يمتلك مسلسل «Community» من كتابة «دان هارمون»، واحدة من أوفى القواعد الجماهيرية على الإطلاق، وكان ينجو من الإلغاء سنة تلو الأخرى بسبب متابعيه، الذين كانوا يعوضون نقص أعدادهم بصوتهم الجهوري على الإنترنت، مطالبين قناة «NBC» بالتجديد لمسلسلهم المحبوب مواسم إضافية.
عُرف عن كوميونيتي مستواه الكوميدي الذكي، والمرتبط بشكل كبير بمراجع الثقافة الشعبية (Pop Culture) من أغانٍ ومسلسلات وأفلام. ودون شك، كان المسلسل سباقًا من هذه الناحية، ففي وقت كانت مسلسلات أخرى تخصص مشهدًا أو حوارًا واحدًا فقط لذكر أحد المراجع من مسلسل أو فيلم شهير، كان كوميونيتي يخصص حلقات كاملة لتبنيها واقتباسها في إطار كوميدي فريد من نوعه. كانت تلك طريقة المسلسل في مكافأة متابعيه المحدودين على معرفتهم بالفن المرئي، والتلفاز تحديدًا.
أسلوب المسلسل هذا هو ما جعل عدد متابعيه قليلًا للغاية، فمشاهدة حلقة عشوائية وأنت لا تعرف أي شيء إطلاقًا عن المسلسل قد لا تجذبك نحوه، بل سوف يراودك شعور بأنك متأخر جدًا وعليك مشاهدة عدة حلقات سابقة حتى تبدأ في فهم طبيعة المسلسل وطبيعة الشخصيات وعلاقاتها، لأن هناك الكثير من النكات المرتبطة بحلقات سابقة وعلى مدى أكثر من مواسم.
فهل أسلوب المسلسل والكوميديا الذكية هي سبب الوفاء الاستثنائي من جماهيره؟ إنه أحد الأسباب دون شك، لكنه ليس السبب الرئيسي.
كوميونيتي: معالجة جديدة لمشكلة الصداقة
في عام 2009، انتقلتُ إلى المرحلة الثانوية، وانتقل جميع أصدقاء المرحلة المتوسطة إلى ثانوية أخرى. لذلك، وكأي شخص آخر من مختلف المراحل العمرية، وجدت صعوبة في تكوين الأصدقاء في أماكن جديدة، صعوبة في الانضمام إلى مجموعة أصدقاء مؤسسة مسبقًا ومكتفية بأعضائها. قد تكون محظوظًا في بعض الأيام وتسنح لك الفرصة بعدة محادثات مع بعض الأشخاص، لكن هذه المحادثات لا تعدو كونها تمضية وقت بالنسبة إليهم، لأنهم كونوا صداقاتهم مسبقًا، وجميع المقاعد امتلأت.
لكن في أحد الصباحات وقبل الذهاب إلى الثانوية، شاهدت الحلقة الأولى من المسلسل، الذي لم أكن أعرف عنه سوى أنه عمل جديد وأمتلك الموسم الأول منه كاملًا على جهازي المحمول. لم يحصل أي شيء جوهري بعد ذلك، كان الموضوع مجرد مسلسل سأبدأ بمتابعته في وقت الفراغ. لم يكن هناك شيء ساحر بخصوصه أو أمر مبهر تلاحظه من الوهلة الأولى. لكن مع مضي الوقت والحلقات، وبقدر كون الجملة التالية مبتذلة، بقدر صحتها: وجدت في كوميونيتي صديقًا.
لمن لا يعرف، كوميونيتي يتحدث عن سبعة أشخاص فشلوا في فترة معينة من حياتهم، ونتيجة لذلك اضطروا إلى الالتحاق بكلية المجتمع لتصحيح أخطاء الماضي. ودون الخوض في تفاصيل أكثر، تتحول هذه المجموعة من الغرباء إلى مجموعة من الأصدقاء غير المحتملين إطلاقًا، ويجد أفراد هذه المجموعة ضالتهم، إذ تقل فرصهم في الحصول على صداقات بشكل رهيب حين ينفصلون عن بعض، وفقط في وجودهم معًا يكونون مجموعة مترابطة من الأصدقاء.
ليس هناك شيء جديد في فكرة الشخصيات التي قدمها كوميونيتي، ففكرة الـ«Misfits» أو الأفراد غير الملائمين للمجتمع، كانت ولا زالت تستخدم في كل القصص المسرودة، لكن طريقة التعامل مع هذه الشخصيات وكيف كان اندماجها في مجموعة تلقائيًا للغاية هو الأمر الذي يستحق الإعجاب. بالطبع جزء من ذلك يعود إلى التناغم الكبير بين أفراد طاقم التمثيل، لكن السبب الرئيسي هو الكتابة المتقنة للشخصيات والحركة المستمرة في صداقتهم المتجددة دائمًا.
