تختلف الذاكرة كثيرًا عن الذكريات، الذكريات محطات قد تُلخص أو تُبتذل أو تُعنون في كلمات الأغاني وحوارات الأفلام، وتشير إلى لحظات مضيئة، سعيدة أو حزينة، تتغير وفقًا لموقعك منها، ورأيك فيها. بينما الذاكرة هي الوعاء، المادة الخام، الخليط الحيوي الذي يمزج اللحظات بالأماكن والأشخاص والزمن.
وبينما يخلق الزمن لحظات تعريفية للحياة، يضعها في أُطُر، يعلقها على الحائط تحت مسمى «ذكريات»، فإنه يخلق نسيجًا قويًّا مختلطًا ومتضاربًا، ينتزعك بعنف ودون ترتيب أحيانًا، يسمى «الذاكرة».
لم أرَ في فيلم «سينما باراديسو» رسالة حب إلى السينما عندما شاهدته للمرة الأولى منذ سنوات. لم يعجبني أول مرة بقدر كافٍ، وربما كان «الخطأ» في التلقي هنا سببه اعتماد وجهة النظر السائدة بأن الفيلم هو أعظم رسالة حب إلى السينما، ووجوده كضيف دائم في صور مجموعات الأفلام السينمائية على مواقع التواصل الاجتماعي، رمزًا عامًّا للسينما.
ما رأيته بوضوح في المُشاهدة الثانية أنه فيلم عن الذاكرة، والسينما ذاكرة، ولعل هذا محل التشابه، السينما كجميع الفنون هي الذاكرة الجمعية للبشر من خلال الذاكرات الفردية، لكن منبع تفرُّد الوسيط السينمائي هو ذلك الخيط الدقيق الذي نحاول إيجاده بين مفهومي الذاكرة والذكريات.
تتنوع وسائط ذاكرة العالم التي سبقت السينما، وتختلف خصائصها. إما أشكالًا جَمْعية ككتب التاريخ، أو فردية كالروايات والمسرح والأعمال التشكيلية. وما يجمع كل ما سبق، ويخص سياق حديثنا، هو ميزة/عيب حضور الإطار الناقل للفن.
مهما بلغت دقة الرواية أو المسرحية في نقل تفاصيل حياة الأشخاص وأحلامهم وهواجسهم، فإنها تفعل ذلك عبر إطار، ذهني في الرواية وحِرَفي في المسرح. وتتشكل تلك الحياة في خيالك كقارئ وفي ديكورات المسرحية وأسلوب الرسام. والقصدية في العمل الفني شيء حتمي، ولا أدّعي هنا أن السينما تخلو من الحاجز، والتأطير، وتحديد جزء معين أو نظرة محددة، لكن يمكن الادعاء بأن السينما باستطاعتها نقل أكبر قدر من «الذاكرة» وليس فقط الذكريات، أكبر قدر من اللحظات العابرة.
سينما باراديسو: فيلم مثل حواديت الأبطال الخارقين
يبدأ فيلم «Cinema Paradiso»، أو «Nuovo Cinema Paradiso» (سينما باراديسو الجديدة) بحسب اسمه الأصلي، من لحظة يأتي فيها خبر من الماضي السحيق، عالم آخر نعرف أنه يبعد عن البطل 30 عامًا. يضربه كصاعقة لا يظهر أثرها إلا حينما يضع رأسه على الوسادة ليلًا. وهنا تنطلق الذاكرة، شذرات من الطفولة، رحلة استكشاف كونية تبدأ بمولد كل شخص وتنتهي بنهايته. فبالنسبة إلينا جميعًا، يبدأ الكون منذ لحظة تَذكُّرنا الأولى، وينتهي تمامًا بكل سكانه وكواكبه ونجومه وأحداثه حين نموت.
وكحواديت الأبطال الخارقين، حين يكتسب الإنسان قوته لأول مرة يكون التحكم فيها صعبًا، واسكتشافها وترويضها طريق طويل. يبدأ السيل المخزّن فوق رأس البطل في النزول عليه كقطرات أولًا، ثم كأمطار سريعة صاخبة. ذاكرة غائمة مظلمة تنبعث فيها ومضات، كفلاش الكاميرا الذي يضرب للحظة فينير الموجودات ونرى لمحة حقيقية جدًّا من عالم كنت تظن أنك قد نسيته، ثم يختفي مرة أخرى.
في النصف الأول من الفيلم، نرى الولد الصغير «توتو» والتفاصيل العالقة في ذهنه دون ترتيب وتجميل: أمه، أخته، منزله القديم، الناس الذين أحبهم، «ألفريدو». وفي النصف الثاني يمتزج الخيال والقصديّة بالواقع، ويمارس في ذهنه نوعًا من «المونتاج»، يمزج يوم عرض صيفي للسينما بيوم هطول أمطار شديدة بيوم عودة حبيبته إليه، كل ذلك في نفس اللحظة رغم عدم معقوليته، لأن ذلك أفضل، أكثر «سينمائيةً» ومَدْعاةً للتذكر.
اقرأ أيضًا: سال باراديس: حاول إعادة اكتشاف الحلم الأمريكي فأسس لـ«الهيبيز»
كيف يتحول الشغف؟
نرى الميدان الذي كان يضج بالحياة شبه خالٍ. هل خلى الميدان حقًّا من الناس، أم أن ذاكرة البطل صارت تمحو تلقائيًّا ما يراه غير مهم؟
كلما كبر البطل، صارت ذاكرته أكثر انتقائية، أكثر بحثًا عن المتغير وتجاهلًا للثابت. تبهت تفاصيل الصورة وتتحول إلى خطوط عريضة ولحظات مهمة فقط، كلحظات اللقاء، والوداع، والسفر، بعدما كانت في البداية تداعيًا من الأفكار المختلطة المليئة بزوار السينما العابرين وعوالمهم المتماسة بالكاد مع البطل، ورائحة التراب، وصوت الخطوات الصغيرة الراكضة، وقصاصات الأفلام القديمة، وضوء الشمس، وغرفة التحكم في قاعة العرض السينمائية، التي تملك من الحضور ما يفوق سكانها المتغيرين على مدار الفيلم.
