قبل ظهور الواقع الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي، وتحوُّل جمهور الكاتب والفنان إلى آلاف المتابعين (Followers)، وقبل أن تتحول معارك الفنانين والمثقفين إلى «السوشيال ميديا»، كانت الخلافات على صفحات الجرائد وأعمدة المقالات، إضافة إلى الكتب التي حملت بين طياتها غضبًا وقسوة بين أديبين قررا أن يفندا خلافاتهما على الملأ.
أما اليوم، وبعد دخول عالم التواصل الاجتماعي طرفًا مهمًّا في أي صراع ثقافي أو فني، تحولت لغة الحوار بين المشاهير إلى وصلات ردح يتابعها الجمهور، ويصنعون منها مادة للسخرية.
نعود إلى الماضي، حينما كان الخلاف أدبيًّا، وكانت المعركة تدار بقسوة مصحوبة بالتزام أخلاقي نوعًا ما، نستعرض عددًا من المعارك الثقافية والفنية التي كان أطرافها أقطابًا في فنونهم وآدابهم.
مصطفى صادق الرافعي vs عباس محمود العقاد
لا يمكن الاختلاف على قيمة كلٍّ من عباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي وقامتهما، فكلاهما أثرى الحياة الأدبية بكثير من الإسهامات الفكرية.
البداية كانت من هنا، حسب ما جاء في كتاب «حياة الرافعي». تواجه الطرفان، وسأل الرافعي عن رأي العقاد في كتابه «إعجاز القرآن»، الذي هاجمه الأخير بقسوة وعنف، وامتدحه سعد زغلول.
قال الرافعي لعباس العقاد: أنت تجحد فضل كتابي، فهل تراك أحسن رأيًا من سعد؟
قال العقاد: وما سعد؟ وما رأي سعد؟
قال الرافعي: أَتراك تصرح برأيك هذا في سعد، وأنت تأكل الخبز في مدحه والتعلق بذكراه؟
رد العقاد: ما لك وسعد؟ إن سعدًا لم يكتب هذا الخطاب، ولكنك أنت كاتبه، ومزوِّره، ثم نحلته إياه لتُصَدِّر به كتابك، فيروج عند الشعب.
يكون ذلك الحوار الصغير واسع الأثر في نفس الطرفين، ويثير عددًا من الجولات بينهما.
بعد ذلك اليوم بدأ العقاد في توجيه السهام إلى صدر الرافعي، إذ كتب عنه في الجزء الثاني من كتابه «الديوان» قائلًا: «مصطفى أفندي الرافعي رجل ضيق الفكر، مدَّرِع الوجه، يركب رأسه مراكب يتريث دونها الحصفاء أحيانًا، وكثيرون ما يُخطئون السداد بتريثهم وطول أناتهم». واستطرد: «إيه يا خفافيش الأدب. أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضئيلة، لا هوادة بعد اليوم، السوط في اليد وجلودكم لمثل هذا الصوت خُلقت، وسنفرغ لكم أيها الثَّقلان. إذًا إنها الحرب».
استدعى ذلك الهجوم ردًّا من الرافعي على تجاوزات العقاد في حقه. وبالفعل أصدر عددًا من المقالات، واختتمها بكتابه «على السفود». وتبريرًا أو تتويجًا لتلك الحملة الشرسة قال الرافعي: «لا ننسى أن العقاد الآن في رأي نفسه، ورأي كثيرين، جبار الكتابة، فنحن نريد أن نضع أنف هذا الجبار في الأرض مقدار ساعتين على الأقل، لأنه لم يتجرأ عليه أحد حتى الآن، والذين كتبوا عنه لم ينالوا منه نيلًا، وطه حسين لم يكد يمسه مرة حتى هرب وأخذ ينافق له ويتملقه».
استمرت العلاقة بينهما متوترة، تارة تتسم بالهدوء والسكينة، وتارة تعلو وتصل إلى أوجها في السب والقذف، إلى أن انسحب العقاد مفضِّلًا عدم خوض تلك المعركة.
عبد الحليم حافظ vs فريد الأطرش
من الممكن أن تذهب إلى توصيفها بـ«أم المعارك»، فهي معركة طويلة الأمد جمعت قطبي الغناء العربي في ذلك الوقت، عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، وكان صاحب اليد العليا في إنهائها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
ذكر مجدي العمروسي، صديق العندليب، في عدد من اللقاءات الصحفية، أنه كان يقول دائمًا: «لم أر الأستاذ عبد الوهاب منافسًا لي، بل كنت أراه دائمًا الأستاذ والمعلم، أما فريد الأطرش، فهو منافسي الحقيقي». عندما وصل إلى قمة الهرم الغنائي في مصر، كان عبد الوهاب يتقدم خطوات نحو الاعتزال، ولم يبق على الساحة سوى فريد الأطرش، ليبدأ صراع مكتوم سرعان ما انفجر بالرغم من محاولات كثيرة لتهدئته.
كان كل المتابعين يتحدثون عن الصراع بين قطبي الغناء العربي، إلا أن كليهما حاول إخفاءه، إذ حضر فريد الأطرش حفل وداع العندليب قبيل سفره إلى رحلة علاج في ألمانيا، إلا أن حالة الهدوء لم تستمر طويلًا.
في أحد حواراته، هاجم فريد الأطرش عددًا كبيرًا من الفنانين المصريين، على رأسهم محمد عبد الوهاب، وكل تلاميذه، ومن ضمنهم عبد الحليم. ما كان من الأخير سوى الرد السريع في حوار مع مجلة «الرأي العام» اللبنانية.
