يُعرَّف الفن في المعجم الوسيط بأنه «الوسائل التي يستعملها الإنسان لإثارة المشاعر والعواطف، وبخاصة عاطفة الجمال». أما الموسوعة البريطانية، فتُعرِّف الفن ببساطة على أنه التعبير عن الأفكار الجمالية عن طريق توظيف المرء لخياله وإبداعه. يُعرَّف الفن بأشكال مختلفة لغويًّا واصطلاحيًّا. في معظم قراءاتك ستجد أنه لا أحد حتى الآن اتفق على تعريف واضح وشامل للفن، ببساطة لأنه عمل ينبع من داخل نفوسنا، ونفوسنا متنوعة ومختلفة ومتفرِّدة في إدراكها للعالم وتعبيرها عن ذلك.
يلمسنا الفن بصورة عميقة للغاية حتى أننا أحيانًا نشعر كأن يده الخفية قد تسللت إلى قلوبنا ولمستها لمسةً خفيفة، فذابت معها وذاب العالم وذاب كل شيء إلا العمل الفني الذي أمامنا. لكن، هل تساءلت من قبل: لِمَ يؤثر فينا الفن بتلك الصورة؟ هل فقط لأننا نراه جميلًا؟ أم لأنه يجسِّد فكرة خطرت لنا، ولم نستطع التعبير عنها؟ أم فقط لأن الرسالة التي يخبرنا بها هي ما أثَّرت فينا؟
معضلة الجمال: لِمَ نرى الأشياء جميلة؟
يقول الفيلسوف «ديفيد هيوم»: «الجمال لا يكمن داخل الأشياء نفسها، لكنه ببساطة في العقل الذي يتأمله. وكل عقل يتأمل جمالًا مختلفًا».
كان أفلاطون أول من سأل ذلك السؤال، لِمَ نرى الأشياء جميلة؟ يرى فيلسوف المثالية أننا نرى أشياء بعينها جميلة لأنها تهمس لنا بما نفتقده في حيواتنا. اللطف والسلام والقوة والصفات التي نستنبطها دون وعي من أشياء بعينها هي ما تأسرنا بداخلها.
كان أفلاطون يرى أن الفن وسيلة للعلاج. مهمة الفنانين هي مساعدتنا على التمتع بحياة جيدة.
في مقالة بعنوان «الجمال» على موسوعة «ستانفورد» للفلسفة يناقش المؤلفون معظم آراء الفلاسفة في إجابتهم لسؤال: لِمَ نرى أشياء بعينها جميلة؟
يقول الفيلسوف «ديفيد هيوم»: «الجمال لا يكمن داخل الأشياء نفسها، لكنه ببساطة في العقل الذي يتأمله. وكل عقل يتأمل جمالًا مختلفًا»، غير أن اعتبار الجمال أمرًا ذاتيًّا بحسب المقالة سيعني أن الكلمة نفسها من دون معنى حقيقي. ما الذي أنقله إلى الشخص الماثل بجانبي عندما أصف له شيئًا بأنه «جميل» إذا كان كلانا يدرك نفس الشيء بصورة مختلفة؟
على الجانب الآخر تعود المقالة لتخبرنا بأنه سيكون من غير المنطقي اعتبار الجمال قيمة موضوعية تمامًا. ماذا يعني وصفنا لشيء بأنه جميل إذا كان لا علاقة لإدراكنا بالأمر؟ هل سيظل الشيء جميلًا إذا غاب كل مستقبليه؟ وهل سيمكننا إذًا قياس نسبة جماله بأدوات وأجهزة دقيقة؟
في القرن الخامس أضاف الفيلسوف القديس «أوغسطينوس» معضلة جديدة بأن سأل: هل الأشياء جميلة لأنها تمنحنا السعادة؟ أم تمنحنا السعادة لأنها جميلة؟ إيجاز مدهش لمعضلة ما إذا كان الجمال شخصيًّا أم موضوعيًّا. اسمح لي إذًا يا عزيزي «أوغسطينوس» أن أغيِّر في سؤالك قليلًا: هل يلمسنا الفن لأنه يتحوَّل في أعيننا إلى شيء جميل؟ أم هو بذاته جميل، ولذلك يثير الجمال في من حوله؟
الفكرة هنا تكمن في أن الجمال لا يشترط بالضرورة أن يمنحنا السعادة كما يقول أوغسطينوس. في الفن مثلًا تلمسنا الأعمال الحزينة بصورة أعمق من الأعمال المُبهِجة. تنقل إلينا تلك الأعمال الحزنَ الذي بداخلها، لكننا مع ذلك نظل نراها جميلة.
شعر الرثاء جميل. أفلام ومسرحيات التراجيديا جميلة. اللوحة التي تنقل لنا مأساة أيضًا جميلة. ربما نصل إذًا إلى حقيقة أن الفن خليط معقَّد من المعاني الشخصية والموضوعية. ليس جميلًا لأنه يمنح مستقبليه السعادة، وفي نفس الوقت لا يمكن اعتباره جميلًا إلا في أعين مستقبليه.