بعدما كان توتو يرى كل الناس ويسمع كل شيء ويلتقط تفاصيل عابرة تمامًا (كالرجل والسيدة اللذين جمع بينهما حبهما لأفلام الرعب، وفي لحظة شهق فيها جميع من في دار العرض خوفًا وخبّؤوا وجوههم، تبادلا نظرتهما الأولى)، أصبح لا يرى غير نفسه.
تدريجيًّا، في تتابعات الثلث الأخير من الفيلم، نرى الميدان في لحظات السفر والعودة خاليًا أو شبه خالٍ. الميدان الذي كان يضج بالحياة والأشخاص الجذابة الكاريكاتيرية في البداية. هل بالفعل خلى الميدان من الناس؟ أم أن ذاكرة البطل صارت فقط أكثر تحديدًا وانتقائيةً وأقل خصوبة، وتمحو تلقائيًّا ما صار يراه غير مهم، لأن هكذا تعمل الذكريات؟
هل كان الميدان في البداية ممتلئًا حقًّا بأشخاص ثابتين يوميًّا، بهذه الصفات الواضحة والجمل المكررة؟ أم أنها مُخَيّلة الطفل التي تتشرب كل ما حولها، لحظات عابرة ومواقف متناثرة، وتعيد تشكيلها في نسيج واحد متداخل ينقل إحساسًا عامًّا واسعًا، لأن هكذا تعمل الذاكرة؟
اقرأ أيضًا: ذكريات زائفة: عندما يكذب عليك عقلك، لن تعرف أبدًا
العمر على شريط سينما
يتذكر توتو عمره في ومضات لا يمكنه القبض على أيٍّ منها لأكثر من ثوانٍ، فيصير مستعدًا لدفع أي ثمن ليمسك هذه الومضات بين يديه كما الماضي.
تُختزل الحياة في لقطات مع مرور العمر، يتبين ذلك على أعنف وجه في مشهد وداع توتو الشاب لأمه وأخته وألفريدو، لقطات خاطفة لعناقات متتالية وحقائب سفر. بعد أن واجه ألفريدو الشاب بأن الحياة ليست فيلمًا، وثباتك في مكان واحد لن يجعلك ثابتًا في زمن واحد كذلك. وبنص تعبيره: «يجعلك تظن أنك محور الأحداث، ثم تغيب لعام أو عامين فتجد أن كل شيء قد تغير». كل شيء يتغير حولك بالفعل سواء غِبت أم لم تغب، ولو كان توتو قد استسلم لسينمائية ذكرياته، لتغير كل شيء من حوله دون أن يدرك حتى.
لكن لتوتو، أو السيد «سلفاتوري» الآن، رأي مختلف، فحين يتذكر عمره كله في ومضات خاطفة لا يمكن القبض على أيٍّ منها لأكثر من ثوانٍ معدودة، يصير مستعدًا لدفع أي ثمن كي يمسك هذه الومضات بين يديه كما كان في الماضي، وينظر إليها بدقة وبوضوح وهدوء. لا يهم إن كانت لحظة عابرة أو موقفًا يوميًّا مملًّا يظهر فيه طيف ألفريدو أو صِبا أمه أو بيته القديم، لا أظن أنه قد يصنع لديه فارقًا أن تكون تلك اللقطة من النسخة «الممنتجة» من حياته، أم تكون لقطة مقصوصة وملقاة دون اهتمام.
قد يهمك أيضًا: ما سر ارتباط الروائح بالذكريات والمشاعر؟
معنى السعادة على الشاشة
عندما يعود إلى موطنه، يجد توتو أن أمه قد جمعت، بِنِيّة طيبة وبسذاجة أيضًا، كل ما كان «مهمًّا» في حياته كطفل: الدراجة والسرير القديم والصور و«الذكريات» المختلفة.
يتأثر بشكل ما، بشكل عابر ومبتسم وطفيف، لكنه حين يعرف أن ألفريدو جهز له هدية، هنا يصير للأمر رهبة أكبر. هذا الرجل، على عكس أمه، يعرف جيدًا الفارق بين نسخة الحياة المتناسقة المعروضة والنسخة الأخرى المليئة بالفوضى. وحين يبدأ العرض، يتأكد أن ألفريدو أخيرًا تصالح مع السينما، أو الجانب الآخر منها على الأقل.
في فيلم «سينما باراديسو»، كان توتو يُلِح في طفولته على ألفريدو، ببراءة وبساطة وبإصرار شديد، للاحتفاظ باللقطات المنزوعة من الأفلام، اللقطات التي يلقها ألفريدو في سلة المهملات ولا يفهم لماذا يرغب فيها الصبي إلى تلك الدرجة. في شيخوخته، أدرك ألفريدو السبب، وأهدى إلى السيد سلفاتوري ما سيجعله للمرة الأخيرة «توتو»، ويشعل في عينه التماعة جديدة دامعة من الصبيانية والسعادة والحب، والمشاعر المتضاربة، بعدما وصل الاثنان، كلٌّ بطريقته، إلى أن اللقطات المرفوضة غير المشذبة، تلك التي ظنناها غير جديرة بالعرض، هي ما يصنعنا.