان يمكن للمتاحف أن تشتري الأدوات الحقيقية وتجمعها وتستقطبها.
قد يكون استخدام إعادة الإنتاج أو التزييف، بغرض لفت الانتباه إلى التراث الثقافي الغني في الحضارة الإسلامية وجنوب آسيا، ثمنًا صغيرًا يُدفَع لتوسيع دائرة التفاعل بين الثقافات. إذا كانت البقايا المادية من العلوم غير موجودة، أو لا تتلاءم مع السرد الذي نرغب في بنائه، فربما يكون إعادة بنائه بشكل خيالي أمرًا مقبولًا.
لكن في مواجهة الفجوة بين المعرفة الشحيحة لدى الغربيين والشرقيين، بالمساعي الفكرية الفعلية للمسلمين السابقين، وبالماضي الإسلامي المتخيَّل الذي بنينا عليه توقعاتنا، فإننا نتمادى في حرية إعادة البناء والتدخل في التاريخ.
الكتب المدرسية والمتاحف تتسارع في نشر إثبات الإنجازات العلمية للمسلمين. بهذه الطريقة العفوية، ينشرون صورًا يعتقدون أنها تُجسد نسخةً مثالية من العلوم الإسلامية: تلسكوبات وساعات وآلات وأدوات طبية تدل على الحداثة والعصرية لأكثر الناظرين شكًّا في الأمر.
الجانب المظلم لهذا الدافع التقدمي هو الميل لرفض القِطع الحقيقية للتراث الإسلامي، لأجل نُسخ مطابقة ومُعاد تخيلها.
الاختيار هنا ليس مجرد مسألة تفضيلات، بل أيضًا أولويات. فبدلًا من إنفاق ملايين الدولارات لبناء هذه الأدوات، كان يمكن للمتاحف أن تشتري الأدوات الحقيقية وتجمعها وتستقطبها.
على سبيل المثال، عرضت صيدلية «ريبول» في إسطنبول، مجموعتها الخاصة من الأدوات الطبية التاريخية الحقيقية، في حين قرر متحف تاريخ العلوم والتكنولوجيا في الإسلام صُنع أدوات أخرى جديدة. اختار المتحف أن يتجاهل الأشياء الحقيقية الموجودة، لأن المُتبقي منها لا يتناسب مع القصة التي يرغب المتحف في سردها.
ربما يكون هناك قلق من أن الآثار الفعلية للعلوم الإسلامية، لن تُثير الإعجاب والتساؤل المرجو. ربما لا تستطيع أن تكشف وتوضح كما ينبغي، أن المسلمين أيضًا صنعوا أعمالًا عبقرية معروفة. ومع ذلك، لا يزال هناك سؤال متعلق بالضرر الناجم عن تزايد انتشار هذه الصور والأشياء المُعاد تخيُّلها وصنعها. لا يمانع بعضهم وجود هذه الأعمال المزيفة وانتشارها، لأنه بالرغم من زيفها، فهي على الأقل ستُعرِّف الدارسين إلى فترة مهمة في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية.
في عصر يتلاعب فيه تجار الشك وناشرو الأخبار المزيفة بالخطاب العام، فالعودة إلى الالتزام بالشفافية والنقد يبدو كأنه الحل الوحيد. هذه الفضائل جزء من أي علاج، لكن في كل هذه الحالات، كما هو الحال مع المتحف، ليس واضحًا إطلاقًا من هو المسؤول عن الخداع والتزييف.
مسؤولية إثبات الحقيقة لا تكمن فقط في أيدي النقاد والمزورين، بل أيضًا في أفعالنا نحن كمُستهلكين وناشرين. في كل مرة نقرر مشاركة صورة عبر الإنترنت أو نزور متاحف معينة، نمنحهم المصداقية. مع ذلك، فقد يتطلب الحل أكثر من مجرد إعادة توكيد لقيمة الحقيقة على الخيال وقيمة الحقائق على الأكاذيب.
هل نحكي قصص الآثار، أم نجمع الآثار لنحكي قصصنا؟
على بعد كيلومتر ونصف من متحف العلوم الإسلامية في إسطنبول، يقع متحف آخر للأمور والحكايات المخترَعة والمؤلفة. مع ذلك، فإن هذا المتحف ليس مختصًّا بالاختراعات العلمية الإسلامية، بل مختص برؤية كئيبة للحب، للروائي أورهان باموق، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2006. يسمى «متحف البراءة»، ويتشكل هيكله الأساسي من أشياء مُجمَّعة ومصنوعة بناءً على رواية باموق التي تحمل الاسم ذاته، وكتبها عام 2008.
