محاكمات وقصائد وروايات وأفلام وجرائم: رحلة مع «جيل البِيت»

لقطة من فيلم «Kill Your Darlings» - الصورة: Killer Films

 

طه عبد المنعم
نشر في 2018/04/14

يعرف كثيرون أن «آلن غينسبرغ» هو مؤسس الجماعة الأدبية «بيت» (Beat)، التي تكوَّنت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ويعرف عدد أقل أن تلك الجماعة تأسست بثلاثة أفراد: «جاك كيرواك» و«ويليام إس بوروز»، إضافة إلى غينسبرغ، أو هذا ما كنت أعرفه. لكن فيلم «Kill Your Darlings» ألقاني في رحلة بحث عن تلك الجماعة، وكثير من المحاكمات والقصائد والروايات والأفلام وجرائم القتل.

في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، قابل «ألين لويس كار» في السنة الأولى له بجامعة كولومبيا اثنين من أصدقائه: ويليام بوروز و«ديفيد كاميرر». بعدها حدَّثت «إيدي باركر» لويس كار عن صديقها جاك كيرواك الذي انضم إليهم لاحقًا، وهناك أسسوا جماعة «New Vision».

الفيلم يحكي قصة تلك البدايات من خلال منظور غينسبرغ لجريمة القتل التي أُدين فيها لويس بقتل كاميرر، وعلى إثرها أُلقي القبض على ويليام بوروز وجاك كيرواك، لأن لويس لجأ إليهما بعد ارتكابه الجريمة.

دفعت عائلة ويليام الغنية كفالة خروجه، ورفضت عائلة جاك دفع الكفالة، ولم تنقذه غير إيدي باركر مقابل أن تتزوجه. وبعد خروجه انتقل إلى جامعة شيكاغو، بينما طردت الجامعة غينسبرغ لأنه خالف قواعدها وأعرافها وكتب عن تلك الفضيحة في الجامعة، فذهب إلى سان فرانسيسكو.

دقة القلب المجنونة

لقطة من فيلم «Heart Beat» - الصورة: Further Productions

 قضى لويس 18 شهرًا في السجن، وخرج ليظل صديقًا لهم، وعمل في وظيفة ناسخ في إحدى مؤسسات النشر حتى نهاية حياته. وقبل جريمة القتل، تعرَّف هؤلاء الشباب إلى «نيل كاسيدي» الذي سيصبح رفيق جاك في رحلاته بعد انفصاله عن إيدي باركر، لكن هذه قصة فيلم آخر بعنوان «Heart Beat». إيدي باكر وثَّقت تلك الفترة في كتاب عن حياتها مع جاك بعنوان «You'll Be Okay».

نيل كاسيدي لم يكن كاتبًا، رغم أن روايته الوحيدة ظهرت بعد وفاته بأعوام بعنوان «The First Third»، وهي في الأغلب الرسائل بين أصدقائه من جماعة البيت، فهو صديق مؤثر جدًّا في إبداع الأصدقاء الثلاثة الذين تعرَّف إليهم في كولومبيا، وعلى الأخص جاك كيرواك. أما ما حدث له بعد ذلك، فيحكيه فيلم «Neal Cassady».

البيت: جيل مجنون يولد

غينسبرغ وبوروز وكيرواك هم نواة جماعة البيت التي تكونت بعد الحادثة، ويقول ألين إنهم لم يكونوا جماعة بالمعنى المعروف الآن، بل أصدقاء أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم لمساعدة بعضهم بعضًا على النشر والكتابة.

تأثر هؤلاء الأدباء بأعمال الأمريكي «هنري ميلر» الأولى، مثل «مدار السرطان» و«مدار الجدي»، اللتين مُنِعَتا في مسقط رأسه سنوات عدة بسبب إباحيتهما. أما «جيل البيت» (Beat Generation) فهو مصطلح يطلق على عدد من فناني خمسينيات القرن العشرين وستينياته، وبالتحديد كل مَن خاض غمار المحاكمات والمنع والرقابة في تلك الفترة التي سنحكي طرفًا منها.

في تلك الفترة لم يكن غينسبرغ كاتبًا، فهو ابن شاعر معروف وقتها «لويس غينسبرغ»، وعضوة في الحزب الشيوعي اليهودي هي «ناعومي غينسبرغ»، التي أصابها مرض عقلي وقضت فترات طويلة من شباب آلن ومراهقته في مصحات عقلية حتى توفيت في إحداها، وهي ذات تأثير كبير فيه كما سنعرف بعد قليل.

حتى وقت حادثة القتل لم يكن أيٌّ منهم أنتج أي إبداع، رغم كتابتهم مانيفيستو ضد الأوضاع الثقافية السائدة وقتها، المتمثلة في الوزن والقافية والمجاز.

