شهدت الحياة في مصر القديمة مدنية موسيقية غير مسبوقة. فقد امتلأت بغالبية أنواع الآلات الموسيقية: إيقاعية مثل الدف والطبول، وآلات نفخ مثل الناي والمزمار المزدوج، ووترية مثل الصنج (الهارب) والطنبور.
استخدم المصريون القدماء الموسيقى في العبادة والأعياد والجنائز والأفراح وغيرها من المناسبات. ولم تقف الحضارة المصرية عند السلم الثلاثي البدائي الذي عرفته غالبية الشعوب البدائية وما زالت تستعمله بعض القبائل حتى الآن. بل عرفت السلم الخماسي الذي يشبه الموجود حاليًّا في النوبة المصرية.
عرفت مصر القديمة أيضًا السلم السباعي المستخدَم في عصرنا الحالي، إضافة إلى أشكال مختلفة من الفرق الموسيقية وبعض الإشارات التي يجريها قائد الفرقة، خلال النقلات النغمية في أثناء العزف والغناء.
كل ما سبق استطعنا أن نعرفه عن طريق الآلات الموسيقية التي اكتُشفت مع الآثار المصرية، وبعض النقوش على جدران المقابر والمعابد. لكن ما لم نستطع معرفته يقينًا هو صوت تلك الموسيقى وخصائصها الفنية.
رغم معرفتنا شكل الآلات ومقاييس تصنيعها، فإننا ما زلنا نتساءل: كيف كانت تبدو الموسيقى عند قدماء المصريين؟ وما طابع الألحان ومدى سرعتها أو بطئها؟ وما هي الإيقاعات التي كانوا يستخدمونها؟ والأهم: هل يمكن أن نعزف الموسيقى المصرية القديمة الآن؟
أوزوريس وأبو سمبل
تعددت التجارب التي حاولت الإجابة عن هذه التساؤلات. فهناك من حاول وضع تصور تخيلي عن تلك الموسيقى، باستخدام آلات موسيقية معاصرة، كما فعل رواد التأليف الموسيقي في مصر القرن العشرين، مثل جمال عبد الرحيم وعزيز الشوان اللذين حاولا أن يضعا تصورهما الخاص عن الموسيقى في مصر القديمة، باستخدام آلات الأوركسترا السيمفوني.
في مقطوعته «أوزوريس»، حاول عبد الرحيم خلق تصوره الخاص عن تلك الموسيقى، بوضعه متتالية لآلات الإيقاع وآلة الهارب التي اشتهر وجودها عند المصريين القدماء، بأشكال وأحجام متنوعة، وغلب على المقطوعة طابع تأملي هادئ، اشتهرت به الموسيقى المصرية القديمة في الدولتين القديمة والوسطى.
أما عزيز الشوان، فجاءت مقطوعته «أبو سمبل» في قالب السيمفونية، وكثُر استخدام الكورال في غالبية الأوقات بمصاحبة الإيقاع والآلات النحاسية، ما يجعلك تشعر بأنك في قداس جنائزي مهيب لأحد الملوك المصريين.
خطوة أقرب
أما النوع الآخر من التجارب، فكان محاولات لمعرفة صوت الموسيقى المصرية القديمة وطابعها، من خلال إعادة تصنيع آلات تماثل تلك التي كان يستخدمها المصريون القدماء. منها التجارب التي ذكرها الدكتور محمود أحمد الحفني في كتابه «موسيقى قدماء المصريين»، كتجربة دكتور «فيكتور لوري» التي أجراها عام 1889 ميلادية. وفيها يصنع نماذج لكل ما وصل إليه من آلات مصرية قديمة، مثل الناي والمزمار.
واجتهد أن يجعل هذه النماذج مطابقة للأصل، من حيث الطول والسُّمك وأماكن الثقوب ومقدار اتساعها، محاولًا التعرف إلى نغمات السلم الموسيقي المصري من خلال العزف على تلك النماذج.
تجربة مماثلة أجراها ياسر الشافعي، عازف الناي وصانعه المعروف، وذلك عام 1995، ضمن بحث يحاول التعرف إلى نغمات السلالم الموسيقية، التي كانت موجودة في مصر القديمة. صنع الشافعي أربعة نايات مماثلة لتلك الموجودة في المتحف المصري، وبعد العزف عليها، وجد أن أحدها يُصدِر سلم «لا صغير»، وهو سلم سباعي، وأحد أهم السلالم الموجودة في الموسيقى الغربية والشرقية على حد سواء. كذلك وجد أن أحد النايات الأخرى يصدر سلم مقام «راست»، وهو السلم الأساسي في الموسيقى الشرقية.
