أن تقول لا في وجه سلطة ما، انتصار صغير يرمم في ذاتك ما هُدم. من حسن حظي وسوئه أن كان لي اهتمام مباشر بالحراك المجتمعي الحقوقي لسنوات طويلة. الجانب الحسن في اهتمامي هذا أني وجدت ذاتي على الرصيف، في الوقفات الصامتة السلمية لمختلف القضايا الانسانية في الكويت. الجانب السيئ أن العمل الحقوقي في مجتمعنا يفسَّر بأنه عمل سياسي تخريبي مدعوم بأجندات خارجية.
يعرِّف «تشارليز تيلي»، عالم الاجتماع الأمريكي، الحركات الاجتماعية بأنها سلسلة من الأداء المتواصل والمعارضات والحملات التي ينفذها أناس عاديون لرفع مجموعة من المطالب. رأى تيلي الحركات الاجتماعية وسيلة مهمة تسمح الناس بالمشاركة في السياسة.
حين تطلَّب الأمر، احتشد الناشطون في شوارع الكويت وساحاتها لمختلف القضايا: نُصرة فلسطين، البدون، قرع الجرس للتذكير بحقوق المرأة المنقوصة، وأخيرًا الاعتصامات المناهضة لقرارات منع الكتب في ساحة الإرادة.
منذ ما يطلَق عليه الربيع العربي إلى الآن، مر العمل الحقوقي المدني بعدد من المراحل والممارسات. حمل الناشطون اللافتات بمختلف الأحجام والأنواع والتصاميم، ونستطيع القول إننا نلجأ إلى اللافتات قبل أي شيء آخر لسهولة صنعها وتصميمها، ولا ننكر أنها وسيلة فعالة لنشر الرسائل المراد توصيلها.
رغم حالة الركود الحقوقية التي نشهدها مؤخرًا في مختلف القضايا، فإن الحركات الاحتجاجية المقاوِمة لمنع الكتب في الكويت أبدعت خلال الأشهر القليلة الماضية في ابتكار أساليب مستحدثة للوصول إلى المواطن العازف عن المشاركة والاهتمام بالشأن الثقافي، من خلال فِرق قانونية تعمل على تعديل القانون: ندوات، اعتصامات سلمية، وقفات صامتة، مقبرة.
ربما حان وقت المقابر إذًا
بدأ مصمم الغرافيك محمد شرف العمل في هذا المجال منذ عام 1999، مصممًا حرًّا. درس التسويق في جامعة الكويت، والتصميم الغرافيكي في الجامعة الأمريكية، ثم أكمل رسالة الماجستير في أمريكا.
بحث شرف عن أكثر ما يضايقه في مدينته، مادةً لمشروعه الأول.
عندما تحدث معه «منشور» عن مشروع «مقبرة الكتب»، اقتضى الأمر أن يعود بالزمن إلى عام 2010، خلال فترة دراسته في الجامعة الأمريكية.
يتذكر شرف مشروعًا محددًا، طُلِب منه تصميم ملصق دعائي عن مدينته، وكان في ذاك الوقت عدد من الموضوعات الاجتماعية والسياسية التي تشغل الساحة الكويتية بشكل خاص، والخليجية بشكل عام. على سبيل المثال، ظهور مواقع التواصل الاجتماعي والاحتقان السياسي قبيل الربيع العربي والخلافات الطائفية في المجتمع الكويتي.
كانت هذه هي الأسباب الرئيسية التي دفعت شرف ليقرر أن يكون موضوع الملصق أكثر ما يكرهه في مدينته من منظوره الشخصي، واستمر المشروع ليصبح مجموعة من الملصقات على مدى خمس أو ست سنوات، بعنوان «Visual Reactions»، حمل غالبيتها الطابع السياسي، وناقشت القضايا الاجتماعية.
يرى شرف أن هذا المشروع أصبح جزءًا مهمًّا جدًّا في عمله، وامتد الأمر إلى الناحية الشخصية كذلك، إذ كان لهذه الملصقات تأثير إيجابي في مسيرته الفنية التي أسهمت تدريجيًّا بتشكيل هويته الفنية.
يقول شرف إنه يحرص في معظم أعماله على أن يكون محور حقوق الإنسان حاضرًا، وهذا الأمر، في رأيه، أعطى لبعض مشروعاته وتصاميمه شهرة واسعة عالميًّا.
يمكن فهم مشروع شرف الأخير «مقبرة الكتب» من خلال هذا الحرص (وربما الاهتمام) على حرية التعبير كحق إنساني صريح. فمع فترة انتشار قوائم المنع وتعالي الأصوات الرافضة للوصاية الفكرية والمنع في الكويت، بدأت الفكرة في التشكُّل. لم تكن كاملة الملامح في بادئ الأمر، واحتاج شرف أن يستشير بعض أصدقائه في ما يتعلق بآلية التنفيذ المناسِبة وحجم التمويل الذي يحتاجه.
