عند مطالعة محاولات الفلسفة للتعامل مع الجَمال، نجد حيرة شديدة في تعدد تعريفاته وعدم استقرارها على مقياس محدد، بل وكثرة طرق تذوقه. وكذلك عند استعراض الأعمال الفنية، لا يكاد الإجماع يستقر على أيها أكثر جمالًا.
يأتي العلم بمساعيه غير المنقطعة للبحث عن ملامح ثابتة للطبيعة البشرية، من بينها حلم جامح باكتشاف مقاييس كونية محفورة داخل عجينتنا البيولوجية الواحدة، وتركيبنا الدماغي المتشابه، نحدد عن طريقها ما هو جميل وإبداعي، آملين أن تستطيع هذه التركيبة إنتاج نمط جمالي إنساني عالمي، على غرار مجتمع عالمي موحّد، يتخطى الزمان والمكان، ويفرض قواعد ثابتة ترشدنا خلال ارتجالاتنا اليومية.
فهل هذا المسعى منطقي أصلًا؟ أو: هل سيتمكن العلم فعلًا من التوصل إليه؟
يحاول مقال منشور على موقع «Nautil» استكشاف مسألة اختلاف تذوق الجَمال بين إنسان وآخر، بحثًا عن نمط يمكن الاعتماد عليه.
العينُ تعشق كل جميل
للون والصورة وزنهما منذ بدايات البشر.
مَرّ مفهوم الجمال البصري بتغيرات كثيرة جدًّا، لكن رغم ذلك بقي التماثل البصري من بين أهم المرشحين لتحقيق مثال الجمال الكوني، في قوالب التصميمات الزخرفية كالنقوش على السجاد الفارسي، والرسوم على السقوف الداخلية في قصر الحمراء في إسبانيا، وهي أمثلة أنتجها البشر في أماكن مختلفة وفترات تاريخية متباعدة، لكنها تُضفي شعورًا بالجمال يعتمد على تكرار أشكال محددة في نماذج تصميمية ذات إيقاع هندسي ثابت.
تكمُن المشكلة في أن العلاقة بين الجمال والتماثل ليست مطلقة، فليس كل تماثل جميلًا، وبعض التوجهات الفنية المتحررة من التماثل لا ينقصها الجمال أبدًا، مثل فن الروكوكو في أوروبا القرن الثامن عشر، المعتمد على الخيوط الانسيابية المنحنية بعيدًا عن أي ترتيب أو تماثل، بل بأريحية تمضي على إيقاع رشاقة نغمية يلتقطها الفنان من الطبيعة.
من أجمل الأمثلة التي يضربها المقال على غياب التماثل أيضًا حدائق الزِّن اليابانية. والزن يعني التأمل، وقد أبدعتها طائفة الزن البوذية لمساعدة أتباعها على فهم جوهر فلسفتهم، عن طريق تأمل العناصر الطبيعية. الأساسي في تصميم تلك الحدائق هو تشكيل عناصر لغتها (الرمال، الحجارة، الخشب، النباتات) بما يعبِّر عن روح صاحبها، مع منعٍ تام لأن ينسخ أحدهم حديقة الآخر. وأهم مميزات الحدائق ومنبع جمالها، غياب التماثل.
حب الـ20%
ربما علينا البحث في مكان آخر إذًا، فماذا عن الاستعانة بالبحث العلمي؟
في عام 1973، أجرت العالمة النفسية «غيردا سميتس» تجارب باستخدام جهاز تخطيط كهربية المخ، لتسجيل مستوى النشاط الدماغي الذي تسببه رؤية أنماط مختلفة من الصور والتصميمات، ولاحظت أن الدماغ يعطي أكبر استجابة على الأنماط التي تبلغ نسبة تعقيدها 20%، وكذلك كان وقت تحديق الأطفال الرضع في هذا النوع من الصور أطول من سواه.
