فيروز التي ما زالت تغني: «لا بتعرف وهج النار ولا بتكفي المشوار»

مازن حلمي
نشر في 2017/10/23

ظلت فيروز مبتعدة عن العالم الذي تعيش فيه، لا تظهر إلا خلف انعكاس الأضواء، وكثيرًا ما تتماهى مع دائرة الضوء لتخيم عليها هالة القدسية. تقف على المسرح بهدوء وهي تحرك رأسها في شموخ مصحوب بخجل شديد. في الأعياد المقدسة تذهب إلى الكنسية لترتل حزنًا على المسيح. في الشتاء تجمع الحطب وتشعل فيه النار، تجلس بجانب المدفئة وتحلم بحياة كانت تريدها هادئة.

مؤخرًا، أصدرت السيدة فيروز ألبومها «ببالي»، الذي بدأ الحديث عنه منذ إطلاق عدة أغنيات على الإنترنت مع بداية شهر يوليو 2017. عادت «جارة القمر» لتطل على جمهورها مرة أخرى بعد غياب طويل، لكن سريعًا ما تعالت ردود الفعل السلبية، والشعور بأن الألبوم مخيب للتوقعات، ولا يليق بكل هذا الانتظار.

أشهر الانتقادات التي وُجهت كانت أن الأغاني لا تليق بتاريخ فيروز، حتى أنها بدت فاقدةً للأسلوب، وهو ما يدفعنا إلى التفكير في حقيقة امتلاك فيروز لـ«الأسلوب»، وإلى سؤال حول البدايات والمنجَز الفني الذي قدمته طَوَال السنوات الماضية.

الرحابنة وفيروز: تأسيسٌ للقدسية ونهيٌ عن التطريب المفرط

لم يكن مهرجان بعلبك مجرد بداية ازدهار للمشروع الرحباني مع فيروز، بل شهد أحداث فسرت بعض الأمور في مسيرة الرحابنة مع فيروز.

بدا أن نشأة الأخوين رحباني هي تأسيس لمشروعهما الفني في ما بعد، ولعهما الشديد بالتراثيات والملاحم الشعبية أثر بشكل واضح في منجزهما الفني (الشعر - المسرح - الموسيقى). في القرية تربيا على سماع الزجل والفن الشعبي الذي كان ينتشر في تلك المنطقة، وكذلك موشحات سيد درويش المنتشرة وقتها.

انتقل الأخوان رحباني إلى الموشحات التي كانت قد خمدت في مصر، أعادا توزيع بعض أغاني سيد درويش مثل «زوروني كل سنة مرة» و«أنا هويت» و«طلعت يا محلى نورها»، وحين أعادا توزيعها زادا سرعة الإيقاع حتى لا تكون بنفس إيقاع التطريب التي كانت تُغنى به، وهنا ظهر عدم حب الرحابنة لشكل التطريب، واتجاههم إلى الإيقاع السريع في الغناء.

وسط تلك المرحلة الفنية التي بدأت في التوهج، فوجئ الوسط الفني والصحفي بوصول دعوة زفاف عاصي الرحباني على نهاد حداد (فيروز). كانت تلك اللحظة بمثابة اكتمال الثالوث، الذي سيصبح مقدسًا في لبنان وغالبية المنطقة العربية. لم يكن ذلك مجرد زواج يتم في الكنيسة، بل كان إعلان مؤسسة فنية ستغير الكثير في مسار الموسيقى العربية.

جاء ربيع عام 1957 وبدأت زهرة المشروع الرحباني مع فيروز في التفتح والازدهار، بالتحديد حين استدعت السيدة زلفا شمعون، زوجة الرئيس اللبناني كميل شمعون، الأخوين رحباني للمشاركة في مهرجان بعلبك للمرة الأولى، بعد أن قررت لجنة المهرجان إدخال فقرة «ليالي لبنان» لأول مرة، بعدما اقتصرت فقرات المهرجان لسنوات طويلة على عروض أجنبية تقدمها فرق عالمية.

المهرجان لم يكن مجرد بداية ازدهار للمشروع الرحباني مع فيروز، بل شهد أحداثًا مهمة تفسر بعض الأمور في مسيرة الرحابنة مع فيروز.

