بكل أسف، يعاني تاريخنا الموسيقي والفني من مشكلة التأريخ والتوثيق الأكاديمي، فنجد تخبطًا في كثير من محطات تاريخ الفن والفنانين. هنا مثلًا، أمام مصطلحات المونولوج العاطفي والمونولوج الفكاهي والمونولوج الانتقادي والمونولوجست، نجد أغلب ما كُتب على صفحات الإنترنت يتعامل أن المونولوج العاطفي نتج عنه المونولوج الفكاهي، ويبرر ذلك بانتشار هذا الشكل في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي بعد خسوف المونولوج العاطفي.
بالطبع هذا كلام خاطئ تمامًا، فالمونولوجست بدأ مع ظهور فن المسرح وانتشار صالات الغناء في مصر في بدايات القرن العشرين، عندما ظهرت الحاجة إلى تقديم شيء ساخر، فقرة ترفيهية بعيدة عن جدية المسرح والدراما، وعن الغناء الطربي والتابلوهات الاستعراضية وفقرات الرقص، فكانت فقرة المونولوجست: شخص يقدم كوميديا مغنَّاة، يقف على المسرح بين الفصول ليقدم فقرته الخاصة من غناء ورقص.
هذا ما استطعت التوصل إليه عن فكرة بداية المونولوج «الفكاهي/الانتقادي»، الاسم القادم من فكرة الممثل الواحد على المسرح، وفي نفس وقت ظهوره، طوَّر سيد درويش الشكل الغنائي «الطقطوقة»، ليُخرج من عباءتها فنًّا جديدًا يطلق عليه أيضًا اسم «المونولوج»، لاقترابه من فكرة التحدث منفردًا عن مشاعر ذاتية وخاصة.
لكن الفرق شاسع بين القالبين الموسيقيين، فالمونولوج العاطفي له شكله الموسيقي خاص، وطريقة خاصة في الكتابة أيضًا، ليست هي موضوعنا اليوم، أما الفكاهي والانتقادي فأقرب إلى الطقطوقة في البناء الكتابي واللحني، مذهب وكوبليهات، ويقترب من الموسيقى الخفيفة والراقصة، ربما يبتعد قليلًا عن الموسيقى الشرقية، معتمدًا على الصورة بشكل كبير، جزء كبير من نجاحه مستند إلى الأداء والحركة والتفاعل مع الجمهور.
يقدم المونولوجست أشكالًا متنوعة من المونولوج، يجمع بينها الكوميديا والإيقاع السريع، فهناك المونولوج الانتقادي، والسياسي، والاجتماعي.
المونولوج اسم فقط، وليس وصفًا لما يحدث داخل هذا القالب، فيمكنك أن تسمع مونولوجًا يقدمه شخصان، ويبقى اسمه مونولوجًا وليس ديالوجًا أيضًا. المونولوج هو كل ما يقدَّم في شكل موسيقي ويتمتع بالكوميديا والسخرية والانتقاد اللاذع، شخص واحد يقدمه، أو شخصان، أو أكثر، وتطور الموضوع لاحقًا وأصبح يقدَّم في شكل إسكتش مسرحي كامل.
مونولوجست مصر الأول
كان سيد سليمان سبب ظهور الرقابة الفنية، فوُضع قرار بعرض أعماله على جهة رقابية أولًا، ثم عُمِّم القرار على جميع الأعمال الفنية.
كان الجيل الأول لفن المونولوج الفكاهي قليل الحظ لندرة المعلومات عنهم وعدم الاحتفاظ بنسبة كبيرة من أعمالهم، إلا من استطاع تسجيل المونولوجات على اسطوانات. كان على رأس الجيل الأول مونولوجست مصر الأول كما كان يُطلق عليه، سيد سليمان، هذا الفنان النوبي المعروف للجميع ككومبارس في الأفلام، نشاهده كثيرًا في دور الخادم أو السفرجي، وأشهر أدواره في فيلم «الفانوس السحري»، بطولة إسماعيل يس.
سيد سليمان من أوائل من وضعوا شكل هذا الفن، وقدم المونولوج بأغلب أنواعه، وغنت معه بديعة مصابني ورتيبة رشدي، وفيما بعد ثريا حلمي.
كان أيضًا سببًا في ظهور الرقابة الفنية عام 1927، بعد تقديمه مونولوجًا عن معاكسة النساء في الشارع، ارتدى فيه مجموعة من الأزياء تعبِّر عن أغلب أطياف المجتمع، من ضمنها الزي الأزهري، فهاجمته الصحف وأُصدر قرار بعرض أعماله على جهة رقابية أولًا، ثم عُمِّم القرار على جميع الأعمال الفنية، ونجده يردد مثلًا «إن كنتش راضي بقضاؤه، اتفضل من تحت سماؤه» في مونولوج «ملك الملوك إذا وهب لاتسألن عن السبب».
