كتبت هذا المقال المؤلفة الكويتية ليلى العمار، ونشرته على موقع The New Arab، وترجمته لمنشور خديجة يوسف.
كل بضعة أشهر تجد مقالًا يبكي موت اللغة العربية، سواء بشقها المنطوق أو اللغة العربية الفصحى الحديثة (المستخدمة في الإعلام)، والسبب دومًا واحد: هيمنة اللغة الإنجليزية.
من المعروف أن الهيمنة الاستعمارية دائمًا ما تكون مصحوبة بمحاولات للهيمنة الثقافية كذلك، هدفها الأول هو اللغة. يقول الأديب والكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو إنه «في إطار الغزو الاستعماري، تؤثر اللغة في عقول المستعمَرين كما يؤثر السلاح في أجسادهم».
اللغة عصب الثقافة، وهي الشمس التي تشرق على قلعة تراث الشعوب. وحين ينقطع اتصال الشعب بلغتهم، تنقطع صلتهم بذواتهم، وينفك ميثاق استمراريتهم التاريخية.
المناهضون لنظرية هيمنة الإنجليزية وموت العربية يجادلون بأن الأخيرة لا تزال اللغة اليومية للغالبية العظمى من سكان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذين يبلغ عددهم نحو 400 مليون نسمة. أما «مشكلة» هجر الحديث باللغة العربية واستبدالها بالإنجليزية فتتركز في طبقة معينة من العرب، وهم أبناء التعليم الأجنبي الخاص.
ماذا لو كان الخطر قادمًا من الداخل وليس الخارج؟
في الفترة التي تسبق معرض القاهرة الدولي للكتاب (والذي استمر بين 24 يناير و6 فبراير 2023)، ثارت ضجة كبيرة إثر صدور ترجمة حديثة لرواية هيمنغواي «العجوز والبحر» بالعامية المصرية، عوضًا عن الترجمة بالفصحى الحديثة.
احتفى البعض بصدور هذه الترجمة اقتناعًا بحتمية التعامل مع المصرية باعتبارها لغة قائمة بذاتها، فهي واسعة الانتشار كلغة منطوقة، وهي لغة الأفلام والأغاني. بينما انتقد آخرون الخطوة لاختيارها اللهجة القاهرية لتمثيل «اللغة المصرية»، والتغاضي عن لهجات الدلتا والصعيد.
«العجوز والبحر» لم تكن أول عمل إنجليزي يقدَّم بالعامية المصرية، ففي أواخر التسعينيات أقدم المفكر والمحلل النفسي مصطفى صفوان على ترجمة مسرحية «عطيل» لشكسبير إلى العامية المصرية، تطبيقًا لإيمانه بأن ما يؤرق العالم العربي من مشاكل سياسية واجتماعية يعود إلى أن «لغتنا الأم» غير مستخدمة في الكتابة.
في كتابه «لماذا العرب ليسوا أحرارًا؟»، يطرح صفوان فرضية مثيرة للجدل مفادها أن التقدم العربي يتطلب احتضان لهجاتنا المنطوقة واستخدامها في الكتابة. يستخدم الكاتب ملحمة «الكوميديا الإلهية» لدانتي لتأكيد نظريته بأن العامية المصرية مثلها بالنسبة للغة العربية كمثل الإيطالية للغة اللاتينية. بعبارة أخرى، يرى صفوان أن العربية لغة ميتة بالفعل، وليس لها نفع لغالبية الناس.
يجادل صفوان بأن إنتاج نصوص أدبية وفكرية «عميقة» بالعامية سيتيح للجمهور «الجاهل» الاطلاع على الأفكار المعقدة، والتي ستمر بعد ذلك بمراحل مختلفة من التداول والمناقشة والتطوير، وهو ما سيقود في النهاية إلى التقدم الحضاري.
لا تخلو فرضية مصطفى صفوان من ثغرات، فالمؤكد أنه حين قارن العربية باللاتينية كان يقصد الفصحى التي كانت متداولة في العصر الذهبي للإسلام، وليس اللغة العربية الحديثة المنحدرة منها، وهي لغة التعليم الحكومي ووسائل الإعلام والوثائق الرسمية اليوم. الحكم على هذه اللغة بالموت يعني القول بأن المواطن العادي في بيروت أو الإسكندرية لا يمكنه فهم برنامج إذاعي، أو استيعاب عناوين الصفحة الأولى من الجريدة المحلية.
كما أن افتراض عدم تمكن الجمهور من فهم الإنتاج الأدبي المكتوب بهذه اللغة الحديثة يعني تجاهل أن الوسيلة الأساسية لنقل الثقافة في العالم العربي كانت شفوية دومًا. فعلى مر تاريخنا، تفوقت الشعوب العربية في اللغة المحكية شفاهة، وهو الأمر الذي ربما ألحق بنا بعض الضرر في نهاية المطاف.
أما في الأزمنة المعاصرة فقد حازت أعمال «عميقة» لكل من جبران خليل جبران ونزار قباني وغيرهما على الاهتمام الجماهيري، بعدما تغنت بها أم كلثوم وفيروز وعبد الحليم حافظ.
