كثير ممن تتابعوا «Dark» وصفوه بأنه واحد من أكثر المسلسلات تعقيدًا، وهذا ناتج عن تعقيد الشخصيات، إذ يتكرر اسم الشخصية بأشكال مختلفة وأنماط أخرى في أزمان متباينة، لذلك نفقد أحيانًا القدرة على الربط بين الأحداث والشخصيات عبر الأزمنة.
هنا حديث عن الأفكار والنظريات والفلسفات التي يقوم عليها المسلسل، وقد تحتوي على بعض الحرق للأحداث لمن لم يشاهده.
العَوْد الأبدي والحلقة الزمنية المغلقة
«إن عودة كل شيء هي أكبر تقريب ممكن لعالم الصيرورة من عالم الوجود» - فريدريك نيتشه.
آمن نيتشه ونظَّر إلى أن الأحداث الكونية تتكرر بنفس النمط والكيفية، فما حدث في الماضي يتكرر حدوثه في الحاضر، وما يحدث في الحاضر سيتكرر حدوثه في المستقبل عبر دورات زمنية متكررة.
يقول نيتشه في كتابه «هذا هو الإنسان» عن فكرة العود الأبدي وكيف طرأت له: «هي أعظم صيغة للتأكيد يمكن للإنسان أن ينالها. في أغسطس 1881 دونتُ مذكرة صغيرة عنها أسميتها: ستة آلاف قدم وراء الإنسان والزمن. في ذلك اليوم كنت أجتاز الغابة على طول بحيرة سلفابلانا، وبالقرب من كتلة صخرية هائلة برزت على شكل هرمي، وعلى مقربةٍ من سورلي، طرأت لي هذه الفكرة».
إنها فكرة بسيطة عندما نقولها، لكنها عصيَّة على الفهم عندما تظهر كواقع كوني.
لتقريب فكرة العود الأبدي، نفرض أن الكون عبارة عن آلة بها عدد من العناصر والمكونات، هذه الآلة بُرمجت على كيفية معينة بحيث تؤدي نفس الخطوات والعمليات والإجراءات كلما أُعيد تشغيلها، والمسلسل يصور هذه الآلة على أنها تعمل بشكل متواصل لمدة 33 عامًا، بحيث تنتج خلال هذه الأعوام أحداثًا وشخصيات ومعالم تُشكِّل الكون في تلك الفترة، ثم تنطفِئ الآلة ويُعاد تشغيلها من جديد، وهكذا.
هذه هي الفكرة البسيطة التي يقوم عليها المسلسل، لكن دمج الفكرة مع فكرة السفر عبر الزمن لتبيين التكرار في الأحداث والشخصيات، من خلال سفر بعض شخصيات المسلسل إلى أبعاد زمانية مختلفة، هو الذي أنشأ كل هذا التعقيد، إذ إنها فكرة بسيطة عندما نقولها، لكنها عصيَّة على الفهم عندما تظهر كواقع كوني.
تكررت الإشارة إلى فكرة العود الأبدي عند نيتشه في المسلسل بطرق مختلفة، على سبيل المثال: ما حدث لإيريك واختفائه هو نفس ما حدث لمادز شقيق أولريش قبل 33 عامًا، وهو نفس ما حدث لميكيل ابن أولريش بعد 33 عامًا، والأمر يتكرر بنفس الطريقة كما تقول شارلوت. تصرح الشخصيات بين الحين والآخر بشعورهم أنهم قد مروا بالأحداث نفسها من قبل لكنهم لا يدركون ذلك على وجه الدقة والتحديد (متى؟ وأين؟)، وكذلك الجملة المتكررة على لسان هيغل العجوز: «سيتكرر الأمر».
بوابات السفر عبر الزمن
يستعين مسلسل «Dark» بفكرة البوابات النجمية الأرضية، التي تكونت في الكهف بالغابة نتيجة لكارثة أو انفجار نووي، حدث وأنتج كمًا هائلًا من الطاقة، مكَّن بدوره من فتح بوابات لها مسارات دودية تفتح على أبعاد زمانية مختلفة يفصل بين البعد والآخر 33 عامًا.
حلقات الوقت لها تأثير كبير على مبدأ السببية، فما دام هناك ثقب دودي فهناك حلقة زمنية مغلقة داخلها، كل شيء مشروط بشكل متبادل، الماضي لا يؤثر فقط في المستقبل، بل المستقبل أيضًا يؤثر في الماضي، الأمر يشبه مسألة الدجاجة والبيضة، لم يعد بإمكاننا الجزم بشأن من وُجد أولًا، فكل شيء مترابط.
