«جولة أخرى»: ابتذال التقدم في السن في فيلم فينتربيرغ

لقطة من فيلم «جولة أخرى» - الصورة: «Zentropa Entertainment» - التصميم: منشور

شيخة الهلالي
نشر في 2021/05/29

ترجمة: عبدالعزيز المحميد

مع تقدم البشر في العمر، ومع ما يسمى بـ«صخب وضجيج» الحياة، فإنهم ينسون أهم جزء من هذه العملية: إنها عملية مملة بالأحرى، هادئة في الغالب إن كانوا من المحظوظين.

يدرسون، ينضجون، يحصلون على وظائف، يمرون بالأحداث الضرورية للنمو: الحب، الفقد، النجاح، الفشل، وهكذا. في اللحظة، قد يبدو لهم أن هذه الأحداث ضخمة، حتى يواصلوا المسير، وتتوقف الحياة. إذا كان البشر محظوظين بما يكفي، فإن هذا يحدث عندما يحققون كل ما يمكن تحقيقه، وكل ما يتبقى لهم أن يستأنسوا بثمار عملهم. إن لم يكن الأمر كذلك، فإنهم يصابون بأزمة منتصف العمر.

الفيلم التراجيكوميدي «Another Round» (أو Druk، بمعنى الإفراط في معاقرة الكحول بالدنماركية) للمخرج الدنماركي «توماس فينتربيرغ»، والحائز على جائزة أوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية 2021، بينما رشح فينتربيرغ لجائزة أفضل مخرج، يسلط الضوء على وقائع الأزمة التي أشرنا لها أعلاه.

يستكشف الفيلم العلاقة بين أربعة مدرسين للمرحلة الثانوية في متوسط أعمارهم: «مارتين» (Mads Mikkelsen)، و«نيكولاج» (Magnus Millang)، و«تومي» (Thomas Bo Larsen)، و«بيتر» (Lars Ranthe).

في يوم من الأيام، وهم يحتفلون بعيد ميلاد نيكولاج، يرفض مارتين معاقرة المزيد من الكحول بحجة أنه يحتاج إلى أن يستيقظ باكرًا في اليوم التالي ويدرّس. في النهاية، يستسلم مارتين ويبدأ في الشرب، الأمر الذي يهيج مشاعره، ويحيله للتفكير في كيف وصل به الحال إلى هذا الروتين الباهت. هذا الروتين الذي يجمع الرجال الأربع هو ذات الروتين الذي ينهبهم سعادتهم: دائرة مفرغة من العمل، والأبناء، ووجبات العشاء العائلية. أصدقاء مارتين يذكرونه بكيف كان شغوفًًا عندما بدأ في العمل، الأمر الذي يشكل مفاجأة للمشاهد، لأنه حين تراه للمرة الأولى وهو يدرّس، فإنه يبدو جافًا، ورتيبًا، وغير مهتم بالمادة التي يدرّسها، لدرجة أن طلبته ينتهي بهم الحال إلى التذمر بأنه لا يعطيهم سوى القليل، وأنهم سيرسبون في النهاية.

يقرر هؤلاء الرجال الأربع بعد ذلك أن يشربوا نخب العلم، مقتبسين من الطبيب النفسي النرويجي (الحقيقي) «فين سكارديرود»، الذي ادعى أن مستوى الكحول في الدم البشري متدنٍّ عموما، وأن مستوى 0.05 يسبب الاسترخاء ويحفز الإبداع. يتبادر فهم مشترك بين هؤلاء الرجال أن هذا هو السبب في أن حيواتهم شاحبة وبائسة، وبالتالي يقررون احتساء الكحول خلال النهار بأكمله وحتى وقت وجبة العشاء.

في البداية، يصور الفيلم احتساء الخمر على أنه تلك الذروة العظمى. كل من يشرب يبدو أشجع، أسعد، أفصح (حتى أن الفيلم يبدأ بعرض مجموعة من المراهقين المنخرطين في لعبة تتضمن الشرب ويستهلكون الكحوليات حتى أواخر الليل). عندما يبدأ الرجال الأكبر بالمعاقرة، فإنهم يرجعون إلى تلك الحالة من اليوفوريا الكاملة، مصبحين مدرسين أفضل وأزواجًا أفضل، وذلك لحصولهم على الطاقة والحماس. يشربون مشروبات روحية شفافة يحتفظون بها في قناني المياه أو الأكواب الحافظة للحرارة. يحملون معهم جهاز قياس مستوى الكحول في الدم (Breathalyzer) طوال الوقت حتى يتسنى لهم السيطرة على مستويات الكحول لديهم. بشكل ما، يصيرون مدمنين باسم البحث العلمي. يضيعون في خضم شغفهم بالكحول والعلم، دون احتساب العواقب التي بالتأكيد ستتبدى مع اتخاذ قرار بهذا الحجم.

من ناحية، يصبحون مدرسين أفضل، بحماس قابل للتصديق تجاه الأشياء التي كانوا يفعلونها. من ناحية أخرى، تبدأ حيواتهم الشخصية في التداعي.

الأمر الذي يطرح السؤال: في سعي البشر وراء نوع من الذروة أو الشعور، ما التضحيات التي هم على استعداد لبذلها؟ هل يدركون ما هم على استعداد للتخلي عنه من أجل الخروج من الابتذال في حيواتهم؟

حتى مع رتابة الروتينات اليومية، تجد الحياة طريقة لإجبار الناس على التوقف وفحص مفترق الطرق أمامهم.

في اللحظات الأخيرة من الفيلم، وبعد حادثة تراجيدية، يتشح البالغون بالسواد ويبدو أنهم يجدون لحظة سلام وسعادة وهم بين طلبتهم المتخرجين حديثًا، وكلهم متشحون بالبياض. يرقصون، يشربون، يضيعون في ذات الشعور الذي أدى إلى سقوطهم سابقًا. في تلك اللحظة، يتعلمون حقيقة واحدة عن الحياة، أنها ستكون دومًا عادية ومملة بشكل غادر.

بإمكانهم إيجاد السكينة في حقيقة أن دورة الأكل والنوم والعمل هذه من الممكن أن تُسبغ عليهم الأمان، أو بإمكانهم محاولة الخروج منها من أجل ملاحقة شعور الثمالة والشباب والحرية. لكن هل سيكون بإمكانهم تحمل العواقب؟ وهل سيهم ذلك عندما يدركون في النهاية أن حتى ذلك الشعور ينطوي على حلقته المفرغة الخاصة به؟

يتضح لهؤلاء الرجال أن لا جدوى من التمرغ في البؤس، فيعاودون احتساء الكحول مجددًا. تركز الكاميرا على مارتين وهو يترنح ويرقص بين طلبته السابقين، بينما تشتغل في الخلفية أغنية «What A Life» للثلاثي الدنماركي «Scarlet Pleasure»، ويُترك المشاهد أخيرًا بشعور بالسكينة. فحتى مع المآسي والعثرات والتحولات المؤسفة، وحتى مع رتابة الروتينات اليومية، تجد الحياة طريقة لإجبار الناس على التوقف وفحص مفترق الطرق أمامهم. ما يفعلونه بعد ذلك متروك لهم بالكامل. في النهاية، تلك كل الحياة الممنوحة لهم، وهي كل ما كانوا سيحصلون عليه.

مواضيع مشابهة