أول هذه الأحداث حين اجتمع الأخوان مع سيدات اللجنة المنظمة للمهرجان، فلم يكن لدى اللجنة تصور واضح لتلك الفقرة التي ستقدَّم للمرة الأولى، لكن أمرًا واحدًا حذرت منه اللجنة: التطويل الطربي العربي «الذي ينفر منه الجمهور بعدما اعتاد الأعمال الأجنبية في المهرجان»، وهو ما لم يجده الأخوان أمرًا سيئًا، فطمأنوا اللجنة إلى أن التطويل الطربي ليس من مبادئهم الفنية.

الحدث الآخر مثلما حكاه منصور الرحباني في كتاب «في رحاب الأخوين رحباني» تأليف هنري زغيب، حين بدأ الحفل، وفي مستهل اللوحة الأولى التي ستغني فيها فيروز أولى أغنياتها على مسرح بعلبك، عمد مخرج الحفل صبري الشريف إلى وضع فيروز على قاعدة عمود، وسلَّط عليها الأضواء من أسفل العمود ومن زوايا مختلفة، فظهرت للجمهور كأنها تحلق في الهواء فيما تغني «لبنان يا أخضر حلو».

كان المشهد الأول لها صاعقًا، بحسب تعبير منصور، واشتعل الجمهور تصفيقًا في موجة بين التأثر والبكاء.

يمكن استنتاج أنه في تلك اللحظة وُلدت فكرة الصورة القدسية التي سيقدم بها الأخوان رحباني فيروز لاحقًا في مسرحياتهم وباقي مشوارهم الفني معها، والصورة التي سيقدمان بها لبنان في أعمالهم.

أغنية فيروز «لبنان يا أخضر حلو»

سطعَ نور فيروز ومعها الأخوان رحباني بعد مهرجان بعلبك، بدا واضحًا أن هناك مشروعًا فنيًّا لبنانيًّا يظهر على الساحة بقوة. توالت المهرجانات بعد ذلك، ومن بعلبك إلى دمشق، إلى مسرح البيكاديلي.

أصبح اسم فيروز ملء السمع والبصر، تغير تعامل الصحافة والإذاعة معها على أنها مجرد مطربة لبنانية، ودخل في مرحلة التأسيس لرمزية فيروز كجزء من المعالم اللبنانية.

فطن الرحابنة إلى أن الجميع أحبوا الصورة التي يقدمان بها فيروز ولبنان في مسرحياتهما، فزادت الرمزية في أغانيهما. أصبحت فيروز لا تغني سوى للقمر والتلال العالية، وحتى في الأغنية العاطفية كان هناك ترفُّع عن التفاصيل الحميمة الرومانسية، والاكتفاء بالرمزية الشديدة، وكأنها علاقة حب إلهية خارج النطاق الإنساني. بعدها أطلقت الصحافة على فيروز لقب «جارة القمر».

غنت فيروز في مسرحية «ناطورة المفاتيح» «بيتي أنا بيتك»، وبدت فيها كأنها تخاطب حبيبها، لكنك تكتشف أنها تخاطب الله، كأنهما يعرفان بعضهما جيدًا.

بدا أن الأسلوب الرحباني هو المتحكم في أداء فيروز وقتها، حتى لو تعاونت مع ملحنين آخرين مثل فيلمون وهبي وزكي ناصيف، فكان اللحن في النهاية يخضع للتوزيع الرحباني. حتى أنها حين تعاونت مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، خضع اللحن للتوزيع الرحباني، وهو أمر نادرًا ما يرضخ له عبد الوهاب، لكن يبدو أنه كان يفطن لطبيعة المشروع الرحباني مع فيروز.

حين ترسخت صداقة الأخوين رحباني بمطربهم المفضل، عرضا عليه أن تعيد فيروز تسجيل بعضٍ من أغنياته القديمة، كما فعلت في بعض أغاني سيد درويش. وافق عبد الوهاب، وأعاد الأخوان توزيع أغنيته «يا جارة الوادي» التي لم تكن موزعة حين غناها، وأدخلا إليها توزيع الربع صوت، ما جعل أداء فيروز فيها يختلف عن الطريقة التي أداها بها عبد الوهاب، والأمر نفسه حدث في «خايف أقول اللي في قلبي».

