أسكن بالقرب من مدرستين: واحدة للتعليم الفني والأخرى للمرحلة الإعدادية. كل يوم بين الثامنة والتاسعة صباحًا، تختلط أصوات أبواق السيارات بتحية العلم في المدرستين. بالكاد يمكن تمييز أصوات المراهقين الذين يغالبون نعاسهم في أثناء تحية العلم، ثم الهتاف بالنشيد الوطني، وبخاصة مع مكبرات الصوت الرديئة، ونشاز الأكورديون، والطبول.
فمع «وعلى كل العباد»، تبدأ فوضى الغناء الجماعي بالتزامن مع حركة الطلاب إلى فصولهم، وما تثيره من هرج وصخب لا يسع لحن سيد درويش العفوي، وحتى مع توزيع المارش العسكري لمحمد عبد الوهاب.
وبين اللحن العفوي لأغنية «بلادي» والتوزيع الرسمي لها كنشيد وطني، وحتى الهتاف بها في المدارس كل صباح، تختلف تصورات الوطنية بقدر اختلاف التصورات الرسمية والشعبية، فكيف بدأ النشيد الوطني والأغنية الوطنية في مصر؟
مصر يا أم البلاد
فضلًا عن تغييرها خريطة القوى الدولية، غيّرت الحرب العالمية الأولى مفاهيم الوطنية المصرية.
من خطبة للزعيم الوطني مصطفى كامل قبل وفاته بنحو أربعة أشهر، جاء فيها ضمن تراكيبه الكلاسيكية الرومانسية التي تميّز بها «بلادي بلادي، لكِ حبي وفؤادي، لكِ حياتي ووجودي، لكِ دمي، لكِ عقلي ولساني، لكِ لُبِّي وجناني، فأنتِ أنتِ الحياة، ولا حياة إلا بكِ يا مصر»، كتب محمد يونس القاضي، الشاب الأزهري حينها، أغنية بلادي، ولحنها بعد ذلك الشاب «الشيخ» سيد درويش: «بلادي بلادي بلادي، لكِ حبي وفؤادي، مصر يا أم البلاد، أنت غايتي والمراد، وعلى كل العباد، كم لنيلك من أيادِ».
لم يقل مصطفى كامل في خطبته إن «مصر هي أم البلاد»، فبحسب الباحثة الدكتورة ريم نجيب، في حوار معها شاركتُ في إجرائه ونشره موقع «مراسلون»، كان كامل «يروِّج بالفعل لوطنية مصرية أساسها الولاء لكيان يُفترَض أنه يجمع بين الوحدة السياسية والثقافية، ويحثُّ على الاستعداد للتضحية من أجل ذلك الكيان أو الجماعة المتخيّلة باسم مصر، وكان من أوائل من روجوا لهذا المفهوم الحديث، لكنه في الوقت نفسه كان يرى مصر كيانًا تابعًا للدولة العثمانية آنذاك، ويرى أن الرابط الإسلامي بين مصر كولاية عثمانية والباب العالي هو الأساس لهذه الوحدة السياسية-الثقافية».
فمن أين أتى المفهوم الجديد للوطنية القومية؟
فضلًا عن تغييرها خريطة القوى الدولية، غيّرت الحرب العالمية الأولى مفاهيم الوطنية المصرية. فبعد الهزائم المتلاحقة التي مُنِيَت بها الدولة العثمانية، والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية في القُطر المصري خلال العقد الثاني من القرن العشرين، ظهر تيار قوي بين كبار مُلاك الأراضي يميل إلى الاستقلال بسبب القيود التي فرضتها بريطانيا على زراعة القطن وتجارته في أثناء الحرب.
تصادف سخط تلك القطاعات من الاستعمار، فصاغت النخبة السياسية «قومية» تسعى إلى الاستقلال السياسي والاقتصادي مع التمسك بالبنية الطبقية القائمة، لذلك روّجت لخطاب وطني هدفه الوحيد الاستقلال السياسي، وتمصير الاقتصاد بإلغاء الامتيازات الأجنبية، وتشجيع الاستثمار المحلي في التصنيع.
