وفقًا لمعجم الموسيقى، فإن «الرابسودية» (Rhapsody): مؤلَّفة ذات صياغة حرة، قد تعتمد على ألحان شعبية، شاعت خلال العصر الرومانسي.
قبل اﻹنترنت، حين تطالع كتابًا من نوع «معجم اﻷعلام» لخير الدين الزركلي، تجد اختصارًا واختزالًا لحيوات كاملة في كلمات قليلة توفيرًا على الباحث.
أما في أفلام السيرة الذاتية، فإن قواعد اللعبة تختلف بالتأكيد. ليس الهدف مجرد توصيل معلومات عامة، وإنما إحياء الشخصية المراد تناولها على الشاشة، مع استخدام كل ما يلزم لتحويل ما لدينا من معلومات إلى دراما ومشاعر من أجل النظر أعمق بعيدًا عما نعرفه بالفعل.
هذا ما كنا نتنظره من فيلم «Bohemian Rhapsody» الذي يروي قصة واحد من أساطير «الروك آند رول» في القرن العشرين: «فريدي ميركوري» أو «فاروق بولسارا». لكنه بدلًا من ذلك ردنا خائبين ولم يمنحنا أكثر مما نعرفه بالفعل، كأننا كنا نطالع ما كُتِب عنه في معجم اﻷعلام لا أكثر.
لم تأت حالة الانتظار المحيطة بهذا الفيلم من فراغ، ولا يعود هذا فقط إلى الشعبية الجارفة التي حظي بها الفريق ومغنيهم الرئيسي حول العالم، وإنما أيضًا بسبب عملية اﻹنتاج بالغة الطول التي مر بها الفيلم قبل أن يخرج للنور أخيرًا، والتوقفات والتغيرات التي طرأت على فريق العمل: استبعاد «ساشا بارون كوهين»، المرشح الأول للدور، واختيار الممثل الأمريكي ذي الأصول المصرية «رامي مالك».
إضافة إلى ذلك، التركيز على مشاركة المدير الفني لفريق «Queen» (الذي كان ميركوري مغنيه الأساسي) ضمن منتجي الفيلم لضمان تقديم الرؤية التي يبتغيها الفريق عن فريدي، ثم حادثة فصل المخرج «برايان سينغر» من العمل في الفيلم آواخر أيام تصويره، والاعتماد بدلًا منه على المخرج «دكستر فلتشر» لاستكمال ما تبقى من مشاهده، وكثير من الخلافات حول وجهات النظر اﻹبداعية.
هل نتحدث عن فريدي أم كوين؟
الفيلم لا ينشغل بالمقدمات التي أدت بالفرقة إلى هذه المكانة، بقدر ما ينشغل بالصورة النهائية لما وصلت إليه الفرقة رغم أهمية هذه المقدمات.
منذ البداية، كان من الواضح وجود حالة كبيرة من التخبط الدرامي حول من يشغل مركز الفيلم، فمن المفترض، كما تعلن كل مقدمات الفيلم الدعائية، أنه يروي قصة فريدي ميركوري وعلاقته بفريق كوين الذي بات من أنجح فرق الروك آند رول في بريطانيا والعالم. لكن اﻹحساس المسيطر هو التذبذب حول مسألة هوية الفيلم. هل هو عن فريدي ميركوري أم عن الفرقة؟
هذا التذبذب أفقد الفيلم كمية هائلة من قوته الدرامية ﻷنه لم يحدد هدفه، فلم يفلح في تقديم معالجة درامية معنية بالاقتراب نفسيًّا من فريدي، ولا أفلح حتى في تقديم قصة لائقة برحلة صعود «كوين» ووصولها إلى النجومية.
إنها معضلة نجح في تجاوزها فيلم آخر ينتمي لنفس النوعية، وهو «Straight Outta Compton» الذي أمسك العصا من المنتصف بين حكاياته عن كل فرد من فريق «إن. دبليو. إيه» على حدة، وقصة الفرقة على حد سواء، مقدمًا رحلة ملحمية تستحق المتابعة.
حتى حين يقدم فيلم «Bohemian Rhapsody» رحلة صعود الفرقة داخل أحداث الفيلم، يقدمها من نفس القالب المعتاد لنفس هذه النوعية، وحتى بنفس اﻷساليب الفنية المستهلكة، مثل أن نقفز بالزمن سنوات مديدة بـ«الفوتومونتاج» في استعراض نجاحات الفرقة في جولاتها الغنائية داخل بريطانيا وخارجها، ما يجعل المشاهد قد يتخيل أن شعبية الفريق جاءت بين يوم وليلة.