ذات يوم، كان عبد الوهاب في بيروت يهيئ ألحانًا لأحد أفلام عبد الحليم حافظ، ثم طلب من الأخوين أن يكتبا أغنية بالعامية المصرية ليلحنها هو ويغنيها عبد الحليم، وبالفعل كانت أغنية «ضيِّ القناديل».

بعد نجاح التجربة، لحن عبد الوهاب أغنية أخرى من كلمات الأخوين رحباني، وكانت إحدى علامات فيروز الغنائية: «سهار بعد سهار»، وبعدها لحن قصيدة «مُر بي» لسعيد عقل، وغنتها فيروز في دمشق عام 1967. امتد التعاون بينهم، ولحن عبد الوهاب قصيدة «سكن الليل» لخليل جبران، وغنتها فيروز في مهرجان الأرز عام 1969.

اقرأ أيضًا: كيف نجا عبد الوهاب من اتهامات سرقة الموسيقى؟

اقتنعت فيروز تمامًا بمنطق الرحابنة تجاه الأغنية الطربية والإيقاع البطيء، وبطبيعة الأغنية والأسلوب الذي أسس له الرحابنة. اقتنعت أنها مطربة الصباح والإيقاع الملائكي، وأن الغواية الطربية الليلية لا يجب أن تأخذها أبدًا، لأن صوتها لن يسمح لها بذلك، وهو ما أثر في أسلوب فيروز في الغناء واختياراتها لاحقًا.

ذات يوم في عام 1972، وقفت السيدة فيروز خلال مسرحية «ناطورة المفاتيح» لتغني واحدة من أهم أغنياتها مع الرحابنة: «طريق النحل»، التي كانت تعبيرًا واضحًا وقويًّا لطبيعة الأغنية الرحبانية مع فيروز. في المسرحية نفسها، غنت فيروز «بيتي أنا بيتك»، التي بدت فيها كأنها تخاطب حبيبها، لكنك تكتشف أنها تخاطب الله دون أي حواجز، كأنهما يعرفان بعضهما جيدًا. 

أصبح هناك تماهٍ واضح بين صورة فيروز السيدة العذراء ولبنان الأخضر، لا يمكن التمييز بينهما. والأغنية الأخيرة فيها تجلٍّ واضح لطبيعة الصورة الذهنية التي أسس لها الرحابنة مع فيروز.

ماتت أم كلثوم مع بداية عام 1975، وصارت الساحة العربية خاوية من صوت احتكر الآذان لسنوات طويلة. في تلك اللحظة اتجهت الأنظار نحو بيروت، حيث المطربة التي زاحمت المجد الكلثومي في سنواته الأخيرة. بعد عام واحد من موت «الست»، وقفت فيروز على مسرح الأندلس في القاهرة، المسرح الذي طالما ملأته أم كلثوم بصوتها وتأوهات مستمعيها.

ضربت فيروز جزءًا من كبرياء السوق الفني المصري، حين أصبحت ملء السمع والبصر دون اللجوء إليه، أو حتى الغناء بالعامية المصرية. في اللحظة التي وقفت فيها فيروز على مسرح الأندلس كانت تعرف طبيعة الجمهور المصري، ولأول مرة تحاول الارتجال والتطويل الطربي، صحيح أنه للحظات فقط ولا تكاد تلحظه في أغنية «حبيتك بالصيف»، لكنها لم تكن لحظة عابرة، كان ذلك خروجًا عن الأسلوب الرحباني.

شعر الجمهور لحظتها بتلك التحية من فيروز، فرد ببعضٍ من الآهات القديمة لأم كلثوم. بدا لحظتها أن شيئًا من الغواية الكلثومية تسرب إليها، شروخ ارتسمت في أسلوب فيروز الغنائي، شروخ تحولت إلى فراغات هائلة تسربت منها الخلافات إلى المشروع الرحباني.

خروج السيدة العذراء/فيروز إلى الغواية الكلثومية

كان الغيم أثقل من الخوف، الشتاء أقل برودةً من النار، الطريق أصغر من سياج سجن «هيرودس». خرجت السيدة العذراء إلى مصر وهي تحمل ابنها المسيح وعمره لم يتجاوز عامين، هربًا وخوفًا من بطش الملك «هيرودس» وسطوته.

طلبت فيروز من رياض السنباطي بعض الألحان فقدم لها ثلاثة: «بيني وبينك خمرة وأغاني» و«أمشي إليك» و«آه لو تدرين بحالي»، ولم يظهر أيٌّ منها بصوت فيروز.

