صمت مضمخ ببقايا عطر الرصاصات التي تنهمر في ساحة التحرير في بغداد. استذكار ما تبقى من دم الشهداء على قميص الجلاد الغامض. أنين كمان أمين مقداد يسابق همسات عود إسلام مهدي وهمهمات محمد فارس وإيقاعات دفوف حسين العراقي وعاطف الجفال.
رائحة البخور تعانق دموع الشموع المتناثرة على مذبح الفجيعة، تلك هي أجواء استذكار الشهيدين ريمون ريان ومحمد المختار، اللذين قضيا في ساحة التحرير برصاص أجهزة الأمن، في بيت تركيب الثقافي الذي تشرف عليه الألمانية «هيلا ميفس».
تشابكات جمالية بين النغم والحوار الداخلي وضعها أمين مقداد لاستذكار زميليه في البيت، همهمات مقام المخالف العراقي الحزين تتواشج مع طقس موسيقي كنسي، بخلفية صوتية تستحضر النواح السومري لتضفي على المشهد قداسة اللحظة التي تسمرت بين جدران الغرفة المعدة للعرض، والتي استلهمت سرادق العزاء البغدادي.
أمسية الانعتاق من عربدة الرمال البغدادية
أبحث بين وجوه الشباب في ساحة الاعتصام عن وجه ريمون الذي كان الأنشط في إدارة فعاليات بيت تركيب الثقافي، فلا أتمكن من تحديد ملامحه.
يقول أمين مقداد لـ«منشور» إنه نبش في اللحظات المهملة من حياة أصيبت بطعنة النسيان، يضيف: «إنها عقوبات جماعية يومية عسيرة الهضم. أرواح الشهداء تحتل مقاعد الغياب، من هنا بدأت تأثيث الأمسية». ويؤكد أن النغم العراقي، سواء ذلك المنطلق من أوردة الآلة الموسيقية أو النازف من الحنجرة البشرية، موسوم بالشجن ومتخم بالحزن.
محمد فارس استذكر في الأمسية لحظات مقتطعة من شريط علاقته بالشهيد محمد مختار عازف الغيتار الذي كرس موسيقاه لساحات الاحتجاج، إذ كان يحمل مع غيتاره تعويذة لتحقيق رغبته بالخلاص. يؤكد فارس في حديثه لـ«منشور»: «مزق المختار فرصة الانعتاق من عربدة الرمال البغدادية التي حملتها سلطة الاستبداد الطائفي، وجنون القتل اليومي وكوابيس الموت والدمار، فرشت له شقيقته منذ سنوات حيث تقطن سجادات الحلم مطرزة بأمل الخلاص، من ذلك القلق المزمن على مختار وحشرجة كمانه وتعويذته، التي لم تصدق في ذودها عن ما تبقى من كسرة حياة عبثية».
الصمت لغة حادة في العرض، لغة تفرض قدسيتها ورهبتها في فضاء الغرفة، تتحول في بعض لحظاتها التي تتخلص للتو من غزوات إيقاعات الدفوف إلى طقس غامض يهيمن على أجواء العرض والأمسية.
تضيف: «ريمون جاء إلى البيت لأول مرة بصحبة صديق له اسمه مومو، وأصبح حضوره منتظمًا، ومن ثم تسلما مهمة أمن نشاطات بيت تركيب، إذ كانا يقفان عند الباب ويفتشان الغرباء الذين يحضرون تلك النشاطات، وهذه مهمة صعبة في بلد يعاني من اضطرابات وتهديدات أمنية. وحين فكرنا في تنظيم هذه الأمسية الاستذكارية، بحثنا عن صورة لريمون في أرشيف البيت، لكننا لم نعثر على صورة له، لأنه كان دائمًا منتصبًا عند الباب لكي لا يُخترق أمن فعاليات بيت تركيب الثقافي».
ما أود أن أقوله للشهيدين ريمون ريان ومحمد المختار إن أحدًا لم يحب العراق مثلكما، ولا أحد يحبكما مثلما نفعل نحن زملاؤكما.
تملكت جمهور الأمسية الصدمة وهم يعيدون اكتشاف حجم فاجعة قتل شباب انتفاضة تشرين من خلال أنين الكمان، وصرخات العود المكتومة، وهمهمات محمد فارس التي وصلت حد النشيج. كانت دموع الجمهور تسابق دموع الشمعات وهي تنشر ضوءها على ملامح صورتي الشهيدين. ولعل أكثر المشاهد إيلامًا كان حضور والد الشهيد محمد المختار، الذي خيم وقار حزنه على فضاء غرفة العرض التي غصت بمحبة أصدقاء الشهداء.