عظماء المونولوج
ضم الجيل الأول عددًا كبيرًا من المونولوجست، مثل الثنائي حسن ونعمات المليجي، ومحمد البربري وزكي الور وعبد العزيز أحمد، وممَّن بدأو حياته كمونولوجست الفنان حسن فايق، وكان من أشهر المونولوجست في وقتها، خصوصًا بعد تقديمه مونولوج «شم الكوكايين» الذي انتشر بشكل كبير، وقدم أيضًا مونولوجًا وحيدًا في السينما في فيلم «بابا عريس» 1950، على نفس شاكلة مونولوج «بطَّلوا ده واسمعوا ده»، الذي قدمه عزيز عثمان في فيلم «لعبة الست» عام 1946.
للمونولوج كُتَّابه المتخصصون في الزجل والشعر الحلمنتيشي، مثل بديع خيري، وأبو بثينة «محمد عبد المنعم»، ويونس القاضي، وكانت الكلمة أهم ما يميز هذا الفن، هذه الطاقة الساخرة من كل شيء، التي تهاجم الملك وتسخر من العلاقات العاطفية والعادات الاجتماعية بكل قوة.
سيد سليمان كان المعلم الأول لإسماعيل يس، لتمر السنين ويصبح سيد كومبارس في أفلام إسماعيل يس.
ساعد في انتشار المونولوج أنه جمع بين الأقرب إلى مزاج المصريين: الموسيقى والفكاهة، والفكاهة هنا يُقصد بها السخرية اللاذعة، حتى لو كانت سخرية من الذات وعلى الذات. ساعد المونولوج كذلك وجود صالات وإذاعات أهلية، وفيما بعد إذاعة محلية.
المرحلة الثانية: إسماعيل يس وشكوكو
كل ذلك ساعد في ظهور الجيل الثاني والأهم في تاريخ المونولوج، الجيل الذي كان يحلم أغلبه بالغناء، أُسوةً بالعمالقة وقتها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، نحن نتحدث عن بداية الثلاثينيات، لذلك كان أغلب الجيل الثاني يتمتع بصوت جميل، ربما لم يملك مَلَكة التطريب، لكنه صوت جيد ويعرف كيف يغني.
اقرأ أيضًا: كيف نجا محمد عبد الوهاب من اتهامات سرقة الموسيقى؟
كان على رأس هذا الجيل بالطبع الثلاثة العظماء: إسماعيل يس ومحمود شكوكو وثريا حلمي، وغيرهم مثل تيتا صالح وعمر الجيزاوي وحسن المليجي وسعاد أحمد، والأخيرة قدمت دور زوجة عبد الفتاح القصري في الفيلم الشهير «ابن حميدو».
تعلم هذا الجيل على يد الجيل الأول، لدرجة أن إسماعيل يس كان يغني مونولوجات سيد سليمان ويقلده، وبدأ في البحث عن الزجال أبو بثينة الذي كان يكتب لسيد سليمان ليأخذ منه مونولوجًا خاصًّا به. سيد سليمان كان المعلم الأول لإسماعيل يس، لتمر السنين ويصبح سيد سليمان كومبارسًا في أفلام إسماعيل يس.
كان من الطبيعي ظهور جيل جديد من الكُتَّاب والملحنين، فكتب أبو السعود الأبياري وفتحي قورة والسيد زيادة وحسين الإمام، وآخر اثنين عُرِفا كمخرجين أكثر منهما كُتَّابًا، ولحَّن عزت الجاهلي وأحمد صبرة ومحمود الشريف ومنير مراد وعلي إسماعيل.
حمل هؤلاء على عاتقهم تطوير هذا الفن وتقديمه إلى نطاق أوسع، والوصول به إلى كل فئات المجتمع، وبالطبع ساعدتهم مميزات المونولوج الخاصة، مثل البساطة في طرح المشكلة حتى لو كانت سياسية أو وطنية، وتقديم ألحان خفيفة وسريعة الحفظ.
قلبت السينما الموازين، ووضعت المونولوج في مواجهة الأغنية الطربية، وبدأت تقدم أفلامًا كاملة مبنية على المونولوجات.
بدايةً من منتصف الثلاثينيات، بدأت الإذاعة المصرية في البث، وبدأ المونولوج يأخذ مكانة وشهرة أكبر، ويسجل الجيل الثاني ومن تبقى من الجيل الأول مونولوجات في الإذاعة، لكن بالطبع كانت الإذاعة غير كافية لتطوير المونولوج لِما ينقصها من الصورة، فالمونولوج صورة غنائية كاملة من كلمات ولحن وأداء وغناء وحركة.