جمع مطلب «الاستقلال» لأول مرة قطاعات واسعة من المجتمع، ونشأ مفهوم «القومية» الحديث، الذي يفترض أن مصر كيان يجسد روح جماعة متجانسة إثنيًّا وثقافيًّا، وتجمعها مصلحة واحدة وهدف واحد، في مقابل العدو الخارجي المستعمر.
كلنا جميعًا للوطن ضحية
تحايل سيد درويش على الأوامر البريطانية بعدم ذكر اسم سعد زغلول في الأغاني، فلحن من كلمات يونس القاضي «يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح».
مات مصطفى كامل في 1908، إلا أن خطبه الرنانة ظلت مصدرًا يعاد تدويره واقتباسه لشحذ مفهوم الوطنية لدى المصريين بعد تسع سنوات، حتى مع ظهور زعامات أخرى للحركة الوطنية في المشهد السياسي، فما الفارق بين قول كامل «الوطنية الحقة تقضي على صاحبها بأن يضحي بحياته خدمةً لوطنه لو دعت الحاجة إلى ذلك» في إحدى خطبه، و«مصرنا وطننا، سعدنا أملنا، كلنا جميعًا للوطن ضحية»، غير ظهور سعد زغلول على رأس زعماء الحركة الوطنية، وظهور سيد درويش الذي أضاف وسيطًا جديدًا سهل الانتشار.
وكما كان سيد درويش فنان الشعب بتحويله الوطنية المصرية من فكرة متداولة بين أروقة النخبة إلى أغنية شعبية، يمكن أيضًا اعتباره مطرب الثورة الشعبية في 1919، تلك الثورة التي لعبت دورًا في تلميع نجم درويش، إذ وقف يغني للمصريين «قوم يا مصري، مصر دايمًا بتناديك. قوم لنصري، نصري دين واجب عليك».
ثم تحايل لترديد اسم سعد زغلول رغم الأوامر البريطانية بعدم ذكر اسمه في المحافل والأغاني، إذ كان مجرد التلفظ باسم «سعد زغلول» تهمة تكفي للزج بصاحبها في السجن، ولحن من كلمات محمد يونس القاضي أيضًا «يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح، يا بلح زغلول يا زرع بلدي، عليك يا وعدي يا بخت سعدي، زغلول يا بلح يا بلح زغلول»، وصار الغناء وطنيًّا عندما يكون للشعب وعن الشعب.
اختار لك موتة وطنية
ضمّن سيد درويش، نجم الأغنية الجديد ومطرب الجيل حينها، مفاهيم وطنية في غالبية أغنياته، فإن غنى للتحفجية (متعاطي الحشيش) في مسرحية «رن»، يؤكد أن «يحرم علينا شُربك يا جوزة، روحي وإنتي طالقة مالكيش عوزة، دي مصر عايزة جماعة فايقين»، وإن غنى في مسرحية «كله من دا» للمنزول (الكيف الشعبي حينها)، يشجع على الإنتاج الوطني قائلًا إنه «مابيفلقناش ولايفقعناش إلا اللي عامل فلوطة وياخد كوكايين، ماهو دا من دا برضك يا سيدنا، بس دا منزول شغل أوروبا، أما دا وطني، حتى الفرنجة في الكيف بُرِّيه، هيّ الأمزجة فيها باشا وبيه، خمرة ميت كوكايين ميت، ويسكي ميت منزول ميت، اختار لك موته وطنية، أحسن من الموتة الأفرنجية».
عُرض الأوبريت في 28 يوليو 1918، ومات درويش بعدها بخمسة أعوام، إلا أن أفكاره عن ضرورة اللجوء إلى الصناعة والإنتاج المصري عادت إلى الظهور بقوة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي لتوجه الحركة الوطنية النخبوية، فالأغنية أسبق على التوجيه النخبوي، عكس ما حدث بعد 1952.
نرى في العشرينيات والثلاثينيات حملات مقاطعة للمنتجات والمتاجر الأجنبية، وترويج للصناعات المحلية، ومحاولة إنشاء مصانع برأسمال مصري خالص، إما عن طريق الاكتتاب أو التبرع، وإما عن طريق بنك مصر الذي أُنشئ في بداية العشرينيات لذلك الغرض، وكان الغناء الوطني سابقًا على توجهات النخبة السياسية، بل يقودها أيضًا.