انفصلت فيروز عن زوجها عاصي الرحباني مع نهاية سبعينيات القرن العشرين، وفي الوقت نفسه كان انفصالها الفني عن الرحابنة. لأول مرة تقف فيروز خارج الأسوار العالية التي شيَّدها الأخوان من حولها. خرجت من الباب نفسه الذي سبقها منه ابنها زياد وهو لم يتجاوز بعد عامه السادس عشر. خرج بإرادته مبتعدًا عن الأسلوب الرحباني، ليجد أرضًا موسيقية جديدة ومختلفة، مصحوبًا بظلال سيد درويش وزكريا أحمد. علق زياد صورة زكريا أحمد في صالون أول شقة صغيرة امتلكها في شارع الحمراء ببيروت.

بدا أن فيروز لأول مرة تريد الخروج عن الأسلوب الرحباني، خصوصًا بعد أن خيَّمت الحرب الأهلية بظلالها المخيفة على لبنان، وانهار الحلم المسرحي الذي صاغه الرحابنة. شعرت فيروز لحظتها أن الغواية الكلثومية تبدو الشيء الواضح والأسلوب الأمثل. فكرت في أغنية كلثومية أكثر حداثة.

طلبت من رياض السنباطي بعض الألحان، وبالفعل أعد لها ثلاث أغانٍ، اثنتان منهم من كلمات الشاعر اللبناني جوزيف حرب: «بيني وبينك خمرة وأغاني» و«أمشي إليك»، والأغنية الثالثة «آه لو تدرين بحالي» كلمات الشاعر المصري عبد الوهاب محمد. سجل السنباطي الأغاني على شريط كاسيت وأرسله إلى فيروز، وبعدها سافر إلى بيروت لتدريبها على أداء الأغاني التي لحنها، واستمر العمل لعدة أيام، ثم عاد السنباطي إلى مصر، وفي ذلك الوقت اشتدت الحرب في لبنان. بعدها بعام واحد مات السنباطي، لكن الأغاني انتشرت بصوته، وبدا أنها أسلوب جديد في ألحانه.

رأى السنباطي أنه قادر على إخراج طبيعة مختلفة من أداء وصوت فيروز، الذي يستطيع أن يؤدي عن طريق الاستعارة الصوتية، ديوانًا وربع ديوان (أي عشرة مقامات) على أقصى تقدير. كان يطمح من خلال ألحانه العالية إلى تحرير الطبقات المخنوقة في صوتها الحقيقي، خصوصًا في أغنية «آه لو تدرين بحالي»، التي تبدو شديدة التكوين الكلثومي في قفلاتها ومدتها. لم يظهر شيء من تلك الأغاني بصوت فيروز، وبقي الأمر حلمًا ضائعًا ومشوارًا لم تكمله فيروز.

بدت تجربة بليغ حمدي مع المطربة المصرية عفاف راضي كمحاولةٍ لإعادة تشكيل مشروع رحباني فيروزي.

في الفترة ذاتها تواصلت السيدة فيروز مع الملحن الأهم وقتها بليغ حمدي، صاحب عدد الألحان الأكبر لأم كلثوم في سنوات غنائها الأخيرة. كانت فيروز تعرف أن بليغ حاول التواصل معها أكثر من مرة لتسمع ألحانه، وعرض بعض الألحان عليها، لكن سيطرة الأخوين رحباني حالت دون ذلك. في كل المرات التي سافر فيها بليغ إلى بيروت لمقابلة فيروز، كان الأخوان يعتذران بحجة أنها مريضة أحيانًا، أو أنها لا تستطيع مقابلة أحد، وباءت كل محاولاته وقتها بالفشل.

شكَّل المشروع الرحباني مع فيروز غواية كبيرة لبليغ، خصوصًا أنه حقق كل أحلامه الضائعة: مسرح غنائي كبير وناجح، صوت قادر على أداء الأغاني المسرحية، أصوات عديدة تساعد على إكمال فراغات فيروز. كل شيء يحبه بليغ وذائقته الفنية.