يتحدث الجميع عن النموذج الفعال الذي يكتب فيه دان هارمون شخصياته، وهو عبارة عن رحلة تبدأ برغبة الشخصية وحاجتها إلى الحصول على أمر ما، وتنطلق الشخصية في مسعاها، وبعد الحصول عليه تعود إلى نقطة الصفر لكن مع دفع الثمن، وهو التغيير. هذا هو الثيم الرئيسي لكل شخصيات هارمون، وينجح هذا الأسلوب لأنها شخصيات بحاجة ماسة إلى التغيير ومليئة بالعيوب، والأهم من ذلك أنها شخصيات غير قادرة على الاندماج في المجتمع، وتحاول تقمص أدوار أخرى لا تعكس ماهيتهم بشكل حقيقي مزيف.
هل التغيير هو الجواب الصحيح لمشاكل الانتماء؟
حتى كوميونيتي لم يعطِ جوابًا واضحًا لهذا التساؤل، وكان يتنقل بين إجابات بالقبول والرفض طوال مدة عرضه. في بعض الأحيان، نعم يجب علينا تقبل حقيقة أن العالم من حولنا يتغير، وحتى نستطيع إيجاد مكان لأنفسنا مستقبلًا فيه، يتحتم علينا التغيير. وفي أحيان أخرى، قد يكون البقاء على ما نحن عليه والثورة على التغيير هو فقط ما نحتاجه.
يقول «جيف» أحد أبطال المسلسل خلال حديث مع صديقه «عابد» إن «الاكتشافات الشخصية العاطفية مبالغ في تقديرها»، وكانت تلك إحدى المرات التي ذُكر فيها بشكل صريح أن التغيير ليس الحل دائمًا.
نتيجة لعملية الشد والجذب هذه، يظهر التغيير في أكثر صوره واقعية، بمعنى أنه تغيير بطيء للغاية، يستغرق فترة طويلة حتى يكتمل وتظهر نتائجه. تغيير غير جذري وأقرب إلى كونه تغييرًا خفيًا، ليس انقلابًا كاملًا في إحدى صفات الشخصية، ليس تحولًا معاكسًا إلى موقف مغاير، بل مجرد إدراك الشخصية أن كل موقف قابل للمراجعة، وكل فكرة مسبقة قابلة للتصحيح. وقد يكون التغيير في كثير من الأحيان مجرد القبول به، وأن الحياة تمضي دون توقف، غير مبالية بنا وبعنادنا على الإطلاق.
الأمر الذي لا خلاف فيه، ولم يتنازل المسلسل عن أهميته إطلاقًا، هو الصداقة.
أعتقد أن المسلسل يقدم نوعين من الحلقات: هناك الحلقات المخصصة لمحتوى كوميدي خالص، وحلقات أخرى مخصصة لتطور الشخصيات وإظهارها بمظهر طبيعي.
ورغم أن هذه الشخصيات والمواقف التي تواجهها قد تكون بالغة الهزلية، فإن ذلك لا يخرجنا من إطار واقعية الفكرة التي يناقشها المسلسل ولو لمرة واحدة، لأنه بقدر ما يهزأ بهذه الشخصيات والمواقف، فهو يعود لأخذها بجدية، ونتائج هذه المواقف حقيقية وتنعكس على الشخصيات فعلًا. وفي هذا النوع من الحلقات، يبرع المسلسل في إظهار الجانب الإنساني من شخصياته، وتصبح جميع المشاكل التي تواجهها وجميع العقبات التي تقف في طريقها محسوسة للغاية لدى المشاهدين، وتبدأ الرحلة التي قد تنتهي أو لا تنتهي بالتغيير.
الأمر الذي لا خلاف فيه، ولم يتنازل المسلسل عن أهميته إطلاقًا، هو الصداقة.
كانت المواقف والعقبات تواجه الشخصيات بشكل دائم، لكن الصداقة هي الداعم الأكبر لهذه الشخصيات في رحلاتها. وكان ارتباط الصداقة بالتغيير وثيقًا، فالأصدقاء هم المعين الأكبر على التغيير، والدفعة المعنوية المفقودة حتى نأخذ الخطوة الأولى نحوه. والأصدقاء كذلك هم أحد الأشياء القليلة التي تستحق أن نتغير لأجلها. وبالطبع الأصدقاء هم من يخبروننا بأننا أشخاص جيدين، ولسنا بحاجة إلى التغيير، وأن شخصياتنا هي سبب هذه الصداقة في المقام الأول.
كوميونيتي بالنسبة لي، وفي رأيي المتحيز جدًا، سيكون دائمًا مسلسلًا عن أهمية الصداقة، وكيف أن الحياة بكل قراراتها وصعوباتها، وبكل مشاكل تكوين النفس والتغيير وتقبل الذات، أسهل بكثير في وجود صداقات حقيقية، وأن جميع التجارب الحياتية إيجابية كانت أو سلبية، هي أفضل بكثير مع الأصدقاء.
الآن، وبعد مضي أكثر من عشر سنوات على عرض الحلقة الأولى، وخلال الحجر المنزلي وحظر التجول، أعدت مشاهدة مسلسل كوميونيتي كاملًا بعد ما أُضيف إلى مكتبة نتفليكس. وكما وجدت في هذا العمل صديقًا مقربًا في السابق، أجد فيه صديقًا أقرب الآن. الفارق الوحيد أن الأصدقاء الذين اكتسبتهم في تلك الفترة هم أفضل أصدقائي حتى الآن.