تلك الطريقة في التقديم تسببت في تسطيح دراما الفيلم بشكل كبير. من الواضح أن كاتب السيناريو اعتمد على حقيقة أن محبي فريدي والفريق يعرفون كل شيء بشكل مسبَق، فلا داعي لتقديم مزيد من المعلومات أو لبذل مجهود إضافي في الكتابة والاقتصار على تقديم العناوين العريضة.
اﻷمر يشبه إعادة تقديم القصة الرسمية التي يعرفها الناس عن واقعة ما، بينما تقبع بقية التفاصيل غير المنظورة التي كنا نتنظرها في القاع. ولا عجب أن كاتب السيناريو «أنتوني مكارتن» هو نفسه الذي كتب سيناريو فيلم «The Theory Of Everything» عن حياة عالم الفيزياء «ستيفن هوكينغ» وقصة حبه مع زوجته الأولى، إذ قُدِّمت بمستوى مستفز من التلميع المفرط لشخصية ستيفن دون التطرق إلى جوانب أخرى كنا في أمسِّ الحاجة لرؤيتها، لاعبًا في منطقة اﻷمان التي لا تحاول المخاطرة، ولا تقدم أي صورة مخالفة للصورة الماثلة في المخيلة الجمعية.
الرواية الرسمية عن فريدي ميركوري
كانت طريقة تقديم فريدي ميركوري في الفيلم أكبر مثال على كمية اﻹمكانيات الدرامية المهدرة هباءً. وكان من الممكن، في ظروف أخرى، استغلالها في تقديم رؤية درامية أكثر تماسكًا وأكثر تبحرًا في جميع نواحيه النفسية والشخصية. فريدي طاله نفس التسطيح والأحادية التي طالت تقديم باقي أعضاء الفريق وسائر شخصيات الفيلم، ما يتجلى في ثلاث اتجاهات:
أولًا: الخلفية اﻷسرية: ميركوري يملك قصة فريدة جدًّا تتعلق بنشأته الأولى في زنجبار وانتقاله للعيش مع أسرته في بريطانيا. لكن الفيلم يقدمها من باب التوثيق فقط، ويمر عليها بسرعة شديدة في عدة مَشاهد يمكن إحصاؤها على أصابع اليد الواحدة.
لا نلمس فيه أي أثر لنشأته، ولا لشعور إنسان مغترب يظنه الناس باكستانيًّا بسبب تشابه لون البشرة والملامح، ولا لخلافه المكتوم مع والده الذي يمر الفيلم عليه بتعجل، ولا خلفيته الدينية المختلفة عن السائد، ولا حتى ﻹحساس الوحدة الذي يشعر به فريدي.
لا نراه أيضًا بينما يتحدث عنه الناس طوال الفيلم بشكل ملحوظ. الحديث عن أحاسيس الوحدة يأتي تقريريًّا جدًّا وسطحيًّا جدًّا، وكأن هذا هو المبرر الوحيد لكل تصرفاته في النصف الثاني من الفيلم، أن جميع من حوله يرون أنه يشعر بالوحدة.
قارن مثلًا طريقة تقديم الخلفية العائلية لشخصية المطرب اﻷمريكي «جوني كاش» في فيلم «Walk The Line» بما قُدِّم هنا، ستجد فارقًا كالفارق بين السماء واﻷرض. «Walk The Line» يستغل عُقَد الطفولة والصراع المكتوم مع اﻷب، وبخاصة بعد وفاة شقيق جوني صغيرًا، لتجذيره في نفسية جوني واستيعاب ما يمر به من مركَّب نقص يحاول تعويضه بشتى السبل.
في حال الرغبة في تقديم جوانب عدة عن الشخصية في الفيلم، لا يعني هذا حشرها داخل اﻷحداث والاكتفاء بعناوين عريضة.
ثانيًا: قصة الحب: قد نتفق على وجود بعض اللمحات أو التفاصيل الجيدة في علاقة فريدي بشريكته وحب عمره «ماري أوستن»، قبل أن يُفصح عن ميوله المثلية. لكن ما قُدِّم يظل غير مشبِع على اﻹطلاق. اللحظات الحميمة بينهما خاطفة وغير كافية لنبني عليها قصة حب نتعلق بها حتى النهاية، دون لمحة ذكية تعرض هذه العلاقة.
ثالثًا: الميول المثلية: نعرف حقيقة مثلية فريدي، لكن اﻷمر جاء دون أي تمهيد درامي على اﻹطلاق. الفيلم يقذف بالمعلومة في قلب الريح، ثم يواصل سرده كأن لا شيء مهمًّا حدث.