تلك الحادثة، إضافة إلى أوضاع ما بعد الحرب وشخصياتهم المتمردة، هي ما جعلت منهم الروائي والكاتب والشاعر.

اقتل محبوبك.. في الكتابة

لقطة من فيلم «Kill Your Darlings» - الصورة: Killer Films

 «قتل المحبوب» أو «اقتل محبوبك» ليست ترجمة دقيقة لعنوان الفيلم، فهي جملة يقولها البروفيسور «ستيف» لتلاميذه، وهي مأخوذة من نصيحة للكاتب الأمريكي «ويليام فوكنر»: «In writing, you must kill all your darlings»، بمعنى «في الكتابة، عليك أن تقتل كل ما تعشق».

ومع أن بطل الفيلم هو آلن غينسبرغ، الذي يؤدي دوره «دانييل رادكليف»، يركز الفيلم على دراما حادثة القتل، لأنه بمعنى من المعاني كانت هناك علاقة حب بين لويس كار وديفيد كرامرر (من دون حرق الفيلم)، لأن ما سبق هو تاريخ ثقافى معروف للأدباء في وثائقيات كثيرة.

آلن غينسبرغ يُلقي قصيدة «عواء»

أهدى الشاعر آلن غينسبرغ أول قصيدة له، وهي «Howl» (عواء)، إلى لويس كار، الذي كان أول شخص ينجذب إليه. وأول علاقة حب كانت مع جاك كيرواك، الذي اعترف له بالمثلية. وأول صدمة عاطفية كانت مع نيل كاسيدي، الذي رفض استمرار العلاقة لأجل زوجته، وكلهم بالطبع مذكورون داخل القصيدة.

بدأ آلن كتابة تلك القصيدة في كولومبيا في أثناء علاقته مع جاك، وألقى المسودة الأولى لها في سان فرانسيسكو عام 1955، بعد الصدمة العاطفية مع نيل الذي توفي عن 41 عامًا، بالرغم من أنه يظهر بشخصه واسمه في قصيدة عواء، ورواية «Naked Lunch»، و«On the Road»، الأيقونات الإبداعية للبيت.

لم يكتب آلن قصيدة عواء، الطويلة المكونة من أربعة أجزاء، بهدف النشر، لكن نجاحها المدوي دفعه إلى نشرها عام 1956 بعنوان «Howl for Carl Solomon» (عواء لكارل سولومون).

بعد نشر أول طبعة، طلب لويس منه أن يحذف الإهداء، وبالفعل حذفه في الطبعات التالية.

قصيدة عواء لا تنتهي بنشرها تقريبًا، ففي كل طبعة يضيف آلن ويحذف (يضيف أكثر مما يعدل)، كما كان يفعل «والت ويتمان» في ديوان «Leaves of Grass». أما «كارل سولومون» فهو شخصية حقيقية قابلها غينسبرغ في مصحة عقلية، ويخاطبه في القصيدة حول العالم المتوحش بعد الحرب العالمية الثانية.

لقاء عام 1955 حدثٌ مميز ومحوري في تاريخ الجماعة الأدبية، فقد كان الحفل الشعري لست شعراء في جاليري اسمه «Six Gallery»، ولهذا كان الحدث بعنوان «Six Poets at the Six Gallery» يوم السابع من أكتوبر، ومن يومها صار موعدًا سنويًّا لإلقاء الشعر في هذا المكان، لأنه كان تاريخ ميلاد قصيدة عواء بصوت آلن نفسه على الجماهير.

عواء الشعر والشاعر

لقطة من فيلم «Howl» - الصورة: Werc Werk Works

بسبب جيل البيت، مُنِعَ العدد الشتوي من مجلة «شيكاغو ريفيوز»، واستقال طاقم محرري المجلة اعتراضًا.

فيلم «Howl» يحكي عن محاكمة هذا الكتاب، التي اتُّهِمَ فيها الناشر بترويج البذاءات، رغم أن المحاكمة لم توجه أي اتهامات إلى الشاعر.

الفيلم يتتبع ثلاثة خطوط للحكي:

  1. إلقاء الشاعر للقصيدة في سان فرانسيسكو مع تمثيل برسوم متحركة 
  2. مقابلة صحفية مع الشاعر يظهر فيها ممثل بدور آلن شابًّا في أثناء المحاكمة التي لم يحضرها
  3. وقائع المحاكمة في أكتوبر عام 1957، والجدل حول ما إذا كانت القصيدة تُعد بذيئة أم لا، والتي انتهت ببراءة الناشر وعدم اعتبار القصيدة مخلة بالآداب العامة، وهو الموقف الذي لم يسلم منه أصدقاؤه

تلقَّى آلن خطابًا من والدته بعد وفاتها في المصحة العقلية، بعدما أرسل إليها أول كتاب نشره قبل وفاتها. ولتأثره الشديد بهذا الخطاب، أخرج مقطعًا من قصيدة عواء يتحدث فيه عن أمه، وكتب عليه ثاني أشهر قصائده بعنوان «Kaddish for Naomi Ginsberg». كل الأحداث (إلقاء سان فرانسيسكو والمحاكمة) التي مرت بها القصيدة جعلت آلن شاعرًا معروفًا، وكتبه تحقق أعلى المبيعات، واستطاع مساعدة جاك كيرواك في نشر أولى رواياته «On the Road».