أكثر تصوير يوضح عمل الثقب الدودي هو المشهد الذي ذهب فيه أولريش إلى الكهف ليبحث عن ابنه ميكيل، ووصل إلى باب حديدي مغلق، وكان ميكيل في الجهة الأخرى من الكهف ويسمع خُطى أبيه ويناديه، لكنه لا يتمكن من فتح الباب. الفارق الزمني بينهما 33 عامًا، بينما الفارق المكاني عدة أمتار. هنا، الزمن مجرد وهم ولا وجود حقيقي له.
الصراع الفلسفي لتفسير الكون والوجود
هناك فلسفتان تتحكمان في سير أحداث المسلسل وتهيمنان على كل ما يجري فيه: فلسفة تؤمن بأن الكون يعيد تكرار نفسه في كل دورة زمنية بذات الأحداث والأنماط السلوكية للشخصيات، وفلسفة أخرى تؤمن بأنه يمكن تغيير أحداث الماضي لتجنب الأخطاء المترتبة عليها في المستقبل.
هيغل العجوز يحاول أن يقتل هيغل الشاب عن طريق صدمه بسيارته، لكن نفاجأ بأن العجوز يموت بينما يعيش هيغل الشاب.
فلسفة التكرار الأبدي للأحداث يمثلها آدم، وفلسفة إمكانية التغيير الزمني تمثلها كلوديا العجوز. والذي يظهر إلى الآن أن الاتجاه الفلسفي الأول هو الطاغي على الأحداث، إذ كل من يحاول التغيير في الماضي يفشل ويشعر بالعجز.
رأينا ذلك في محاولة أولريش قتل هيغل الصغير لتفادي فقد ابنه ميكيل، لكن نكتشف أن هيغل يُعاد من جديد عن طريق نواه ليمارس نفس الدور. كذلك، كلوديا الوسطى تحاول تفادي موت أبيها إيغون تيدمان عندما تعرف ذلك قبل حدوثه، لكن نكتشف أنها هي التي تسببت في موته في نفس المكان والتاريخ. هيغل العجوز أيضًا يحاول أن يقتل هيغل الشاب عن طريق صدمه بسيارته، لكن نفاجأ بأن العجوز يموت بينما يعيش هيغل الشاب ليكرر الأفعال نفسها التي ترسم المستقبل نفسه. حلقة من الدوران الزمني للأحداث بشكل أبدي ودائم، وفشل تام في إمكانية التغيير أو التعديل.
في المسلسل، نلاحظ وجود أشخاص متحكمين في الأحداث، ويحاولون تطويعها لخدمة إيمانهم ومعتقداتهم في الكون والحياة والطبيعة البشرية، وهم إلى الآن كما يتضح: آدم وكلوديا، وهما على طرفي نقيض، آدم يريد الحفاظ على ثبات الأحداث وتكرارها الأبدي، بينما كلوديا تريد التغيير.
آدم له أتباع ينفذون أوامره وأجندته، وكذلك كلوديا، ويظهر أن الأتباع مترددين وغير ثابتين، إذ قد يتبع أحدهم آدم ثم تحذره كلوديا مما يفعله، فيقتنع بها ويتبعها.
هكذا خُلق العالم
تكررت جملة «هكذا خُلق العالم» كثيرًا في المسلسل، وهي إحدى الجمل المكتوبة في نص اللوحة الزمردية المنسوبة إلى هِرمس، وشاهدنا هذه اللوحة مرسومة على ظهر نواه (نوح)، مما يعني إيمانه بها واعتقاده بمحتواها، وبالتالي فنواه أحد الذين يريدون تكرار أحداث العالم على نفس النحو الذي خُلق به.
نواه هو أحد كُتاب المتون الهرمسية الذين يسمون أنفسهم الكيباليون، ويلمِّح المسلسل لذلك حين تأخذ إليزابيث الكتاب «كيباليون: الفلسفة الهرمسية» وبداخله صورة لمجموعة أشخاص من ضمنهم نواه، هؤلاء هم جماعة «هكذا خُلق العالم».
نلاحظ أن هناك مجموعة مبادئ هرمسية يقوم عليها المسلسل، مثل مبدأ القطبية. وقد ظهر في مقولة يوناس الأوسط ليوناس الأصغر: «كل قرار لشيء يُعد قرارًا ضد شيء آخر»، أي أنه لو أعاد ميكيل فلن يكون هو موجود. أيضًا يقرر مبدأ القطبية أن الشيء وضده هما نفس بعضهما، أي أن البداية هي النهاية والنهاية هي البداية، لو تحركت باتجاه الشرق باستمرار فإنك بعد مدة زمنية ستكون في الغرب وتعود إلى نفس النقطة التي تحركت إليها.
أكثر ما يجعلنا لا نستطيع فهم ما يحدث، أو ربط الأحداث والشخصيات بشكل دقيق في المسلسل، هو بناؤه المعتمد على مغالطة الدائرة المغلقة.