بدا بليغ حمدي في تجربته مع المطربة المصرية عفاف راضي يحاول إعادة تشكيل مشروع رحباني فيروزي، لكن على طريقته وخلفيته التي لا تختلف كثيرًا عن الرحابنة: الاعتماد على، والتأثر بالتراث الشعبي بشكل ما. تتجلى الغواية الرحبانية عند بليغ في أغنية «سلم سلم»، التي غنتها راضي في بداية السبعينيات.

قبلها كان هناك حديث حول إعداد «عفاف راضي» من جانب الدولة المصرية وبليغ لتأخذ مكان أم كلثوم وتزاحم المجد الفيروزي من نفس طبيعة الغناء والأداء الصوتي.

قد يهمك أيضًا: في مديح الصراع بين السنباطي وبليغ

بدأ بليغ في تلحين أغنية لفيروز في نهاية السبعينيات، من كلمات الشاعر المصري عبد الرحيم منصور. بدا أن تلك اللحظة هي الأكثر سعادةً لبليغ، من أجل تعويض الزمن الضائع له مع فيروز. أنهى الأغنية وأرسلها إلى فيروز، وكانت بعنوان «غربة»، لكن كما حدث مع السنباطي، لم تكمل فيروز مشوار غوايتها الكلثومية، وانتشرت أحاديث لفترة طويلة عن أغنية تصدر لها من ألحان بليغ حمدي، لكن الأمر توقف فقط عند الأحاديث.

بعدها بفترة، صرح بليغ لإحدى المجلات بجزء من كلمات الأغنية التي أعدها لفيروز ولم تغنها: «أسامينا في المينا غرقت ويَّا الأحزان، يا بلادي يا حزينة، ع الحب وع الإنسان».

جاء رد الأخوين رحباني سريعًا، فأعادا عرض مسرحية «الشخص» في مصر عام 1982، بعد أن عُرضت لأول مرة على مسرح «البيكاديللي» في لبنان عام 1968. اختار الأخوان الشاعر المصري أمل دنقل لإعادة كتابة المسرحية وبعض أغنياتها بالعامية المصرية، واختارا عفاف راضي لتكون بطلة المسرحية، بديلةً لبطلة العرض الأول في لبنان، فيروز.

ظهر الأمر كأنه اختطاف آخر لغواية بليغ نحو المسرح الغنائي، ووقتها غنت عفاف راضي واحدة من أهم أغنياتها: «يا وابور الساعة 12».

شهادات أيلول الأصفر عن فيروز: قليلٌ من التطريب، كثيرٌ من الخوف

في الوقت الذي كانت فيه فيروز تعيد ترتيب أوراقها الموسيقية بعد انفصالها عن الأخوين رحباني، وفي ظل بحثها واقتفائها الغواية التي تسربت إليها للمرة الأولى على مسرح الأندلس عام 1976، أصدرت ألبوم «دهب أيلول» عام 1979، لتجدد التعاون مع الملحن اللبناني فيلمون وهبي والشاعر جوزيف حرب، بعيدًا عن السياق الرحباني.

أصبح فليمون أكثر حريةً في وضع لحن شرقي، يحرر فيه طبقات التطريب عند فيروز. احتوى الألبوم على أربع أغانٍ فقط: «ياقونة شعبية» و«ورقه الأصفر» و«طلعلي البكي» و«يا ريت منن». وهي التجربة الوحيدة المكتملة في طريق فيروز نحو الغواية التطريبية.

بدا أن فيروز، رغم خروجها عن أسوار الرحابنة العالية، ظلت محتفظة بما تعلمته، أو ربما كلمات عاصي ظلت عالقة برأسها. التدريب الأول للمطرب يظل المحرك الرئيسي لدوافعه واختياراته الغنائية. لم تغنِّ فيروز أيًّا من أغاني ذلك الألبوم في حفلاتها، ربما خافت أن تغلبها الغواية ويتضح أن عاصي لم يكن مخطئًا، خصوصًا أن الأغنية الطربية تساعد أكثر على الارتجال وتحرير الأسلوب الغنائي.

لا يوجد تسجيل لأغنية «ياريت منن» سوى تسجيل الاستوديو. لم تغنها فيروز في أيٍّ من حفلاتها، رغم النجاح الشديد للأغنية، التي ظهرت فيها بشكل مغاير.