البيت: تاريخ من المنع

آلن غينسبرغ - الصورة: Hunter Desportes

 نرجع خطوات إلى الوراء لنتابع مسيرة جاك كيرواك وويليام بوروز، فبسببهما مُنِعَ العدد الشتوي من مجلة «شيكاغو ريفيوز» سنة 1959 في جامعة شيكاغو، وتقدم كامل طاقم محرري المجلة بالاستقالة احتجاجًا على المنع،  فقد رأت الجامعة بالتحديد في نصوص جاك وبوروز خروجًا على تقاليد الجامعة والآداب العامة. وقد نشر جاك في العدد نصوصًا من روايته «On The Road»، ونشر فيها بوروز نصوصًا من «Naked Lunch».

جدير بالذكر أن العدد السابق، الصادر في خريف 1958، أثار سخط كثير من النقاد والجامعة لاحتوائه على عديد من كتابات شعراء جيل البيت وكُتَّابه، بلغتهم الخشنة والمتمردة.

توقفت المحاكم الأمريكية عن مصادرة الأعمال الأدبية إثر الضجة التي أثارها جيل البيت.

بطبيعة الحال، لم يصدر العدد الذي أصرت رئاسة تحرير المجلة على نشره كما هو.

يحكي الدكتور رمسيس عوض في كتابه «الغذاء العاري أمام المحاكم الأمريكية» تفاصيل تلك الأزمة. وكان الحل للنشر في مجلة «المائدة الكبيرة»، التي تنازل رئيس تحريرها لطاقم المحررين بنشر عدد مجلتهم المحظورة بعيدًا عن سلطة الجامعة، على أن يعود إلى رئاسة تحريرها مرة ثانية.

لكن واجهتهم مشكلة أخرى هي التمويل، فالمجلة كانت تُطبَع في الجامعة قبل أن ينقطع تمويلها بطبيعة الحال. كان غينسبرغ بعد قصيدة عواء معروفًا، فاستطاع مساعدتهم بالمال. وبالفعل طُبِعَ العدد بالاستعانة بتمويلات إعلانية اعتمادًا على أن المجلة تُوزَّع بالبريد.

تصدت هيئة البريد الأمريكية للعدد بالتوقيف، ليس فقط بسبب السمعة السيئة التي سبقته، بل لأن توقيف تلك المجلة كان مجرد حالة واحدة من 315 حالة حظر فُرِضَت بعد نحو أربعة آلاف حالة تَحرٍّ أجراها مكتب البريد في هذه السنة.

كانت تلك أهم عقبة أمامهم، واتُّهِمَ رئيس التحرير بنشر بذاءات عبر البريد في محاكمة شهيرة بعنوان «محاكمة بوسطن للغذاء العاري». وكانت تلك المحاكمة في 1959 بدايةً لتكوين «جيل البيت».

من الأهمية أن نعرف أن المحاكم الأمريكية توقفت عن مصادرة الأعمال الأدبية بعد عام 1966، إثر الضجة والعواصف التي أثارها جيل البيت، وبالتحديد تلك المصادرة والمنع.

وليم بوروز وانفلاتاته

قبل الدخول إلى تلك المحاكمة، والأفضل تركها لكتاب الدكتور رمسيس عوض، نلقي نظرة على الأديب الأمريكي ويليام إس بوروز، فلم نتطرق إليه رغم أنه كاتب اشتهر بأشياء من المفترض أن يخفيها، كالمخدرات بكل أنواعها، من الأفيون إلى الهيروين، والممارسات الجنسية الشاذة مع كل الجنسيات، والحادثة الغريبة لقتل زوجته. كان بوروز نموذجًا مثاليًّا للعربدة والتمرد.

ويليام تخرَّج في كلية الطب بجامعة هارفارد، وتقدم للتجنيد في الجيش الأمريكي بعد حادثة «بيرل هاربر» في الحرب العالمية الثانية، لكن رفضه مكتب الخدمات الاستراتيجية. بعد ذلك أدمن المخدرات التي أثرت فيه بقية حياته.