قد يهمك أيضًا: ما الذي نعرفه عن الأناشيد الوطنية العربية؟
أخي جاوز الظالمون المدى، فأهلا بالكفاح المسلح
وقعت نكبة 1984 فتأججت المشاعر الوطنية فنيًّا، وغنى عبد الوهاب «أخي جاوز الظالمون المدى، فحقّ الجهادُ وحقّ الفدا»، ثم قامت الثورة.
بعد رحيل سيد درويش وفشل الثورة في تحقيق هدفها، ألا وهو رحيل الإنجليز، خمدت جذوة الأغنية الوطنية لما يقرب من 15 عامًا، ساد خلالها الغناء العاطفي. لكن مع انتفاضة الحركة الطلابية عام 1935 للمطالبة بالاستقلال، صدحت حنجرة المطرب الصاعد وقتها محمد عبد الوهاب بأغنيته الوطنية الأولى «حب الوطن فرض عليّا، أفديه بروحي وعينيّا».
خمدت الأغنية الوطنية مرة أخرى مع الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وتقول ريم نجيب: «كانت الأربعينيات امتدادًا للثلاثينيات، إلا أن الكفاح المسلح كان الإمكانية الوحيدة المتبقية للأفندية في ظل سيطرة كبار مُلاك الأراضي المحافظين على المجالس النيابية وجهاز الدولة، فاتجهت التنظيمات السياسية في تلك الفترة، مثل حزب مصر الفتاة الذي كان قد غير اسمه إلى الحزب الإسلامي الاشتراكي، وجماعة الإخوان المسلمين، إلى رفض المؤسسات النيابية والحزبية، وتصوير تلك المؤسسات باعتبارها غطاءً للأهواء والمصالح الشخصية التي تحكم السياسة في مصر».
«فلجأت تلك المنظمات إلى دعم فكرة الكفاح المسلح، ورفض الديمقراطية التمثيلية والحزبية، وكانت تلك بداية التعظيم من شخصية الفدائي كتجسيد للوطني المترفع عن الأهداف والمصالح الشخصية لصالح الوطن».
«مهدت هذه المرحلة لتصوير الجيش كالكيان الوحيد والأمثل المترفع عن المصلحة الشخصية، والمنقذ الذي يأتي بسلاحه من خارج النظام الاقتصادي والسياسي ليضع الأمور على مسارها الصحيح، الذي هو مصلحة الوطن. حتى وقعت نكبة 1984، فتأججت من جديد المشاعر الوطنية فنيًّا، وغنى عبد الوهاب من كلمات الشاعر علي محمود طه: أخي جاوز الظالمون المدى، فحقّ الجهادُ وحقّ الفدا. ثم قامت الثورة».
كُنت في صمتك مرغمًا
في السابعة والنصف صباح الأربعاء 23 يوليو، ألقى البكباشي محمد أنور السادات البيان الأول للحركة المباركة التي كانت تفاعلية مغامِرة تتلمس طريقها دون خطة إعلامية واضحة، وأصلًا لم تقدم نفسها كثورة إلا بعد أسبوعين تقريبًا من حصار دبابات الجيش لقصر فاروق. لم يتوفر الوقت لإنتاج أغنية للثورة الجديدة، فاستُخرِجَت أغنية من أرشيف الإذاعة، كتبها كامل الشناوي ولحنها وغناها عبد الوهاب عام 1951، ومُنعت من البث، تقول كلماتها: «أنتَ في صمتك مرغمْ، أنتَ في صبرك مكرهْ، فتكلم وتألم، وتعلم كيف تكره».
أعيد تسجيل الأغنية بتغيير طفيف في الزمن، فبدلًا من «أنت» صارت «كنت»، بحسب ما أوردته الدكتورة ناهد عبد الحميد في كتابها «الأغنية الوطنية: البدايات والتحولات»، ويصبح نشيد الحرية الجديد القديم نشيدًا وطنيًّا رسميًّا لمصر حتى 1960، رغم كل ما أُنتِج بعده من أغنيات الدعاية الثورية للجمهورية الجديدة.