حتى مشهد اعتراف فريدي لماري بحقيقة ميوله الجنسية جاء «تحصيل حاصل» لما نعرفه مسبقًا، وليس بناءً على تصاعد درامي حقيقي يمكن لمسه، أو حتى لمس هذا الصراع الداخلي بين علاقته بماري ورغباته الحقيقية.
بالطبع سيكون من الخطأ أن نطالب فيلم سيرة ذاتية بتقديم كل شيء عن الشخصية، فهذا مستحيل بطبيعة الحال، ولا مفر من انتقاء ما يُقدَّم. لكن حتى في حال الرغبة في تقديم جوانب عدة عن الشخصية، لا يعني هذا حشرها داخل اﻷحداث والاكتفاء بعناوين عريضة والمواصلة على هذا المنوال.
البريق الباقي
قدم رامي مالك أداءً جيدًا جدًّا، فحمل الفيلم كاملًا على اكتافه في ظل المشكلات التي تعتري سيناريو الفيلم وسطَّحت شخصيته.
رغم كل المشكلات التي تلاحق الفيلم في معالجته الدرامية، فإنه يستعيد شيئًا من العنفوان في المَشاهد التي ترينا كواليس عدد من أشهر أغاني الفريق وعملية إنتاجها، مثل المشاهد الخاصة باﻷغنية التي يحمل الفيلم اسمها، أو أغنية «We Will Rock You». هذه المَشاهد كانت تكسر رتابة الأحداث وسطحية تقديم الشخصيات، وتعيد إليه بعضًا من طاقته المسلوبة وبريقه المنطفئ، وتجعلنا نعي أكثر تفرد العقليات التي جاءت وراء هذه اﻷغاني التي أحببناها لسنوات.
ربما يعود ذلك إلى أن موسيقى فريق «كوين» لا تعترف بالقوالب الجاهزة أو مضمونة النجاح، إذ تتحول كل أغنية جديدة إلى مغامرة ومجازفة كاملة، وداخل اﻷغنية الواحدة لا تتوقع ما الذي سيأتي في اللحظة القادمة، مثلما في «Bohemian Rhapsody» التي تحولت إلى أيقونة موسيقية جازفت بتقديم غير المألوف، ونجحت في التواصل مع الجمهور حتى مع حالة الغموض التي تسكن كلماتها.
ذروة هذا البريق تتجلى في خواتيم الفيلم، في التتابع الكامل لحفل «Live Aid» الذي شارك فيه أعضاء الفريق، إسهامًا في إنقاذ إثيوبيا من المجاعة الطاحنة التي عصفت بها. هناك عملية إحياء كاملة لهذا الحدث الضخم الذي عرفه العالم وقتئذ في أفضل هيئة وأبهى حلة، ولا يبخل الفيلم بأي جهد، مستعرضًا حجم الجماهير الحافلة التي حضرت الحفل، مع متابعة عن قرب لردود اﻷفعال والمشاعر لدى الجمهور التي تتماس مع حماس أعضاء الفريق وحيويتهم على المسرح.
على الرغم من تفضيلي الشخصي لساشا بارون كوهين ﻷجل تقديم شخصية فريدي، ليس فقط بسبب التشابه الشكلي، وإنما بسبب تمتعه بكثير مما كان يمكنه أن يخدم طبيعة الشخصية التي تمتعت بحضور فريد على المسرح.
إلا أن رامي مالك قدَّم أداءً جيدًا جدًّا، بل وربما كان هو الذي حمل الفيلم كاملًا على اكتافه في ظل المشكلات التي تعتري سيناريو الفيلم وسطَّحت شخصيته، وجعلت كثيرًا من تفاصيلها غير موظَّفة على النحو اﻷمثل، ما استلزم من رامي بذل مجهود مضاعف لتوصيل روح الشخصية دون مساعدة، لمعة عينيه لا تكذب، واستفاد من كل ذرة يملكها وجهه، موازنًا إياها مع أداء حركي موفَّق، حتى مع المقارنات التي تُعقَد لا إراديًّا بين اﻷصل والصورة، وحقيقة أنهما ليسا نفس الشيء.
هذا عمل سينمائي لا يليق في رأيي بمن يحكي عنهم. فريق تمرد على كل القوالب لتقديم موسيقى حرة، يظهرهم الفيلم في حال مقولب ومسبَق التحضير ضمن معادلة لا تحاول الخروج من دائرة الأمان.