قد يهمك أيضًا: لماذا لا يؤثر فينا الجَمال بطريقة واحدة؟
التعاسة والجمال: هل تنتقل إلينا عدوى المشاعر؟
يقول دوستويفسكي: «إن الألم والمعاناة يلازمان العباقرة وأصحاب القلوب العميقة دومًا. أعتقد بأنه لا بد للأشخاص العظماء حقًّا أن يحملوا حزنًا عميقًا في هذا العالم».
هل يؤثر فينا الفن لأنه حزين، وكونه حزينًا يجعله صادقًا؟
الحزن يجعل الإنسان أكثر هشاشة، أكثر صدقًا مع نفسه والعالم. ويتردد على أسماعنا كثيرًا أن الحزن يهذِّب الروح. في الحزن تتكشَّف لك الحياة على طبيعتها، وترى الأشياء بلا شوائب ولا تزيين. يتردد دائمًا تساؤل عن ما إذا كان الإبداع مرتبطًا بالحزن. الفن يمثِّل أعلى درجات الإبداع. الفنان يخلق شيئًا من العدم، شيئًا لم يوجد قبل، وهو الذي أوجده.
يقول البعض إن كل جميل لا بد أن ينبع من ألم. فكما لا يولد الطفل إلا بين مخاض وبكاء، فإن الفن، كعمل شديد الجمال، لا يمكنه أن ينبع إلا بعد ألم عظيم.
ربما يتفق الفنانون أنفسهم على هذا المبدأ. يقول الشاعر الأمريكي «روبرت فروست»: «القصيدة تبدأ بغصة في الحلق». وفي عبارة بديعة لـ«إرنست هيمنغواي» قال: «الكتابة سهلة، كل ما عليك فعله هو أن تجلس على الآلة الكاتبة، وتنزف».
قد يعجبك أيضًا: إرنست هيمنغواي: شجاعة أخذ الحياة عنوة
فان غوخ عاش حياة مليئة بالمآسي. كافكا ظل طوال حياته يعاني تبعات ما فعله به والده. هيمنغواي عانى اكتئابًا حادًّا، وفي النهاية أطلق النار على نفسه. الأمثلة لا يمكننا حصرها في صفحة واحدة أو حتى صفحات، عن أشخاص أنتجوا أعظم أعمال الفن في أحلك لحظات حياتهم.
هل يؤثر فينا الفن إذًا لأنه حزين، وكونه حزينًا يجعله صادقًا؟ يقول علم النفس إن المشاعر معدية تمامًا كالعدوى البيولوجية، في مبدأ يُعرف بالـ«Emotional Contagion».
في بحث مثير أجُري عام 2014 وجد مجموعة من الباحثين أننا يمكننا بنجاح أن نترجم المشاعر من خلال رقصات شخص مجهول أمامنا.
في الدراسات السابقة كان الباحثون يطلبون من الراقصين أن يجسِّدوا مشهدًا يعبر عن شعور ما، فرح أو حزن، ثم ينظروا ليروا إذا كان المشتركون قد استنبطوا المشاعر الصحيحة من كل مشهد أم لا. المثير في دراستنا أنها لم تطلب من الراقصين تجسيد مشهد يعبر عن شيء.
في بداية التجربة أثار الباحثون في الراقصين شعورًا بعينه، فرحًا أو حزنًا، ثم طلبوا منهم أن يؤدوا رقصة عادية على أنغام موسيقى معتدلة تمامًا، لا تنم عن صَخب أو عن رقة. في نهاية التجربة طلبوا من المشتركين أن يحددوا شعور كل راقص في كل مشهد أدَّاه، وكانت المفاجأة أن استطاع معظم المشتركين تحديد مشاعر الراقصين بنجاح.
قد تخبرني أنه أمر متوقَّع، فربما فهم المشتركون مشاعر الراقصين من نظرات عيونهم مثلًا، لكن سيدهشك معرفة أن الراقصين في تلك المقاطع كانوا من دون أي ملامح. محا الباحثون كل ملامح الراقصين قبل أن يعرضوا المقاطع. المشتركون كانوا يشاهدون مقاطعَ لأجساد مجهولة تمامًا.
نحن إذًا قادرون بشكل ما على استنباط المشاعر من مشاهدة حركات عادية تؤديها أجسام مجهولة تمامًا. المشاعر مُعدية كما قلنا. الفنان لا ينتج عملًا إلا إذا لمسه بشدة، وتأثر به، وغلب عليه، ربما لذلك أيضًا نتأثر بتلك الأعمال الفنية. تلمسنا كما لمست صاحبها في الأصل.
الفن للفن أم الفن للفكرة؟
يقول «جورج أورويل»: أكتب لأن هناك كذبة أريد أن أفضحها، وحقيقة أريد أن أوجِّه الانتباه إليها، وهمي الوحيد هو أن أجد من يسمعني.