لا توجد قواعد تحكم الفن الجمالي البصري واستقبالنا له، فالأمر أكثر تعقيدًا من مجرد استجابة بيولوجية محددة سلفًا.
من هنا، اقترح عالم البيولوجيا «إدوارد ويلسون» أن هذا التفضيل الدماغي لنسبة تعقيد معينة قد يوفر الأساس لنموذج جمال عالمي تفرضه البيولوجيا على الفن البشري، وكثير من التشكيلات الفنية البصرية، كتصميمات الأعلام والشعارات، تشترك في نفس هذه الدرجة من التعقيد، ما يعني أن هذه الدرجة تميز ما نَعُده جذابًا في الفن البدائي والفنون والتصميمات الحديثة.
قد يهمك أيضًا: كيف تؤثر فينا الصورة؟
يبدو هذا كلامًا جميلًا ومعقولًا إلى حد ما، لكن الاستثارة العصبية ليست سوى بداية الشعور الجمالي لدى الإنسان، ولا تحكي القصة كاملة. نحن نعيش داخل عالم لا تتوقف مجتمعاته عن التصارع في ما بينها لإبهار وإلهام الآخرين. والضجر مرض بشري لا شفاء منه، ولا شيء يضمن أن تظل لنسبة الـ20% مكانتها داخل عقولنا بعد أن تصير عادةً ونَمَل منها ونبحث عن نسب جديدة.
تجربة سميتس نفسها تمخضت في النهاية عن نتيجة تعاكس ما استنتجه منها ويلسون، فقد سألت الباحثة المشتركين بعد انتهاء التجربة عن الصور التي يفضلها كلٌّ منهم، وهنا اختفى الإجماع، فكان لكل واحد تفضيله الذي لا يرتبط بنسبة الـ20% ولا بتفضيلات الآخرين إلا بشكل عشوائي.
يبدو هكذا أنه لا توجد قواعد تحكم الفن الجمالي البصري واستقبالنا له، فالأمر أكثر تعقيدًا من مجرد استجابة بيولوجية محددة سلفًا.
الخداع البصري لا يخدع الجميع
معيشتنا في عالم تسيطر عليه الثقافة الغربية تعمي أعيننا عن كثير من الحقائق، لهذا كان من الضروري للبشر أن يكتشفوا أنحاء الأرض كلها، في حالاتهم البدائية خصوصًا، قبل أن يتأثروا بغيرهم أكثر مما يجب.
عندما حاول العلماء فعل هذا، اكتشفوا إلى أيِّ درجة تُسهِم البيئة مِن حولنا (طبيعةً وثقافةً) في تشكيلنا، حتى أنها يمكن أن تغير طريقة رؤيتنا للأشياء.
فمثلًا، بالنسبة إلى وهم «مولر- لاير» في الصورة السابقة، اعتقد العلماء لسنوات أن جميع البشر يرون الخط «ب» أطول من «أ» رغم تساويهما في الطول. لكن بدراسة مجتمعات بدائية أو بعيدة عن التأثر بالحضارة الغربية على الأقل، اكتشفوا أن الغربيين يرون الفارق بين الخطين أكبر بمرتين من قبائل الزولو والفانغ والإيبو الإفريقية، بينما لم يُخدع أفراد قبائل السان في صحراء كالاهاري إطلاقًا، ورأوا مباشرةً أن الخطين متماثلين، ما يعني أن طبيعة حياتك وثقافتك تغير تصورك للعالم، وليست الرؤية استثناءً من ذلك.
تهويدات النوم، وشوشة وصخب
تتحول تهويدة الأم الغربية تدريجيًّا إلى وشوشة كي ينام الطفل، بينما تغني الأمهات في قبائل إفريقية بصوت أعلى مع طبطبة على عنق الطفل.