راديو بلدنا فيه أخبار
قرب نهاية عام 1952، بثت الإذاعة المصرية أول أغنية عن الثورة اسمها «ع الدوار»، من كلمات حسين طنطاوي وصوت محمد قنديل وألحان أحمد صدقي، الذي وضع فيها من الزغاريد والطبل ما يعكس ذلك الابتهاج والترحيب الذي «لا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بهما»، بحسب البيان الأول للثورة.
اعتبر صُنّاع الأغنية أن الخلاص جاء على هيئة خبر وصل إلى المصريين عبر الراديو، مفاده أن الجيش نقل الشعب من النار إلى الجنة، دون أن يكون للشعب أي دور أو حتى علم بخطة الخلاص.
أغنية الثورة: بالنظام والعمل والاتحاد
كان عبد الحليم علي شبانة شابًّا في منتصف عامه الرابع والعشرين حين غنى رابع أغنية مسجلة له، وأول أغنية وطنية. غنى مقطعًا وحيدًا شارك به في نشيد العهد الجديد مع المطربة عصمت عبد العليم، التي غنت ثلاثة مقاطع كاملة. انضم بعدها إلى الاتحاد، وتوالت أغنياته، وأصبح خلال أعوام قليلة عبد الحليم حافظ «مطرب الثورة».
في الفترة بين 1952 و1956، كان «الاتحاد والنظام والعمل» شعارًا منبسطًا على الجمهورية الجديدة، وغنت له ليلى مراد «على الإله القوي الاعتماد، بالنظام والعمل والاتحاد»، إلا أنه يبدو أن أكثر اثنين التزما بهذا الشعار كانا عبد الحليم حافظ وجمال عبد الناصر، فسريعًا صعد نجم الاثنين.
في 1954، أُعفِيَ محمد نجيب من رئاسة الجمهورية، وأصبح منصبه شاغرًا لعامين، وتولى مجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبد الناصر مسؤولية إدارة الدولة.
بدأ ناصر رحلاته داخل مصر وخارجها، كثير من الخطب والعمل والتحالفات، وتعرض لمحاولة اغتيال فاشلة في الإسكندرية في أكتوبر من نفس العام، ثماني رصاصات لم تصبه ساعدت على تألق نجمه، وغادر بعدها الجمهور ساحة المنشية وجملة «كلكم جمال عبد الناصر تدافعون عن العزة، وتدافعون عن الحرية، وتدافعون عن الكرامة» تملأ أرواحهم.
في تلك الأثناء، كان عبد الحليم مشغولًا بتثبيت قدميه على الساحة، يشارك في أربعة أفلام عُرِضَت في 1955، ليصبح بعدها مطرب الجيل الجديد.
إحنا الشعب، اخترناك من قلب الشعب
في يونيو 1956، جرى الاستفتاء بالموافقة أو الرفض على الدستور، وكذا على الرئيس الجديد في يوم واحد، وأُعلِنَ جمال عبد الناصر ثاني رئيس لجمهورية مصر العربية.
بدأ الثلاثي صلاح جاهين وكمال الطويل وعبد الحليم حافظ العمل على أغنيتهم الجديدة في حب الرئيس الجديد: «إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب»، والتي ستُغنى لأول مرة في احتفالات الذكرى الرابعة لثورة يوليو، فهل حقًّا اختاره الشعب من بين أكثر من مرشح أم قَبِلَ بوجوده؟
بعدها بثلاثة أيام، يُعلَن تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية، وهو القرار الذي ستتخذه فرنسا وإنجلترا ذريعة لمهاجمة مدن القناة.
أنا شعبٌ وفدائيٌّ وثورة
بعد العدوان الثلاثي، صار يقينًا كيف تؤثر الأغنية في توجيه الوعي الجمعي.
بين بداية العدوان الثلاثي ونهايته، مرت 11 يومًا كانت كافية لإنتاج ثلاث أغنيات تؤسس لمفهوم الإعلام الحربي والبروباغندا والتوجيه، هي نشيد «الله أكبر فوق كيد المعتدي»، كلمات عبد الله شمس الدين وألحان محمود الشريف، وأغنية «والله زمان يا سلاحي»، كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل وغناء أم كلثوم، وأغنية «دع سمائي»، كلمات كمال عبد الحليم وألحان علي إسماعيل وغناء فايدة كامل، التي رأت أغنيتها «قنبلة حارقة على جيوش الأعداء»، بحسب تعبيرها في حوار معها لجريدة الشرق الأوسط عام 2005.