يمكن فهم ذلك حين نستمع إلى الأغنية ذاتها من مطربين آخرين. الأغنية تحمل غواية نحو التطريب المفرط، وهو ما نلاحظه في أداء المطربة الراحلة ذكرى عندما غنتها في برنامج تلفزيوني.

في النهاية، توقفت فيروز في منتصف مشوارها وعادت إلى نقطة ارتكاز آمنة، عادت إلى ابنها زياد.

زياد الرحباني وفيروز: «عقدة أوديب الموسيقية»

لو عاد الزمن وعرفوا ترنيمة «عذراء يا أم الإله» لفيروز، كان معظم الأطفال سيجعلون أمهاتهم تغنيها دائمًا.

عقدة أوديب مفهوم أسسه سيغموند فرويد واستوحاه من أسطورة أوديب الإغريقية، وهي عقدة نفسية تطلق على الذكر الذي يحب والدته ويتعلق بها ويغير عليها من أبيه، فيصل إلى مرحلة يكرهه فيها. تبدو الأزمة هنا مختلفة عن تلك التي صاغها فرويد، فالعقدة هنا موسيقية وليست شيئًا آخر.

الجميع يحب أن يسمع أمه تغني، والجميع يحب أن يكون لأمه صوت جميل. كلنا نحب أن نرى أمهاتنا في صورة العذراء مريم.

ربما لو عاد الزمن قليلًا وكانوا يعرفون وقتها ترنيمة «عذراء يا أم الإله» لفيروز، لكان معظم الأطفال سيجعلون أمهاتهم تحفظها وتغنيها دائمًا، ليس لشيء سوى أن هناك حالة من التماهي تحدث بين صوت فيروز وكلمات الترنيمة، حتى تظن في لحظة أن ذلك فعلًا هو صوت العذراء مريم. الجميع أحبَّ أن يرى أمه في صورة العذراء التي أنجبت الإله، إلا زياد رحباني، الوحيد الذي أحبَّ أن يرى أمه سيدة حقيقية، ربما لأنه لم يحتج في لحظة أن يصنع أي أسطورة لأمه، أو هو الوحيد الذي يعرف أن أمه لم تنجب إلهًا.

رأى الرحابنة أن خروج زياد عن السياق لا يُغفر، لكنهم كثيرًا ما تنبؤوا بذلك، فميوله الطربية كانت واضحة منذ البداية، وهي أكثر الأشياء التي يكرها الرحابنة، هذا الشكل من الموسيقى. كان الأمر بمثابة خنجر وضعه شخص من العائلة في مشروعهم.

ذكر زياد ذات مرة في إحدى حواراته التلفزيونية أن أباه عاصي الرحباني كان يعتبر أن «الطرب مرض»، وأن هذا النوع من الموسيقى والغناء يعتمد على تخدير وتسطيل المستمعين بشكل كبير عبر الارتجال والتطويل في الجملة الموسيقية والأداء. في النهاية، كان زياد أول من خرج عن سطوة الرحابنة، ومن بعده حاولت أمه الخروج مقتفيةً آثار خطواته على الطريق.

كانت تلك هي اللحظة المناسبة كي يغير زياد من أسلوب أمه الغنائي مع أبيه وعمه. أتيحت أكثر من فرصة لزياد ليلحن لأمه، لكنها كانت داخل سياق الأخوين رحباني. الأولي في عام 1973، وكان زياد بعد لم يتجاوز السابعة عشرة، ومنه منه عمه أن يلحن أغنية لأمه إهداءً لأبيه، الذي تدهورت حالته الصحية وقتها ودخل في غيبوبة. أعطى زياد لعمه اللحن الذي كان قد أعده مسبقًا، وكتب عليه منصور الرحباني كلمات أغنية «سألوني الناس»، التي قدمتها فيروز في العام نفسه في مسرحية «المحطة».

جاءت اللحظة التي طويلًا ما حلم بها زياد، تقديم فيروز بشكل مختلف بعيدًا عن أبيه. وضع لها ألحان ست أغنيات، شكَّلت ألبوم «وحدن» الذي أصدرته عام 1979. ظهر في هذا الألبوم أسلوب زياد الذي سيشكل مشروعه مع أمه، ويؤسس لأسلوبه الموسيقي الذي جمع الشرقية بالجاز والفانك، وأحيانًا الموسيقى الكلاسيكية. هناك أغنية «البوسطة» التي كتب كلماتها زياد، والتي تؤسس أيضًا لأسلوب فيروز مع زياد، أسلوب يتخذ معالمه من التفاصيل الزمنية في لحظتها.