تتبادر الموسيقى إلى الذهن كلما جرى الحديث عن فن يحمل سمات اللغة الكونية، أي أن بمقدوره الوصول إلى البشر في كل مكان والتأثير فيهم بقدر متقارب على الأقل، وربما يبدو لنا أن الموسيقى التي نسمعها يوميًّا تتّبع أعرافًا ثابتة ومتسقة بين اﻵذان البشرية عامةً في كل مكان. لكن استطلاعًا أُجري على أنواع الموسيقى البدائية في أنحاء العالم بيّن أن هناك تنوعًا كبيرًا في ما نستمع إليه، وكذلك في طريقة استماعنا ذاتها.
اقرأ أيضًا: «تاني والنبي يا ست ده أنا جايلك من طنطا»: عن تفاعلنا مع الموسيقى
أبسط الأمثلة الموسيقية وأكثرها بدائيةً هو تهويدات النوم، فحين ترغب الأم الغربية في إيصال طفلها إلى عالم النوم، تبدأ بتهويدة مُطَمئِنة، تتحول تدريجيًّا إلى وشوشة حانية حتى يغمض عينيه في سلام. لكن في قبائل «الأكا» الإفريقية، تغني الأم بصوت أعلى مع طبطبة على عنق الطفل حتى يستجيب، ويستجيب الطفل فعلًا وينام. الأمر يختلف إذًا ولا يخضع لنفس النمط.
صوت الموسيقى الذي أحيا التلال
يدّعي فيلم «The Sound of Music» في إحدى أغنياته أن لصوت الموسيقى قدرةً على إحياء التلال، لكنه لم يوضح أي نوع من الموسيقى بالضبط. نفترض طبعًا أن صانعي الفيلم قصدوا موسيقاهم بالذات، الموسيقى الغربية. لكن إذا كانت التلال كلها استجابت للموسيقى الغربية، لماذا نجد كمًّا هائلًا من التنوعات الجذرية بين أنواع الموسيقى التي بمقدورها إحياء البشر؟
ففي الموسيقى الغربية الكلاسيكية، يُعَد العزف بتناغم صفة أساسية، وهو ما يجذب الناس إلى ذلك النوع. أما في الموسيقى الجاوية التقليدية، فإن ما يُعَد جميلًا هو العزف غير المتناغم.
وفي بعض الثقافات البدائية، يحدد كل عازف السرعة الخاصة به وحده. وفي ثقافات أخرى مثل الغناء الحلقي المنغولي، لا يوجد لحن معين أصلًا. وهنالك أدوات موسيقية قد تبدو لنا غريبة جدًّا، مثل ضاربات الطبول في جزر فانوتوا، اللاتي يعزفن إيقاعاتهن بالضرب على أمواج البحر.
كذلك، تعتاد آذاننا العربية سماع الموسيقى بدرجة صوت نصفها بأنها إما «عالية» أو «منخفضة»، لكن شعب الروما في صربيا يرونها «كبيرة» و«صغيرة»، وتسميها قبيلة الأوبايا مينزا «آباء» و«أبناء»، أمّا شعب الشونا في زيمبابوي فهي في لغتهم «تماسيح» و«الناس الذين يطاردون التماسيح»، بحسب المقال.
اقرأ أيضًا: كيف تتحول من مستمع للموسيقى إلى «مستمتع» بها؟
التناغم والنشاز: للأسبقية أولوية
تغيرت تفضيلات الناس مع الزمن، فالإيقاعات البسيطة المتناغمة لمعزوفة موتسارت كانت لتصيب راهبًا من القرون الوسطى بالدهشة.
تأتي التجارب البحثية من جديد، لكن في الموسيقى هذه المرة، لتفنيد اقتراح ما إذا كنا نُولَد بحب فطري للتناغم. يذكر المقال تجربة أُجريت على أطفال رضع في عمر يتراوح بين أربعة وستة أشهر. كان الرضيع يجلس في حِجر أحد والديه في منتصف غرفة زُودت بسماعتين، واحدة على كل جانب، ثم تصدح السماعة الأولى بمعزوفة قصيرة متناغمة لموتسارت، وبعدها تتوقف وتبدأ الأخرى في إذاعة المعزوفة ذاتها، لكن بنسخة مشوهة دون تناغم، كلها نشاز.