فايدة قالت إن «القائد البريطاني لجيوش الاحتلال في منطقة الشرق الأوسط أعلن في محطة إذاعة الشرق الأدنى وقتئذ أنه سيرسل 21 طائرة لإسكات صوت فايدة كامل في الإذاعة المصرية، وبالفعل أغارت بعض الطائرات على مبنى الإذاعة في أبو زعبل، ولكن صوت مصر لم يسكت لحظة واحدة، فلقد استمر الإرسال عبر إذاعة دمشق إلى أن أصلحنا الإذاعة لتعود أقوى مما كانت عليه».
وعود معنديش، مفيش إلا النضال عندي
بعد العدوان الثلاثي، صار يقينًا كيف تؤثر الأغنية في توجيه الوعي الجمعي، يمكن إذاعتها عبر الوسيط الأكثر انتشارًا حينها: الإذاعة، سهلة الحفظ، وأسرع «كلام» يمكنه أن يعلق بالذهن، ويمكن استقطاب صُناعها الموهوبين إلى جوار الدولة.
فكانت الأغنية الوطنية تقف إلى جوار خطب الزعيم الحماسية، بيانًا حكوميًّا موسيقيًّا ينفذ إلى لاوعي المتلقي، كان أحد نجومه الفنان متعدد المواهب صلاح جاهين، إلى جوار صوتي عبد الحليم وأم كلثوم وموسيقى كمال الطويل ومحمد عبد الوهاب، فكانت أغنيات وأوبريتات مثل «بستان الاشتراكية» و«يا أهلًا بالمعارك» ترجمةً غنائيةً لخطب عبد الناصر ورؤيته في الحكم وإدارة الدولة، بألحانها الراقصة وزغاريد وتهليل الكورَس فيها.
بحسب ريم نجيب، كان الخطاب المهيمن هو أن «مصر وطن يحرسه ويقوده الجيش ومن بعده الشعب، الذي ينبغي أن يكون جزءًا من الجيش في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية بحسب أيديولوجية البرجوازية الصغيرة، التي لا مجال فيها لأي وجود سياسي مستقل لقطاعات المجتمع المختلفة. هذا الخطاب يبدو جليًّا في أوبريت الجيل الصاعد في احتفالات الثورة عام 1961، إذ يسير ممثلو مختلف فئات الشعب مشيةً عسكريةً منضبطةً تبدأ بالجندي، ثم الفلاحين، والفنانين، والعمال، والطلبة بالترتيب».
«وتغني وردة الجزائرية للجندي: عاش الجندي يوم ما حطّم شوكة الاستعمار، كان عنوان النصر الثوري في كل بلد أحرار. كلهم يتحركون في زحف مقدس كجزء من كيان واحد هو مصر، والجيش هو قائدها. وفي ذلك نزع كامل للسياسة في المجتمع، وتصوير المصالح المتضاربة في المجتمع على أنها شر، ونوع من الأنانية والخيانة في مقابل فكرة التأييد والتراص والوحدة لمواجهة العدو الخارجي». تأسس هذا الخطاب ودُعِّم بعد نهاية العدوان الثلاثي.
حلوة يا وحدة: غناء وطني للقومية العربية
كان أول بث تلفزيوني مصري قبل يومين من الذكرى الثامنة للثورة، في 21 يوليو 1960، افتتحه الرئيس جمال عبد الناصر ببيان موجز عبارة عن فقرة كاملة من بيانه في 1958 في أثناء إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، قال فيه: «أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة: لقد بزغ أمل جديد على أفق هذا الشرق، إن دولة جديدة تنبعث في قلبه، لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق ليست دخيلة فيه ولا غاصبة، ليست عادِيَة عليه ولا مستعدية، دولة تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تقوى ولا تضعف، توحد ولا تفرق، تسالم ولا تفرط، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو، لا تتحزب ولا تتعصب، لا تنحرف ولا تنحاز، تؤكد العدل، تدعم السلام، توفر الرخاء لها، لمن حولها، للبشر جميعًا، بقدر ما تتحمل وتطيق».