لم يؤسس زياد الرحباني لأسلوب مغاير فقط في الألحان التي تغنيها فيروز، بل أيضًا في طبيعة الكلمات. زياد كان بدايةً لموجة جديدة ومغايرة للأخوين، وأنزل السيدة فيروز من ملكوتها المقدس إلى بيروت «التفاحة العطنة» بفعل الحرب، تلك كانت التفاحة التي قضمتها فيروز لتخرج من جنة الأسلوب الرحباني.

كان آخر تعاون بين زياد وفيروز في ألبوم «إيه في أمل» عام 2010، بعدها ظهرت الخلافات، خصوصًا بعد استخدام زياد أمه لتأييد آرائه السياسية.

برع زياد في كتابة الضمير الأنثوي في أغنيته، وكانت ألحانه تساعد على إكمال الفراغات الدرامية وتطوير المشاعر داخل الأغنية. كل ذلك ساعد فيروز أن تدخل إلى مجتمع جديد يُعاد تشكله.

كثيرًا ما كانت فيروز ترفض غناء بعض الأغنيات، لفجاجة الطرح وطبيعة الأغنية، التي كانت ترى أنها لا تليق بها. لكنها كانت أحيانًا توافق وتعود في رأيها، مثل أغنية «كيفك أنت» التي غنتها بعد أربع سنوات من الرفض. وفي أغنيات أخرى رفضت تمامًا، وذهبت الأغنيات إلى مطربين آخرين، مثل «معلومات مش أكيدة» التي غنتها المطربة المغربية لطيفة.

بدأ زياد التأسيس لأسلوب فيروز المتأخر، رؤيتها للزمن والطريق، حاول في بعض اللحظات أن يبدو الأمر أكثر حكمة، كان يعرف أن أمه ستختفي ذات يوم، ستقول للجميع: «ودايمًا بالآخر في آخر في وقت فراق». صاغ زياد أسلوب أمه المتأخر في أغنية «أنا صار لازم ودعكن»، بدا أنه أكثر شخص فهم طبيعة أمه، التي دائمًا ما كانت تريد أن تقول: «أنا كل شي بقوله عم حسه وعم يطلع مني، موسيقيي دقوا وفلوا والعالم صاروا يقلوا». هذا هو الشحوب الذي يفرضه الزمن، وربما يكون أسلوب فيروز المتأخر.

آخر تعاون بين زياد وفيروز كان في ألبوم «إيه في أمل» عام 2010، وبعده بسنوات قليلة ظهرت الخلافات بينهما بقوة، خصوصًا بعد استخدام زياد أمه لتأييد آرائه السياسية، حين ذكر في إحدى مقابلاته أن أمه تؤيد «حزب الله» وحسن نصر الله. فيروز، التي ظلت طَوَال الحرب الأهلية خارج معادلة الصراع، أدخلها ابنها فيه واستخدم صورتها لتلميع آرائه وانحيازاته الشخصية. في النهاية، انقطع الوصال بينهما من وقتها وحتى الآن.

قد يعجبك أيضًا: «لمين» فيروز: استيحاء مترهل تورطت فيه السيدة

ترنيمة أخيرة: «إسدال الستار على المعنى والأسلوب»

أصدرت السيدة فيروز ألبومها الأخير «ببالي» وهي تتجاوز عامها الثاني بعد الثمانين. ربما لم تمتلك «الأسلوب» يومًا، لكنها امتلكت حساسية مفرطة نحو الزمن والمعنى، لا تبحث عن التفرد أو الأسلوب المتأخر، لكنها تبحث عن الهدوء بعيدًا عن زيف الكاميرات والأحاديث الإعلامية. تبحث عن ترنيمة أخيرة ترثي فيها كل ما مر من زمن، ترنيمة أخيرة تسير بها نحو نهاية عادية وغير درامية، نهاية تليق بسيدة لم تبحث طَوَال حياتها سوى عن نقطة ارتكاز آمنة.  في النهاية تخلت فيروز عن المعنى والأسلوب، مقابل تمسكها بحبها للخريف، وأحلامها أن يكون لها بيت صغير وهادئ في كندا.

مواضيع مشابهة