سجل الباحثون مدة استماع الرضيع إلى كل معزوفة عن طريق إدارته رأسه تجاه السماعة ثم استدارته عنها. وكانت النتيجة أن الأطفال أبدوا اهتمامًا لفترة أطول بالمعزوفة الأصلية المتناغمة، ما بدا أنه دليل قاطع على أن تفضيل التناغم أمر فطري.
لكن المقال يذكر أن بعض الموسيقى البدائية، مثل الغناء الشعبي البلغاري، يميزه النشاز الكامل. وحتى في الثقافة الموسيقية الغربية، تغيرت تفضيلات الناس مع الزمن، فالإيقاعات البسيطة المتناغمة لمعزوفة موتسارت كانت لتصيب راهبًا من القرون الوسطى بالدهشة.
لهذا وغيره من الأمثلة الأخرى، بدأ خبراء الإدراك الموسيقي يشككون في نتائج تجربة الرضيع.
أعادت العالمتان «ساندرا تريهَب» و«جودي بلانتينغا» النظر في هذه التجربة لتكتشفا أمرًا مذهلًا: استمع الرُّضع مدةً أطول لأي عينة شغلها الباحثون أولًا، سواء كانت متناغمة أم نشازًا. وكان استنتاجهما مفاده أننا لا نولد بتفضيل فطري للتناغم، وليست الأصوات التي نفضلها مطبوعة في تركيبنا البيولوجي عند الولادة.
اقرأ أيضًا: ملامح تشكُّل الفن العربي في بداية القرن العشرين
«وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا»
لسنا منتوجات للتطور البيولوجي وحده، بل للثقافي كذلك، فتتنوع تفضيلات جنسنا البشري ولا يمكن إخضاعها لمقاييس موحدة.
كلما استقرت حضارة لفترة في قمة منجزاتها، وتوصل فنانوها إلى أنماط جمالية مبهرة، يرى الناس أن هذا النمط من الفن لن يتخطاه البشر أبدًا، وأنه الكمال ولا بعده، ويستخلصون منه قواعد يمشي على خطاها القادمون جميعًا وتكون هَدْيًا لهم، ولا يُتاح الخروج عنها في الغالب.
ثم نتغير، وتتحلل الظروف التي أنتجت المجتمع القديم، ويبزغ آخر جديد فيه جذوة ثورة على قواعد الجمال القديمة، لتأتي فترة تقلقل وبحث عن قواعد ثابتة جديدة للجمال، جمال كوني كامل، وعند الوصول إليه والاستقرار عليه لفترة، يتكرر ما حدث قبلًا، وهكذا دواليك. نحن كائنات لا تستطيع إلا أن تواصل تطورها المقسوم.
ربما يكون تكريمنا لأجدادنا بأن نعيش إبداعًا وخَلقًا جديدًا في زماننا، يناسبنا ويعبِّر عن إنسانيتنا الخاصة جدًّا، وهكذا نحيا بشرًا، نعرف أنفسنا وماضينا، وكذلك جيراننا من البشر الآخرين.
لسنا منتوجات للتطور البيولوجي وحده، بل للثقافي كذلك، وبعد آلاف السنين قضتها البيئة في تشكيلنا، تنوعت تفضيلات جنسنا البشري، وما عاد من الممكن إخضاعها جميعًا لمقاييس موحدة.
ورغم أن فكرة الجمال الكوني براقة للغاية، فإنها تُغفِل عظمة التنوع الإبداعي الإنساني عبر الزمان والمكان. فكل جديد نراه جميلًا يُضيف بعدًا آخر إلى تعريف الجمال الواسع للغاية. وما يميز جنسنا البشري ليس تفضيلًا جماليًّا معينًا، بل المسارات المتنوعة للإبداع ذاته.