وبهذا بزغ وسيط جديد للدعاية الحكومية أتاح الفرصة أمام الأغنية لتصبح أوبريت، وعُرض الأوبريت الأول على شاشة التلفزيون العربي «الوطن الأكبر»، اقتبس فيه الشاعر أحمد شفيق كامل من ناصر الموزونة: «إحنا وطن يحمي ولا يهدد، إحنا وطن بيصون ما يبدد، وطن المجد يا وطني العربي»، وشارك فيه عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وصباح وشادية وفايدة كامل ووردة الجزائرية، بقيادة عبد الوهاب.
تماثيل رخام عَ الترعة، وأوبرا
في العام 1963 كانت الأوضاع تبدو هادئة تحت حلاوة شمسنا، تفككت الوحدة العربية، وعلى مصر أن تلتفت وحدها لتقدمها ومشروعاتها القومية، وتتحمل مسؤوليتها وحدها، فكان أوبريت آخر بإشراف الموسيقار محمد عبد الوهاب، «صوت الجماهير»، بنفس الفريق القديم دون مشاركة عبد الحليم، الذي كان لديه مشروع آخر مع رفيقيه جاهين والطويل في أغنية «المسؤولية»، بكل ما تحمله من وعود وآمال: «صناعة كبرى، ملاعب خضرا، تماثيل رخام عَ الترعة، وأوبرا، في كل قرية عربية، دي ماهيش أماني، وكلام أغاني، ده بَرّ تاني، قصادنا، قريب يا معداوية».
تقول ريم نجيب إنه «في بداية حكم ناصر كانت الفكرة التي تروجها الدعاية هي أن شرعية الحكم العسكري انتقالية، من ماضٍ مظلم إلى حاضر ومستقبل منير، وكان هذا الخطاب يتضمن دائمًا التهديد بأنه إذا الشعب تُرِك من دون قبضة الجيش، وخوفه على مصر، ستعود الرجعية والإقطاع والاستعمار، فكان الشعب في هذا الخطاب مثل الطفل الذي يتوجب على الدولة إعادة تربيته لكي يصلح لممارسة الديمقراطية السليمة.
لكن نظام عبد الناصر وضع أهدافًا بعيدة المدى ومبهمة، فأصبحت الشرعية الانتقالية شرعية مطلقة للحكم العسكري السلطوي، إذ إن المجتمع لن يصل إلى درجة البلوغ السياسي والاجتماعي قريبًا.
إلى جانب ذلك، استمد النظام شرعيته من الادعاء بأن الجيش جهاز ناجز في مقابل عجز الحكم المدني، فركز النظام على المشاريع القومية الكبرى، وخرج عبد الناصر والضباط في كل خطبة بأرقام كثيرة للبرهنة على شرعية النظام الإنجازية، وكان ذلك يعني أن الديمقراطية لا تأتي بالإنجازات، وليست إلا أداة لاستمرار استغلال الإقطاع والاستعمار وأعوانه للشعب المسكين.
يا هل ترى الليل الحزين
هل ظل حضور «عدّى النهار» قويًّا في الوعي المصري حتى بين الأجيال التي لم تعاصر نكسة 67 فقط لارتباطها بحدث جلل مثل هزيمة الجيش المصري حينها؟ أم لقوة اللحظة الصامدة ساعتها التي أنتجت أغنية على هذا القدر من الصدق؟ أم لأنها أفلتت من قاموس التوجيه المعنوي للدولة؟ أم لأن بليغ حمدي هو من لحنها؟ أم لكل هذه الأسباب مجتمعة؟
كل الشحن الوطني والأغاني الحماسية والأماني القومية انتهت بهزيمة مباغتة، وبعدما كانت الإذاعة تصف الانتصارات المتتالية في الحرب، فوجئ المصريون بصدمة جماعية.