هناك تجربتان لمحاكاة الموسيقى في مصر القديمة. ليس فقط من خلال تصنيع آلات بمقاييس الآلات المصرية، بل من خلال العزف إليها.
لكن الدكتور الحفني يرى أن مثل هذه التجارب غير دقيقة، لاستحالة تطابق النماذج المصنوعة حديثًا مع الآلات الأصلية تمام التطابق، والموسيقي الذي يعزف على هذه النماذج سيحاول، بشكل لاإرادي، مقاربة الأصوات مع تلك التي تتفق ونشأته الموسيقية.
يقول الحفني إن التجربة الأدق في هذا الشأن، هي تجربة «زاكس»، لأنه قرر أن يعفي حاسة السمع تمامًا، ويعتمد كليًّا على الحسابات الرياضية عن طريق قياس أبعاد تلك الآلات، وأبعاد ثقوبها واتساعها ووضع النتائج في جدول. لذلك، فالنغمات التي وصل إليها كانت كلها تقريبًا، إما كاملة وإما أنصاف نغمات. كان بينها ما هو أقل من الكاملة، ولكن كان نادرًا جدًا.
قد يهمك أيضًا: من أوراق البردي ونقوش الأحجار: ألحان الإغريق وموسيقاهم
مايكل أثيرتون وخيري الملط
من الناحية العملية، هناك تجربتان حاولتا محاكاة الموسيقى في مصر القديمة. ليس فقط من خلال تصنيع آلات بمقاييس الآلات المصرية، بل من خلال العزف إليها بعد وضع مؤلفات موسيقية معاصرة مؤلَّفة لتلك الآلات.
التجربة الأولى نفذها الموسيقي الإنجليزي «مايكل أثيرتون»، وصدرت نتائجها في ألبوم موسيقي بعنوان «عنخ: صوت مصر القديمة». كانت تلك التجربة جزءًا من معرض أقامه المتحف الوطني للآثار في لايدن بهولندا.
حاول أثيرتون، في تلك التجربة، وضع تصوره الخاص عن الموسيقى المصرية القديمة من خلال استخدام آلات صُنِعت لتحاكي الآلات المصرية القديمة، مثل الناي والهارب والأرغول. استخدم الكورال، سواء بشكل جماعي أو فردي، وعدد من السلالم الموسيقية الخماسية والسداسية والسباعية في بعض الأحيان، وجاءت الموسيقى في مجملها ذات طابع هادئ.
أما في مصر، فالدكتور خيري الملط، أستاذ الموسيقى بكلية التربية الموسيقية جامعة حلوان، يمتلك مشروعًا لإحياء الموسيقى المصرية القديمة، هو المشروع المصري الوحيد من نوعه. إذ يحاول فيه إحياء الموسيقى المصرية القديمة بإعادة تصنيع الآلات القديمة وتأسيس فرقة تحمل اسم «أحفاد الفراعنة»، لمحاكاة الموسيقى المصرية القديمة، سواء من خلال الآلات الموسيقية أو غناء بعض النصوص باللغة الهيروغليفية.
قدم الملط مع فرقته حفلات في مصر وبعض الدول الأوروبية والآسيوية، بهدف نشر الموسيقى المصرية القديمة في كل أنحاء العالم.
أنشأ الملط أول دراسة أكاديمية في العالم حول الموسيقى المصرية القديمة بدعم من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، وأول ماجستير في الموسيقى المصرية القديمة عام 2011.
أسس أيضًا ورشة عمل دولية صنع فيها نماذج لعدد من آلات الموسيقى المصرية القديمة بنفس المقاييس والخامات، واستغرق هذا الأمر نحو ست سنوات. كان ضمن هذه الآلات الناي والكنارة والطنبور والهارب والدفوف بأشكالها المختلفة، ليؤسس بذلك فرقة موسيقية تحاكي الموسيقى المصرية القديمة بدقة عالية.
قدم الملط مع هذه الفرقة عددًا من الحفلات في مصر وبعض الدول الأوروبية والآسيوية، بهدف نشر الموسيقى المصرية القديمة في كل أنحاء العالم.
تقترب تجربة الملط، وغيرها من التجارب، من طابع الموسيقى المصرية القديمة، وتضع أمامنا تصورًا جيدًا عن شكل الموسيقى وقتها. إلا أننا للأسف لا نستطيع أن نحدد على وجه الدقة كيف كانت تبدو الموسيقى والألحان، ولا يمكن عزفها الآن. لكن الثابت أن الحضارة المصرية شهدت مدنية موسيقية هائلة شديدة الثراء، وعلى قدر عالٍ من التقدم والتحضر.