«الفن من أجل الفن، أم من أجل الفكرة» معضلة عميقة ومستمرة منذ القِدَم. وهي تخدم موضوعنا هنا في نقطة مهمة: إذا كان الفن من أجل الفن، فإن ذلك يعني أنه موضوعي، يلمسنا لأنه في حد ذاته جميل. أما إذا كان الفن من أجل الفكرة، فإن ذلك يعني أنه شخصي، أثَّر فينا لأننا رأينا فيه رسالة نشجعها. فهل الفن إذًا من أجل الفن، أم من أجل الفكرة؟
أول من رفع شعار «الفن من أجل الفن» كان الفيلسوف الفرنسي «فيكتور كوزين» في القرن التاسع عشر، وتبعه بعد ذلك أعداد كبيرة من الفنانين في مختلف دول الغرب. فنانون غاضبون من تحميل الفن ما لا طاقة له به. يدفعون بسخط كل قول بأن الفن يجب أن يكون «مفيدًا». يخبروننا بأن لا أحد ينبغي له أن يبحث عن تعليلات للفن. إن الفن لا يحمل الرسائل، ولا يلهث وراء المبادئ، هو فقط يخدم فكرة الجمال.
على الجانب الآخر يرى كثير من الفنانين أن الفن لا ينبع في الأصل إلا لأن فكرة ما ألهبت ذلك الإنسان، فأخرج عملًا يعرضها، وكل فكرة في حد ذاتها تحمل رسالة. تشارلز ديكنز، على سبيل المثال، كان يرى أن للفن وظيفة في حل مشكلات الشعوب. والكاتب «جورج أورويل» كانت له مقولة شهيرة: «عندما أجلس لأكتب لا أقول لنفسي: سوف أنتج عملًا فنيًّا. لكنني أكتبه لأن هناك كذبة أريد أن أفضحها، وحقيقة أريد أن أوجِّه الانتباه إليها، وهمي الوحيد هو أن أجد من يسمعني».
قد يهمك أيضًا: المتعة المرعبة: كيف تُغسل الأدمغة؟
لم ينتصر أحدٌ في النهاية. كما قلنا: المعضلة ما زالت عميقة ومستمرة. لكن هل يهمنا الأمر حقا؟
الأسرار الكونية: ما يفعله بنا الفن
«السجلات الأكاشية» نظريًّا هي مكتبات هائلة تحمل كل أحداث الكون منذ ميلاده وحتى نهاية العالم. تحمل بداخلها الحاضر والماضي والمستقبل. السجلات الأكاشية هي التي تحمل بداخلها كل أسرار الكون.
الفن امتداد للخيال، تجسيد للأحلام التي تجول بخاطرنا طوال الوقت ولا نستطيع التعبير عنها.
في روايته «مثل إيكاروس»، يخبرنا أحمد خالد توفيق أن الفنانين هم من استطاعوا بطريقة ما أن يلجوا إلى تلك السجلات. عرفوا شتى أسرار الكون، ونهلوا منها ما نهلوا، ثم عادوا إلينا يعبِّرون عمَّا عرفوه في إنتاجهم الفني. ربما لأجل ذلك نقف مشدوهين أمام الأعمال الفنية دون أن ندري سببًا واضحًا لذلك.
في رأيه توصَّل الفنانون إلى الحقيقة الكاملة للكون، لكن الثمن الذي دفعوه كان حياةً شديدة البؤس عاشها معظمهم حتى مماتهم. يقول أحمد خالد توفيق في روايته: «المفكرون والأدباء والفنانون عبر التاريخ دخلوا بطريقتهم إلى السجلات الأكاشية، وقد حاولوا أن يفكروا خارج الصندوق، لكنَّ العالم لم يكن مستعدًّا لاستقبال معظمهم، ولهذا قُتِلَ المتنبي، وشرب سقراط السم. كل من يقترب من الحقيقة يحترق».
يلمسنا الفن، فتلمسنا الحياة. حياة أجمل وأرق من تلك التي نحظى بها في الواقع. الآلات والألوان والأخشاب المتراصة التي لا تبدو لنا حيةً على الإطلاق، تصبح فجأة حية أكثر منا نحن، حية في عذوبتها وحركتها، وحية في بعثها للحياة داخل أجسادنا المسكينة. ربما تلك الحياة بالنسبة إلينا غير كافية، والفن بطبيعة الحال امتداد للخيال، تجسيد للأحلام التي تجول بخاطرنا طوال الوقت ولا نستطيع التعبير عنها.
سؤال «لِم يؤثر فينا الفن» يحمل في طياته معضلات عديدة. لكن، فيمَ يعنينا ذلك حقًّا؟ شخص ما لا يتحدث لغتنا، وربما مات قبل أن نولد بمئات السنين، أصبح فجأة قادرًا على إيصال كل ما أراد إيصاله في عمل بسيط من إبداع يديه. لا يهم إن كان هذا العمل يحزننا أم يفرحنا، المهم أنه يلمسنا، بمنتهى العمق والعذوبة. ولا يهم أيضًا إن كان هذا العمل جميلًا في ذاته أم في أعيننا، إننا في النهاية اتفقنا على أنه جميل. ربما لذلك ينبغي لنا أن نقول إن الفن أفيون الشعوب. أو كما صاغها (فان غوخ) في صورة أبدع: «الفن يواسي من كسرتهم الحياة».