عندما سأل المحاور عبد الحليم عمن يأتي بعد عبد الوهاب في التلحين، أجاب أنه كمال الطويل ومحمد الموجي. اندهش المحاور وسأله عن فريد الأطرش: أين هو؟ فكان رد حافظ أنه يأتي بعدهما هو والسنباطي ومحمود الشريف وغيرهم. واستمرت حالة الغمز واللمز بين الطرفين سنوات طويلة.
اقرأ أيضًا: الست والأفندي والفوضوي: في مديح الصراع بين السنباطي وبليغ
في عام 1966 كان فريد مستقرًّا في بيروت، وطوال فترة غيابه سيطر عبد الحليم على ليلة عيد شم النسيم، واعتاد أن يحييها في ظل غياب فريد الاختياري، إلى أن قرر الأخير العودة إلى مصر عام 1970، ليغني في ليلة شم النسيم، وتبدأ الأزمة في الصعود إلى السطح مرة أخرى.
باءت محاولات كثيرة لاحتواء الأزمة بالفشل، حسب مصادر مختلفة، كان عبد الحليم حافظ يحيي حفل زفاف نجلة عبد اللطيف البغدادي، عضو مجلس قيادة الثورة، وكان عبد الناصر أحد الحضور، واستدعى عبد الحليم إليه، ودار بينهما حديث حاد، حسمه رئيس الجمهورية لصالح فريد الأطرش، مطالبًا عبد الحليم بعدم التعرض للبلبل في الإعلام مرة أخرى.
طه حسين vs عبد القادر المازني
عمل الدكتور طه حسين أستاذًا في الجامعة، وشغل منصب وزير المعارف بين عامي 1950 و1952، وخلال تلك الفترة كتب مقدمة لديوان «أنَّات حائرة» للشاعر عزيز أباظة، أحد رواد الحركة المسرحية الشعرية، لتبدأ معركة بين عدد من أقطاب الأدب المصري في ذلك الوقت، أطرافها طه حسين من جهة وعبد القادر المازني وزكي مبارك من جهة أخرى.
لا نعرف محتويات المقدمة، لكننا نعلم أن المازني وجَّه نقده إلى طه حسين، مؤكدًا أنه «خسره الأدب، ولم تربحه الحكومة».
ما كان من طه حسين إلا أن رد على ما جاء في هجوم المازني، قائلًا، بشيء من الغمز واللمز غير المفهوم صراحة:
«أراد الأستاذ المازني أن يثني على ديوان شاعرنا المدير، أو مديرنا الشاعر، الأستاذ عزيز أباظة، فلم يستطع أن يصل إلى غرضه دون أن يتقدم بين يدي مقاله برثاء لي، وإشفاق عليَّ، لأن الأدب قد خسرني، والحكومة لم تكسبني، ولأنني كتبت في تصدير هذا الديوان كلامًا لا محصول وراءه، ولا يُعرَف له رأس من ذَنَب، أنا أستأذنك في أن أشكر للأستاذ رثاءه لي وإشفاقه عليَّ، وآسف أشد الأسف لأن الحكومة لم تُكِل إلى الأستاذ عملي في وزارة المعارف، وفي جامعة فاروق، إذًا لكسبته الحكومة والأدب معًا».
في ذلك الوقت، تدخَّل زكي مبارك، الأكاديمي والشاعر والناقد، وصعَّد المواجهة لمصلحة المازني في وجه طه حسين، فنقل الأزمة إلى مجلة «الرسالة»، وفسَّرها، ما خلق خلافًا جديدًا وصلت تداعياته إلى حد فصل مبارك من الجامعة بكلمة من طه حسين، رغم أنه كان حاصلًا على ثلاث درجات دكتوراه. هنا استغل المازني الموقف وزاد من وتيرة هجومه ضد طه حسين، واستمرت المعركة قائمة إلى أن هدأت الأمور بفعل الزمن.
أم كلثوم vs منيرة المهدية
وصل الأمر بمنيرة المهدية إلى الخوض في شرف أم كلثوم، وإلقاء الاتهامات الجزافية عليها، إلا أن أم كلثوم استمرت في طريقها نحو القمة.
في بدايات القرن العشرين، كانت «سلطانة العرب» منيرة المهدية تتربع على عرش الغناء في المنطقة، وصاحبة الوجود الأكبر والوحيد على الساحة الفنية، إلى أن ظهرت فتاة تُدعَى أم كلثوم استطاعت بموهبتها وصوتها القوي أن تسحب البساط من تحت أقدامها.
لبست منيرة الملاءة والبرقع للتخفي عن أعين الحضور، وحضرت إحدى حفلات أم كلثوم كي تسمع صوتها، ومن يومها قررت أن تهاجمها بكل ما أوتيت من قوة.
كانت الصحافة سلاحها الأول والأخير ، فلجأت إلى أصدقائها ومحبيها لشن هجمات متتالية ضد الفتاة الصاعدة بسرعة الصاروخ، ووصل الأمر إلى الخوض في شرفها، وإلقاء الاتهامات الجزافية عليها، إلا أن أم كلثوم لم تلتفت لتلك الهجمات المتتالية، واستمرت في طريقها نحو القمة. وبعد أن خفت نجم منيرة، وخرجت من المنافسة، تحولت إلى واحدة من جمهور أم كلثوم، واعتادت الاستماع لحفلاتها في الخميس الأول من كل شهر، حتى ماتت عام 1965، واعتادت أن تقول: «حد يقدر ييجي له نوم والست بتغني؟».