من المبادئ المهمة في المسلسل: السبب والنتيجة، إذ لا يحدث شيء دون سبب ولا يوجد سبب دون نتيجة، لذلك ينتفي أي احتمال لوجود الصدفة. وقد تكرر نفي مبدأ الصدفة في كثير من الحوارات في المسلسل، بالتالي فكل ما يحدث للشخصيات هو نتيجة أسباب معينة وليس اعتباطيًا، وأي تغيير في الأسباب سيؤدي لتغيير في النتائج. لكن في المقابل، تلك النتائج التي حدثت كانت ناتجة عن أسباب أدت إليها، وهنا يظهر أن كل شيء مترابط ومتصل، ولا يمكن تغيير الأسباب لأن نتائجها موجودة في الكون، وكل من يحاول التغيير يفشل.
أكثر ما يجعلنا لا نستطيع فهم ما يحدث، أو ربط الأحداث والشخصيات بشكل دقيق في المسلسل، هو بناؤه المعتمد على مغالطة الدائرة المغلقة، ومن أبرز أمثلتها أيهما أتى أولًا: البيضة أم الدجاجة؟ أي إن السبب ونتيجته يعتمدان على بعضهما بعضًا. وقد ألحَّ المسلسل على هذا في أن البداية هي النهاية والنهاية هي أصلًا بداية، وكل شيء متصل ومرتبط، وهذا بدوره يؤدي إلى التسلسل، وأن الأحداث تتكرر دون توقف وتبدأ من حيث تنتهي بنفس الكيفية، هذا أحد المُحالات التي قد لا يستوعبها العقل.
يظهر هذا واضحًا في إشكالية الابنة إليزابيث التي تلد أمها شارلوت، وفي نفس الوقت شارلوت هي أم إليزابيث.
فكرة الدائرة المغلقة تهيمن على أغلب الأحداث والشخصيات في مسلسل «Dark»، لذلك نلاحظ تلاشي المنطق في بعض الأحداث، ويُظهر السيناريو والحوار ذلك بوضوح عندما تتردد على ألسنة الشخصيات جُمل مثل: «أعلم أن هذا غير منطقي»، لأن المنطق يخالف فكرة الدائرة المغلقة والتسلسل.
يأتي هنا دور كلوديا، التي تُريد كسر هذه الدائرة والحلقة والدوامة لمنع الأحداث من التكرار، وإعادة التوازن الطبيعي إلى حياة العائلات والأشخاص، وتفادي الأخطاء التي حدثت.
عبادة المشاعر وحرية الإرادة الإنسانية
يقول الفيلسوف الفرنسي «ميشيل لاكروا» في كتابه «عبادة المشاعر»، إن «مؤرخي المستقبل الذين سيشرعون في وصف حقبتنا التاريخية، سيخلصون إلى أنها كانت تتميز بطغيان المشاعر».
يبدو واضحًا في المسلسل كيف تتحرك الشخصيات بدافع مشاعرها وعواطفها تجاه الأحداث، وكيف يمكن التحكم بها من خلال ذلك. مشاعر الأب تجاه ابنه التي كانت دافع أولريش لأن يعلَقَ في زمن ليس زمنه، ويُتهم بجريمة لم يرتكبها، ومن ثَم يوضع في مصحة نفسية حتى يشيب، ومشاعر الابن تجاه أبيه التي كانت دافع يوناس إلى أن يُصدق آدم ويؤمن بأنه يستطيع تغيير حدث انتحار أبيه، لنكتشف بعد ذلك أنه على العكس كان سببًا في ذلك.
يجسد هذا قول آدم في المسلسل: «الناس كائنات غريبة، جميع تصرفاتهم مدفوعة بالرغبة وشخصياتهم يصوغها الألم، بقدر ما يحاولون كبح هذا الألم وكبت الرغبة، لا يستطيعون تحرير أنفسهم من العبودية الأبدية للمشاعر».
نتيجة لهذه العبودية الأبدية للمشاعر، تتصرف الشخصيات بما يجب أن تفعله وفق تراتبية الأحداث زمنيًا، بمعنى أنه لا توجد احتمالات متعددة أو بدائل مختلفة تتيح الاختيار من بينها، بل تتابع حتمي يؤدي إلى نتيجة واحدة بشكل دائم ومتكرر، وما يعتقده الشخص من أنه يستطيع أن يقرر ما يشاء بمحض إرادته ليست سوى وهمًا.
يتجلى هذا بوضوح بعد قتل آدم لمارثا، إذ يقول ليوناس: «كان يمكنك أن تمنعني، أو أن تحاول إنقاذها»، في إشارة إلى أنه لم يكن بإمكانه حقيقةً، وأن الأمور والأحداث لا بد وأن تسير بهذا الشكل والكيفية، كما حدث في الماضي يحدث الآن، وسيحدث في المستقبل.