سُجِّل المونولوج الأول لثريا حلمي في الإذاعة ضمن احتفالاتها باليوبيل الفضى عام 1959: «فتح يا بني فتح»، كلمات أنيس أمين وألحان علي إسماعيل.
السينما هي الحل
مع بداية الأربعينات كانت السينما قد أرست قواعدها بشكل واضح، وبدأ المونولوج في الظهور كأحد أشكال الغناء السينمائي وتحرر تدريجيًّا من سيطرة الطرب، وظهر الغناء الشعبي والمونولوجات والإسكتشات الاستعراضية، فكانت الفترة الأهم في تاريخ المونولوج.
قلبت السينما الموازين ووضعت المونولوج في مواجهة الأغنية الطربية، زادت من شهرة المونولوجست، وبدأ تقديم أفلام كاملة مبنية على المونولوجات والاستعراضات الفكاهية، وأفلام جماعية تجمع أكثر من مونولوجست، مثل أفلام إسماعيل يس وشكوكو وثريا حلمي.
بدأ المونولوج الفكاهي يجذب حتى المطربين، فنجد محمد فوزي يغني مع إسماعيل يس، ونجد شادية أيضًا تقدم المونولوج مع الجيزاوي، ومع إسماعيل يس وشكوكو، وفايزة أحمد تغني مع إسماعيل يس، وغيرهم من المطربين والمطربات.
اقرأ أيضًا: كيف تتحول من مستمع للموسيقى إلى «مستمتع» بها؟
مونولوج السُّلطة
جاءت ثورة يوليو لتكون علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث عامةً، والفنون بشكل خاص. كان المونولوج أحد أهم أدوات السُّلطة للدفاع عن الثورة، وتأكيد فكرة أنها ثورة على الفساد وليست انقلابًا عسكريًّا، وأيضًا للهجوم على كل أشكال الملكية وعصر الباشوات.
في فيلم إسماعيل يس «اللص الشريف»، الذي أُنتج بعد الثورة مباشرة وعُرض في أوائل 1953، كانت أغنية «عشرين مليون وزيادة» سبابًا لكل ما هو ملكي ومدحًا في الثورة، وربما كانت الأغنية الوحيدة التي يُذكر فيها اسم الرئيس محمد نجيب: «كان فرجه قريب وسميع ومجيب، الجيش ونجيب عملوا الترتيب»، وأيضا في عام 1956، يغني مع شادية في شكل أوبريت عن الثورة وحركة التطهير التي جاءت بعدها، وكذلك غنت ثريا حلمي للتطهير في مونولوج «قف من أنت».
بدأ ملحنون كبار يقدمون ألحان مونولوجات، مثل محمد عبد الوهاب مع شكوكو في أغنية «يا جارحة القلب بإزازة»، وغنى عبد الحليم حافظ أيضًا مونولوج «يا سيدي أمرك» مع فتحي قورة ومحمود الشريف، وظهرت فرقة «ساعة لقلبك» وتقدم مونولوجات في بعض حلقاتها.
دخلت الدولة في معارك وطنية، بدايةً من العدوان الثلاثي ثم النكسة وحرب الاستنزاف، إلى جانب المشاريع القومية مثل تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، واختلط الوطني بالسياسي، واندمجت المونولوجات الوطنية والسياسية، وغنى كل كبار جيل المونولوج الثاني (محمود شكوكو، إسماعيل يس، ثريا حلمي) للثورة وفي احتفالات الثورة.
غنت ثريا حلمي مونولوج «ده دا ده دا»، للوحدة مع سوريا، وغنى شكوكو «ورد عليك يا ج ع م»، و«نفديك بالروح والمال يا جمال» بعد حادثة المنشية، وهاجم جماعة الإخوان المسلمين بكل وضوح:
خلخال خطر على القدم
كل المحاسن فيه
والخاين اسمه حسن
مرشد على هضيبي
أحطُّه هو وجهازه
السري في جيبي
يتضح أن تم تأميم المونولوج مع تأميم وسائل الإعلام المرئي والسمعي، وتدريجيًّا غابت أهم صفة من صفات المونولوج الغنائي: الانتقاد، وبشكل أساسي الانتقاد السياسي، فتأميم المونولوج يؤكد أهمية وتأثير هذا القالب الغنائي على الشعب/الجمهور.
السُّلطة تقضي على ثقافة المونولوج
قضت الثورة على المونولوج تدريجيًّا، فتحول إلى أغاني خفيفة يُقدَّم أغلبها على ألحان أغانٍ مشهورة في شكل كوميدي ساخر، وكان فتحي قورة ملك هذه المنطقة، وكتب عديدًا من الأغاني على نفس الشاكلة لشكوكو وإسماعيل يس.