بدأ شرف العمل على المشروع بصورته النهائية في بداية نوفمبر 2018، بحيث يكون مكمِّلًا لبقية الجهود المبذولة للاحتجاج على قرارات المنع، سواء كانت التحركات القانونية لتعديل القانون، أو الاعتصامات وطرق التعبير السلمية التي استُخدمت على نحو واسع، وذلك قبل الاستقرار على طريقة اختيار الشكل النهائي لتفاصيل العمل: مكان تنفيذه وتوقيته.
الاحتجاج دائمًا وأبدًا يحتاج طرقًا إبداعية.
يؤكد شرف حالة الحوار بينه وبين المهتمين، للوصول في النهاية إلى الخيار الأفضل بما يتعلق بالمشروع، أو حتى بالمكان المزمع إقامه المشروع فيه.
لم يكن موعد العمل أو مكانه هو ما آل إليه في النهاية. ففي أثناء الترتيبات كان شرف يرى أن يجري تنفيذ هذه المقبرة إما في مكان عشوائي في العاصمة، وإما مقابل وزارة الإعلام باعتبارها جهة الاختصاص بما يتعلق بأزمة المنع.
لكن خلال الحوار مع الأصدقاء، جرى اقتراح معرض الكتاب. بالفعل، ذهب شرف إلى أرض المعارض بهدف استكشاف المكان الأنسب لإقامة المقبرة الرمزية، ووجد مساحة ترابية معزولة، لكنها في موقع مناسب جدًّا، وحدد الوقت الذي سينطلق فيه العمل.
لا يخفي شرف أسفه على أن يظهر العمل بشكل فردي، ويحمل اسمه فقط، دون الإشارة إلى كل من أسهم من بعيد أو قريب. لكن هذا ينطلق في الأساس من ثقة شرف بأن لهذه المحاولات عواقب ومسؤولية غير معلومة. لذلك فضَّل شرف أن يتحمل العواقب بشكل شخصي.
وفقًا له، نحن اليوم خرجنا من إطار العمل الفني البحت إلى منظور الـ«Activism»، لذلك من المتوقع جدًّا أن لا تكون ردود الأفعال إيجابية بشكل متساوٍ.
يقول شرف إن ما شغله دائمًا كان الاحتجاج بطرق إبداعية. فالحركات الدفاعية التقليدية، وبخاصة في ما يتعلق بمنع الكتب، حظيت بنصيبها من التغطية.
في الوقت الذي يجري فيه التسويق لفكرة أن «الرقابة حامي الحمى»، والرقيب كالجندي الباسل الذي يحارب الأفكار العبثية ويحصن سور الكويت الثقافي، أراد شرف أن يسوِّق لفكرة مضادة، وهي «قتل الأفكار»، متمثلة في عناوين الكتب.
كان الهدف هو الاحتجاج بطريقة ابتكارية، ما يبرر اختيار أسلوب «Public Art Intervention» (الاحتجاج العام).
اختيار المقبرة كان له أكثر من هدف: الأول أن الرقابة قتلت هذه الكتب، وثانيًا لما للمقبرة من هيبة في ثقافتنا على الرغم من وجود اختلاف في طرق التعاطي مع المقابر. فالمقبرة السنية تختلف بالألوان والترتيب عن المقبرة الجعفرية.
ويوضح شرف أن أحد الآباء قال له إن المقبرة أدخلت الرعب في قلوب أطفاله، بينما وضع الجمهور أزهارًا على بعض الشواهد.
المتلقي الأساسي بالنسبة إلى شرف هو الإنسان العادي ببساطة، الذي يستطيع أن يتفاعل مع الفن دون تعقيد. وهو ما تحقق بالفعل، فقد حظي الموضوع بتغطية إخبارية واسعة، وعاد الحديث عن «المنع» إلى الصفحات الأولى مرة أخرى.
لم يكن مرجحًا أن يحصل شرف على تصريح من إدارة المعرض قبل إقامة المقبرة الرمزية، لأكثر من سبب، أهمها: اتخاذ التدابير الأمنية لمنع تطبيق الفكرة. وبالنسبة إلى هذا النوع الفني، يُعتمَد على خلخلة الوضع العام لصنع التأثير المرجو من العمل الفني، ولربما واحد من أهم السيناريوهات التي دارت ببال محمد شرف، لو كانت الإدارة منعت العمل من البداية، أن يأخذ الشواهد ويصنع محرقة لها.
ردود الأفعال متنوعة بشكل كبير، ما جعل من هذا العمل مؤثرًا في رأي شرف. فبعض الآراء كانت تنتقد الشواهد وترى أن المساحة لو زُرِعت وردًا لوصلت الرسالة، بينما رأت مجموعة من المتابعين بعض عناوين الكتب على الشواهد، واعتبرتها تأكيدًا لفكرة أن المنع يخص الكتب الرديئة فقط، بينما تغاضت عن رؤية عناوين مثل «الخلفاء الراشدون» و«نهج البلاغة» و«الموسوعة الميسرة»، وغيرها من قائمة المنع الطويلة، وتنوُّع ردود الفعل هو ما يفرق بين العمل الفني والعمل السياسي.
يتمنى شرف أن يُفرَج عن الشواهد التي صادرتها إدارة أرض المعارض، حتى يستطيع إعادة تدويرها لاستخدامها فنيًّا في مشروع آخر.