في أثناء الأيام الستة التي تواصلت فيها الحرب، قدم كمال الطويل مع عبد الحليم وعبد الرحمن الأبنودي ثلاث أغاني حماسية، ضمن بروباغندا الحرب التي ادّعت أن القوات المصرية على أعتاب تل أبيب، هي «اضرب اضرب» و«راية العرب» و«ابنك يقول لك»، وكانت الأخيرة لا تزال تذكر الثورة بالخير، فهي «عارفة الطريق وعارفة مين يابا العدو ومين الصديق، ثابتة كما الجبل للعدو حالفة عَ الانتصار»، حتى أُعلنت الهزيمة وأَعلن عبد الناصر تنحيه عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، فخرجت الأغنية مصدومة ومعترفة بالهزيمة دون أي حماسة ثورية، بل بدأت بصوت خافت يكاد يكون مبحوحًا وضعه الموزع عبد الحليم نويرة.
توالت الأغاني الوطنية المواسية: «ولا يهمك يا ريس» و«يا بلدنا لا تنامي» و«البندقية اتكلمت» و«أحلف بسماها وبترابها» لعبد الحليم حافظ، و«قوم بإيمان وبروح وضمير» و«قم واسمعها من أعماقي» لأم كلثوم.
يا محلى رَجعِة ضباطنا من خط النار
كل هذا الشحن الوطني والأغاني الحماسية والوعود الإنجازية والأماني القومية انتهت بهزيمة مباغتة. وبعدما كانت الإذاعة تصف الانتصارات المتتالية في الحرب، فوجئ المصريون بصدمة جماعية، وانكشف حجم إمكاناتنا في الحرب.
تُرجم هذا إلى حالة من السخرية الذاتية المريرة على يد الثنائي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في أغنيتهما «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا، يا محلى رَجعِة ضباطنا من خط النار»، إلا أن الآلة الإعلامية استجمعت شتاتها وسيطرتها لاستعادة الشعور الوطني الحماسي من جديد بالتزامن مع حرب الاستنزاف، وحتى نصر أكتوبر، وعادت أغنية جديدة مفرداتها النصر والجهاد ومصر والقنال وسيناء.
عظيمة يا مصر، يا أم الهرم
بحسب ريم نجيب، فإنه «بعد كامب ديفيد والدعاية لعصر السلام الجديد، الذي ادّعت الدولة أنه أتى أيضًا بفضل المؤسسة العسكرية وحكمة القائد العسكري، فقدت الوطنية المتمحورة حول الحرب والكفاح المسلح وظيفتها في تعبئة المجتمع وتوحيده، فكان لا بد من وطنية هوياتية جديدة لا علاقة لها بالحرب. واكب ذلك أزمة الطبقة الوسطى، في ظل الانفتاح الذي جاء متناقضًا مع أيديولوجيات الإنتاج والتصنيع والتقشف والتمصير الذي روج له النظام الناصري، وكان على هوى الطبقات الوسطى، التي أتاح لها التعليم آنذاك بعض إمكانيات الصعود الاجتماعي».
في المقابل، أدى الانفتاح إلى اتساع قطاع الاقتصاد غير الرسمي وظهور نماذج للصعود الاجتماعي غير مرتبطة بالتعليم، ومَقْرَطة الاستهلاك نوعًا ما، فشعرت الطبقة الوسطى بالحاجة إلى الدفاع عن وضعها الاجتماعي المتميز، فظهر خطاب يصور الطبقة الوسطى المتعلمة كالحامي الشرعي للأصالة والهوية المصرية في مقابل الجهل والجشع والاستهلاكية».
امتدت هذه الحالة حتى بعد اغتيال الرئيس أنور السادات، وكانت الأغنية الجديدة برؤية تتكئ إلى التاريخ وحضارة السبعة آلاف عام، وبمفردات من قبيل الحضارة والأصالة والعراقة، النيل والهرم وبحر الكرم، حيوية وعزم وهمة، وفي الدُنيا أول أمة.
صوت الحرية بينادي
في اليوم التالي لتنحي مبارك أذيعت أغنية «يا بلادي»، باستعارة مطلعها من أغنية قديمة وكلمات جديدة على لسان الشهداء، وجاء قاموسها بين «رصاص» و«دم» و«شهيد».
بينما أنتجت ثورة الجيش في يوليو 1952 هذا السيل من أغنياتها الوطنية، لم يحالف الحظ كثيرًا ثورة 25 يناير في إنتاج أغانيها الوطنية.