ظهر منير مراد ليقدم مونولوجات استعراضية خفيفة بعيدة عن الشكل الانتقادي، وقاد محمد درويش فرقة «الدراويش» في الإسكندرية، ثم جاءت فرقة «ثلاثي أضواء المسرح» مع بداية انطلاق البث التليفزيوني.
مع الستينيات، بدأ جيل جديد من المونولوجست يظهر، واشتهر هذا الجيل بالتقليد أكثر من الغناء.
كان كُتَّاب المونولوج في عصره الذهبي أصحاب ثقافة عالية، رغم أن المونولوجات كانت تكتب بأبسط شكل، ولكنها كانت تحمل في أوقات ثقافة أجنبية، فتجد إسماعيل يس في أغنية «الحب بهدلة» الأصلية في فيلم يحمل نفس الاسم يقول: «وتشوفوا الحب اللي يودِّي من الخانكة لجبل الطور، كما قال الشاعر الأيرلندي برنارد شكوكو المشهور».
تجد كذلك ثريا حلمي تغني «دكتور جيكل ومستر هايد» و«حتى أنت يا بروتس»، ويقول إسماعيل يس: «لو حكِّمتوني على الحموات لبعتُّهم كوريا في غمضة عين" في مونولوج «حما زائد حما»، وتجد المونولوج في فيلم «الحموات الفاتنات» عام 1953 وقت الحرب الكورية (1950 - 1935)، بجانب أيضًا غناء شكوكو بالفرانكو آراب.
قد يعجبك أيضًا: رحلة انهيار المونولوج: من سيد درويش إلى أبو الليف
أضواء المدينة.. جيل الستينيات
مع بداية الستينيات، ظهر جيل جديد من المونولوجست ضم سيد ملاح وأحمد غانم وفكري الجيزاوي ونبيل فهمي وأحمد الحداد، ومن النساء لبلبة في بدايتها الفنية، واشتهر أغلب هذا الجيل بالتقليد أكثر منه بغناء المونولوجات، رغم أنهم قدموا مونولوجات عديدة في حفلات «أضواء المدينة» وفي الإذاعة، لكنها لم تلقَ نجاحًا يحقق لها الخلود.
تطورت الأغنية العاطفية والخفيفة والسريعة في إيقاعها، فتحولت بعض المونولوجات إلى أغانٍ، أشهرها بالطبع أغنية «حب إيه»، أول تعاون لبليغ حمدي مع الست، التي كُتبت في الأصل مونولوجًا لثريا حلمي. وحتى الأغاني الوطنية، فأغنية «مصر اليوم في عيد»، التي كتبها عبد الوهاب محمد ولحنها جمال سلامة وغنتها شادية، كانت في الأصل مونولوجًا لعمر الجيزاوي غناه في عام 1956 بمناسبة الجلاء، وكان من ألحانه وكلمات مصطفى الطائر.
ياللي من البحيرة وياللي من الصعيد
النهارده نصرة كل يوم تزيد
واللي زاد حماسنا واللي علَّى راسنا الجيش وبورسعيد
الانهيار.. نهاية فن المونولوج
بعد ظهور عزب شو وفيصل خورشيد وعادل الفار، انتهى فن المونولوج تمامًا.
مع بداية السبعينيات، بدأ المونولوج في الانهيار التام، بدايةً من تحول المونولوجست إلى نوع من أنواع فن الدرجة الثانية، والتعامل معه على أنه مهرج فقط، وغاب شعراء المونولوج وعلى رأسهم فتحي قورة، ورحل كذلك ملحنون مثل منير مراد، فاختفى المونولوج.
ظهر جيل النكتة وعلى رأسه حمادة سلطان، الذي تربع على عرش المونولوج في الثمانينيات، بجانب حلمي المليجي وحسن قاسم وحسن بيجو، وهو ما يوضح كيف تحول المونولوجست إلى إلقاء النكت والتقليد كعمل أساسي، وإلى جوار ذلك تقديم بعض المونولوجات غير الجيدة.
مع التسعينيات، كان جيل المونولوج مكونًا من عزب شو وفيصل خورشيد وعادل الفار ومدحت بركات وعصام بركات، ويكفي أن تقارن الإنتاج الفني لهذا الجيل وبإنتاج الجيل الثاني لتوقن عين اليقين أن المونولوج انتهى تمامًا، ورحل كما رحل المونولوج الغنائي وقالب الدور.
ومع الألفينيات انتهى أيضًا عصر النكتة وحلت مكانه فكرة الستاند أب كوميدي، واختفى المونولوج الفكاهي والانتقادي بشكل تام، إلا من محاولات فردية لا يصح أن نذكرها كمشروع أو تجربة لإعادة إحياء فن المونولوج الفكاهي والانتقادي.