يأخذ بطل الرواية (كمال) القارئ وزائر المتحف ببطء عبر علاقته غير المكتملة بِحبيبته «فسون». يتماشى كل فصل مع أحد المجسمات الصغيرة في المتحف الذي يعرض مجموعة من الأدوات والأشياء المذكورة في الرواية.
يروي المتحف قصة خيالية. هذه الحقيقة تزعزع توقعاتنا حول ما يمكن أن تفعله وما ينبغي أن تفعله. هل كتب باموق الرواية، ثم جمع هذه الأشياء لتلائمها، أم العكس؟ تطرح الفكرة التي بُني على أساسها المتحف سؤالًا آخر: هل نحكي قصصًا من الأشياء التي نجمعها، أم إننا نجمعها لنحكي القصص التي نريد روايتها؟
نحن نجمع المواد التي تلتزم بقصصنا المتخيَّلة، ونصوغ قصصنا وفقًا لهذه المواد والمصادر المتوفرة في أيدينا.
تختلف كيفية تفاعلنا مع التاريخ بين «متحف البراءة» والمُنمنمات المزيفة والأدوات الخيالية في متحف تاريخ العلوم الإسلامية. تنتشر المنمنمات على الإنترنت من تلقاء نفسها، وتُفصَل عن أي سرد وعن مصادرها الأصلية، وتصبح مفتوحة لأي تفسير يراه المشاهد مناسبًا. أما الأشياء التي أعادت متاحف العلوم الإسلامية تخيُّلها، فجُلِبت بوعي إلى هذا العالم لخدمة سرد دفاعي عن العبقرية الإسلامية.
لكن متحف باموق يحقق التوازن. عندما يقف الزائر أمام معرض متحف باموق، فهو يتفحص المعروضات ببطء ويتخيل كيفية استخدامها، وربما يستمع إلى قصص باموق المسجلة لتحريكها. من خلال واجهات عرضه وكتابته، تنبثق الحياة في هذه المعروضات. متحف باموق يقدم هذه المعروضات للزوار، ثم يسمح لهم برواية حكايتهم الخاصة دون أن يكون لديهم إيمان ساذج بقوة المعروضات الموضوعية. هذه الطريقة هي ما يمنح متحف باموق النزاهة الفكرية التي يفتقر إليها متحف فؤاد سزكين للعلوم الإسلامية.
المفقود في المنمنمات المزيفة ومتحف تاريخ العلوم والتكنولوجيا في الإسلام، هو حيوات الأفراد الذين يملأون متحف باموق. يكمن في هذه الحيوات التاريخ الحقيقي للعلم في العالم الإسلامي، حياة «داية» تُعِد الأعشاب، أو قائمة طبية بأسماء الأدوية للفقراء الملتزمين دينيًّا، أو خريطة البروج التي رسمها منجِّم لحياة ضابط طموح، أو قياسات فلكية أخذها إمام مسجد لأجل ضبط توقيت رفع أذان الصلوات، أو محاولة صانع فضة لصياغة حلى جديدة، أو الحسابات الجبرية التي أجراها قاضٍ لتقسيم الميراث.
هذه الحيوات لا تكشف أسرارها بسهولة. مع ذلك، فمن خلال رفض جمع وعرض الآثار التاريخية الحقيقية، ودعم المستنسخات والمُعاد تخيلها، فنحن نُزيل هؤلاء الناس من الماضي، ونحاكمهم بأثر رجعي. يجب أن تشمل المتاحف مساحات لا نعرفها. كل متحف أصيل متحف ناقص، ونقصان معارفه جزء أصيل مما يقدمه. على المتحف أن يعرض ما وصل إلينا، وأن يطرح تساؤلات عما لم يصل. وبدلًا من موارة الآثار الحقيقية عن الأنظار وملء الثغرات بآثار وبقايا مُلفقة، يجب أن تُجلب القطع الفنية التاريخية الحقيقية إلى الواجهة، حتى وإن كانت ناقصة.