تزوج من «جون فولمر»، التي كانت رفيقة سكن مع كيرواك وإيدي باركر، وهناك بدأت صداقته مع غينسبرغ وكيرواك التي دامت حتى مماته. ولأنه أكبر منهما وخريج جامعة هارفارد، كان بمثابة الأب الروحي والمرشد لهم بكثير من الأفكار والتمرد.

سافر بوروز إلى المكسيك بعد الإفراج عنه في قضية جريمة قتل لويس كار، ولحقت به زوجته، وهناك قتلها في أثناء لعبه بالمسدس، وألقت السلطات القبض عليه، لكنها أفرجت عنه. ترك طفله الوحيد من الزواج في عهدة والديه، وأكمل سفرياته إلى باريس وطنجة. حادثة القتل عام 1951 هي التي غيرت حياته وجعلته كاتبًا، حسب اعترافه.

رواية «Naked Lunch» هي الثالثة له، ونُشرت في 1959، وقبلها روايتا «Junkie» و«Queer». وأكمل بعدها كتابات وروايات كثيرة، فقد كانت حياة بوروز حافلة ومثيرة بالتفاصيل، والفيلم الوثائقي «William S. Burroughs: A Man Within» عام 2010، يحكي جانبًا منها، وفيها أيضًا حوار مثير بين غينسبرغ وبوروز وهما عجوزان، وقصائد بصوت بوروز.

لم يرَ بوروز نفسه مثليًّا، وظلت ممارساته الجنسية تؤرقه كثيرًا، خصوصًا في طنجة. كان تائهًا ومنفرًا، حتى أنه قابل «بول بولز» و«ترومان كابوتي» هناك، ولم يحبهما أو يندمج معهما. على عكس غينسبرغ الذي استقر على شريك لحياته حتى آخر عمره، واستقر على هويته الجنسية المثلية، وكان مشاركًا فعالًا في حركات المثليين وتظاهراتهم في أمريكا.

كل قُراء رواية «Naked Lunch» يعرفون أنها عصية على التحويل إلى فيلم لأسباب كثيرة، ليس من ضمنها الألفاظ أو المشاهد الجنسية، وإنما أسباب خاصة بالبناء والحبكة، فالرواية ليست خَطِّية أو ذات قصة واضحة، بل إن الشخصيات تتبدل أسماؤها وتتغير باستمرار، ورغم ذلك حاول مخرجان تحويلها إلى فيلم وفشلا، حتى جاء المخرج الكندي «ديفيد كروننبرغ» وصنع فيلمًا بناءً على مقتطفات من حياة الكاتب وشخصيات من رواياته الأخرى، بعد أكثر من 30 عامًا على صدور الرواية في 1991.

يرمز اسم «البيت» إلى كل جماعة الناس الذين توصلوا إلى نتيجة أن المجتمع قميء وقذر.

قصيدة عواء مشهورة بالشطر الأول: «I saw the best minds of my generation destroyed by madness starving hysterical naked»، وترجمها الشاعر سركون بولص: «رأيتُ أفضلَ العقولِ في جيلي وقد دمرها الجنون، يتضوَّرون عراةً ومُهَسْترين».  هناك ترجمات كثيرة لهذه القصيدة، نتذكر منها ترجمة بطل رواية «التماسيح» ليوسف رخا، وهو أحد ثلاثة شعراء كوَّنوا جماعة لـ«الشعر السري» وأسموها «التماسيح»، عشية انتحار المناضلة اليسارية أروى صالح في بداية تسعينيات القرن العشرين، وكأن تلك الحادثة كانت شرارة ميلاد الجماعة.

يفرد يوسف رخا فصولًا لمحاولات نايف، بطل الرواية، الهستيرية والمحمومة لترجمة تلك القصيدة، وهوسه بترجمة اسم الشاعر نفسه، فغنسنبيرغ اسم يهودي قديم وله أصول ألمانية بمعنى «الأسد»، حسب الرواية. الشعراء الثلاث أصحاب جماعة التماسيح يؤرخون، وفقًا للرواية، لجيل تسعينيات القرن العشرين في مصر، مثلما أرَّخت جماعة البيت لجيل خمسينيات القرن نفسه وستينياته في أمريكا.

توفي جاك كيرواك في أكتوبر 1969، وآلن غينسبرغ في إبريل 1997، وويليام بوروز في أغسطس 1997، لكن الوفاة التي أنهت جيل البيت كانت موت «هيربرت هينكي» في أغسطس 1996، فهو مَن اقترح على جاك اسم البيت في محادثة بينهما.

كان اهتمام كيرواك كيف ستتذكرهم الأجيال القادمة، فقال له هيربرت: «I'm beat»، بمعنى «أنا مهزوم من الصدمات والصعوبات والمنع والقمع»، ومن هنا أسمى جاك كل جماعة الناس الذين توصلوا إلى نتيجة أن المجتمع قميء وقذر جيل البيت.

مواضيع مشابهة