ربما يكون أكبر خطأ وقع فيه مصطفى صفوان هو اعتبار المصرية لغة وليست لهجة من اللهجات العربية. ما معنى أن نسمي شيئًا ما «لغة»؟ كيف يمكن أن يمثل هذا خطرًا علينا كعرب؟ ما الآثار المترتبة على تجسيد المصرية (أو أي لهجة أخرى) كلغة مكتوبة؟
اللغات تتطلب وجود قوانين تؤطر طريقة الكتابة، من حيث البناء اللغوي والقواعد وتوحيد الإملاء وغيرها من الاعتبارات. ربما تتساءل: إذا كان السعودي يفهم اللهجة المصرية حين يسمعها في أغنية متداولة أو من زميل مصري، فلماذا لا يفهم رواية مكتوبة بها؟ الأمر برمته يتعلق بمتطلبات اللغة المكتوبة، وهو ما يمكن أن يفصل اللهجات العربية عن مصدرها الأصلي المشترك، وبالتالي يجرّدنا من فكرة العروبة التي نتشاركها.
لنضرب مثالًا بكلمة «ظُلم» التي تنطق باللهجة الكويتية بظاء مفخمة، بينما تكون في المصرية أقرب إلى «زلم». ومع ذلك، حين يسمع شخص كويتي متحدثًا مصريًا ينطقها بتلك الطريقة المختلفة، تتبادر إلى ذهنه كلمة «ظلم» بنفس الشكل الذي يراه في الصحف. لكن ماذا لو قرر كاتب مصري أن يوردها كما ينطقها «زلم» في إحدى رواياته؟
هذه الطريقة الفاسدة في الكتابة نراها اليوم على تويتر، فكثير من العرب يكتبون كما ينطقون في لهجاتهم، وهو ما يتطلب من الآخرين بذل مجهود كبير لفك طلاسم المكتوب. بالطبع هذا لا يحدث سوى على وسائل التواصل الاجتماعي التي تعج أساسًا بالفوضى، لكن ماذا لو صار هذا هو الواقع؟ ماذا لو أصبحت «زلم» هي طريقة الكتابة المعتمدة في مصر؟ لمعرفة النتيجة، يمكن إلقاء نظرة على المقتطفات المنشورة من ترجمة رواية «العجوز والبحر» التي أشرنا إليها.
"جوه الكوخ ركن الصاري على الحيطه. في الضلمه لقا إزازة ميه وشرب منها شويه. وبعدين رقد ع السرير. شد اللحاف فوق كتافه وبعدين غطّا ضهره ورجليه ونام على وشه فوق الجرايد ودراعاته ممدودين وكفوفه لفوق".
ومع الوقت، لن يكون من الصعب تخيل يوم نحتاج فيه إلى ترجمة رواية مصرية للإماراتية، أو نص تونسي للعراقية مثلًا. ولو قررت وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والهيئات الحكومية تبني هذا الاتجاه، ستموت اللغة العربية فعلًا، وتموت معها الروابط التي تجمع العرب ببعضهم.
عروبتنا المشتركة، التي تعاني من ضغط هائل بالفعل، ستضيع إلى الأبد.
لغتنا العربية تحمل داخلها القواسم المشتركة لتراثنا الغني الممتد منذ قرون، والمستمر في التمدد سواء في الأدب أو الشعر أو الفلسفة أو الفن. يقول عالم الاجتماع السوري حليم بركات إن اللغة ليست فقط «تجسيدًا لثقافة كاملة»، ولكن أيضًا «مجموعة من الروابط عبر الزمان والمكان».
بل إن العديد من العلماء يعزون إخفاقات الحداثة العربية إلى القطيعة مع الماضي، والتي جاءت مع النهضة (الصحوة العربية في القرن التاسع عشر). في الثمانينيات، سلك الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري طريقًا معاكسًا لنظرائه من المثقفين، مشيرًا إلى أن مفتاح حل مشاكلنا الحالية وبناء مستقبل أفضل يكمن في التعامل مع ماضينا بالتقدير والانتقاد والفهم وإعادة الاستيعاب، بدلًا من رفضه تمامًا لصالحه النماذج الأوروبية.
السبيل الوحيد إلى التقدم بصورة أصيلة ومستمرة هو مداواة الجرح الذي أحدثته النهضة.
اللغة لها تأثير عميق ومعقد على النفس، وهو تأثير محوري بالنسبة للهوية والتماسك المجتمعي. فاللغة مرآة تعكس الواقع المجتمعي، لكن لها أيضًا قدرة على تشكيل هذا الواقع. لو تحققت فرضية مصطفى صفوان وخسرنا لغتنا العربية المشتركة، سيكون هذا نجاحًا يتجاوز أقصى طموحات الغرب في تقسيم المنطقة العربية.
إذا حدث هذا فلن يكون هناك رجوع عن اغترابنا الذاتي الذي صنعته النهضة، سنبقى منفصلين عن أنفسنا، ونعيش إلى الأبد في هذه الحداثة الفاشلة منفصمة الشخصية.