اجترت الثورة عددًا من الأغنيات القديمة التي كانت ممنوعة (أغنيات الثنائي إمام-نجم، أو منسية، أو أغنية أنا الشعب لأم كلثوم)، وأُنتِجَت أغانٍ ثورية تناسب لحظتها وسياقها، فبين عامي 2011 و2013، عمر ثورة 25 يناير، برزت خمس أغنيات عبر وسيط الثورة الأبرز «الإنترنت»، وكانت أول أغنية عن الثورة قبل ساعات فقط من تنحي مبارك وتسليم المجلس العسكري مقاليد الحكم.
ففي ظهر 10 فبراير 2011، أُطلِقَ فيديو كليب يتضمن مشاهد من أيام الثورة الأولى مع لقطات مصورة للمواطنين بميدان التحرير، يرفعون لافتات عليها كلمات الأغنية، التي جاءت من قاموس جديد على الأغنية الوطنية المصرية، تَضَمّن «دم، أحلام، موانع، حرية، بُكره».
وفي اليوم التالي للتنحي، أذيعت لأول مرة أغنية «يا بلادي»، باستعارة مطلعها من أغنية قديمة وكلمات جديدة على لسان الشهداء، وجاء قاموسها بين «رصاص» و«دم» و«شهيد»، وكان الدم هو شعار المرحلة، وبالتالي كانت له غلبة الحضور في كلمات الأغنيات، إلا أن كلمة الدم لم تظهر في كلمات الأغنية التي لحنت هتاف الثورة الأبرز «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية». كانت لغة خطابها تأكيدًا للحضارة القديمة والنيل، وقدرة المصريين على أخذ حقوقهم وتأمين مستقبلهم، لغة خطاب تجسد اللغة السائدة حينها في 2011.
تسلم ياللي رافعت رايتها، وقَدّرتها ودفعت قيمتها
أنتجت 30 يونيو أغنية «تسلم الأيادي»، التي تثمِّن دور الجيش في حماية خروج الجماهير في 2013 لمواجهة نظام الإخوان المسلمين الذي ظل في الحكم قرابة عام، بنفس أسلوب اللحن الراقص العالق في الذهن، وكلمات تتكئ إلى تاريخ الجيش المصري في انتصار أكتوبر 1973: «تسلم الأيادي، تسلم يا جيش بلادي»، من كلمات وألحان مصطفى كامل، وغناء: إيهاب توفيق وخالد عجاج وسمير الإسكندراني وحكيم وهشام عباس وغادة رجب وبوسي وسومة وأحمد كامل.
هذه اللغة التي تُعلي من قيمة الجيش وتاريخه، والتي تؤنث مصر لحساب الجيش الذكر الذي يُقدِّرها ويدفع قيمتها، ظلت حاضرة حتى بعد مرور قرابة خمس سنوات على 30 يونيو، وصعود المشير السابق عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم، وكان حضورها قويًّا في الأغنية الصادرة في يناير 2016، وتحمل اسم «تحيا مصر»، شعار حملة السيسي الرئاسية، صورت مصر كـ«عروسة لابسة طرحة جاية لينا من بعيد».
يقارب هذا الخطاب خطاب الوطنية المصرية عقب يوليو 1952، إلا أن خطابًا مختلفًا برز مؤخرًا، وتحديدًا مساء 24 يناير 2018، مع أغنية جديدة تحمل نفس الاسم «تحيا مصر»، وجاء خطابها جامعًا لخطابات الأغنيات الوطنية السابقة من قاموس يضم «التاريخ، والحضارة، والدم، والمسلّة، والجد، والجيش، وأمة، ونبني، وسبعة آلاف سنة، وشرطة، وشعب، ومسلم، ومسيحي»، ويدعم خطاب الوحدة الوطنية والتاريخ الفرعوني، ويؤكد حُب الجيش في جملة «وحدة عمرها آلاف السنين شعب قادر يبني أمة حب جيشه بيجرى في الوريد».
على العموم، تبدو الأغنية الوطنية كنوع من الأغاني مرشح للبروز أكثر في الفترة القادمة، التي تحاول فيها السلطة المصرية صياغة خطاب وطني يرتكز على دور الجيش والشرطة في حماية البلاد من الإرهاب، وإن كان هذا البروز قد تصاحبه، كما هي العادة في هذا النوع، انخفاضًا في مستوى الأغاني نفسها.