هل يمكن الكتابة عن مسرحية ما دون التطرق إلى كل ما عُرض على خشبة المسرح (النص، أداء الممثلين، الديكور، الإخراج)؟ أو بمعنى أقرب: هل يمكن الكتابة عن مسرحية من الجهة المقابلة للخشبة (الجمهور، القاعة، جامعة نورة، الرياض)؟
هذا هو السؤال الذي طرحته على الزملاء في موقع «منشور» حين تلقيت دعوتهم الكريمة للكتابة عن تجربتنا في مسرحية «الذيب في القليب»، التي قدمنا منها 40 عرضًا مكتمل العدد على مسرح جامعة نورة ضمن فعاليات موسم الرياض 2019، والذي كان بحق مهرجان الأعاجيب والمرح، رقصت فيه الرياض رقصتها الفاتنة الجريئة تحت زخات المطر بعد سنوات طويلة من القحط.
السنوات العجاف
لأنه يصعب وصف حجم التحدي الاجتماعي والثقافي الذي يمثله عرض مسرحية في الرياض، سوف أقرب الصورة بالقول إن بطل المسرحية ناصر القصبي لم يصعد خشبة المسرح منذ 30 عامًا، واكتفى بأعماله التلفزيونية الجماهيرية المؤثرة، واختار منذ أكثر من 10 سنوات الانتقال مع عائلته للعيش في دبي بسبب الهجمة الأصولية الشرسة والممنهجة على الثقافة والفنون واستهدافه الدائم من قوى الظلام.
وحبيب الحبيب أحد أبرز نجوم المسرحية علاقته بالمسرح انتهت تقريبًا منذ 15 عامًا حين كان يؤدي دور البطولة في مسرحية «وسطي بلا وسطية»، عندما اعتلت مجموعة من المتشددين خشبة المسرح وبدأوا في الاعتداء على الممثلين وأوقفوا العرض المسرحي بالقوة، في واحدة من أكثر مشاهد الإرهاب الفكري وقاحة، وهي الحادثة التي تُعرف إعلاميًا اليوم بأحداث كلية اليمامة.
النجمان راشد الشمراني وعبد الإله السناني من جيل القصبي، وتوقفا مثله عن الصعود إلى الخشبة منذ 30 عامًا، رغم أن كل واحد منهما يملك الخبرة المسرحية منذ أيام الدراسة الجامعية، ثم استزادا بالتأهيل الأكاديمي في هذا المجال، إضافة إلى الموهبة الفذة المعلومة لكل منهما، ولكنهما سلكا نفس الدرب الاضطراري الذي سلكه القصبي واكتفيا بالعمل التلفزيوني.
عبد المجيد الرهيدي فنان شاب اضطر لدراسة المسرح في مصر لاستحالة فعل ذلك في السعودية، أما ريماس منصور فقد كان من سابع المستحيلات أن تشارك في مسرحية فيها ممثلون رجال، فهذه «مجاهرة بالاختلاط»، لذلك تلخصت تجربتها المسرحية في مسرحيات نسائية، جميع الممثلات فيها من النساء وتُعرض لجمهور من النساء في مكان كل من فيه نساء بما في ذلك حارسات الأمن، ولا يكون بإمكان أي رجل الاقتراب من المسرح باستثناء أعضاء هيئة الأمر بالمعروف، الذين قد يحتاجون إلى التأكد من عدم وجود رجل يحوم حول المكان.
أما بقية الممثلين فهم القدير عبد الله المزيني الذي تجاوز الـ70 عامًا من العمر، ولا يزال يعاني من التنمر بسبب أداء دور «رقية» السيدة العجوز الظريفة في سلسلة طاش، لأن التقاليد الصارمة ترفض بشدة أن يؤدي الرجال أدوارًا تمثيلية نسائية، وهي ذاتها التقاليد الصارمة التي ترفض بشدة، وفي مرحلة ما تمنع، أن تشارك نساء سعوديات في الأعمال المسرحية أو التلفزيونية. أما علي الحميدي وعبد المحسن الشمري وزيد السويداء وهبة الحسين فلم يجدوا فرصًا فعلية للمشاركة في أعمال مسرحية من قبل.
العودة: فن مُقدّر ومجتمع مستعد
أعلم أني أطلت الحديث عن الممثلين، ولكني وجدت فيهم النافذة الصريحة لواقع وأحوال المسرح السعودي خلال ثلاثة عقود من سيطرة «حراس الفضيلة» المتشددين على كل مجالات الحياة.
كان موسم الرياض لحظة الانعتاق الاجتماعي العظيمة للسعودية، التي لم يتخيل أشد المتفائلين أنها ستأتي في حياته.
كانت ثمة تجارب مسرحية محدودة العروض والتأثير تظهر في بعض المناسبات الثقافية، حرص من خلالها بعض الفنانين على إبقاء جذوة المسرح مشتعلة حتى ولو كانت شعلتها ضئيلة جدًا، وتعايشوا مع الرياح العاتية، ولهذا السبب فإن هؤلاء بالذات غضبوا حين تحدث الممثل عبد الإله السناني عن عودة المسرح بعد غياب، فهو في نظرهم لم يغب كي يعود.
كلامهم في ظني صحيح، وكلام السناني صحيح أيضًا، فالمسرح السعودي لم يغب تمامًا، بل بقي كفعل إبداعي يقاوم الضغوط الأصولية العنيفة، وهذا بالتأكيد بفضل جهودهم، ولكنه كان غائبًا كطقس اجتماعي وثقافي له جماهيره الواسعة، وكنشاط اقتصادي له مداخيله المالية الجيدة.
وهنا يكمن حجم التحدي الذي واجهناه منذ الدقائق الأولى التي ولدت فيها فكرة المسرحية، لأن السؤال الأهم الذي استوطن الأذهان طول فترة التحضير كان: كيف سيكون الحال بعد كل هذا الغياب القسري؟
الإجابة على هذا السؤال أننا اكتشفنا أن المجتمع بأسره كان غائبًا وليس المسرح فقط، لذلك كانت طاقة الفرح التي تملأ العاصمة وأهلها، وحتى عشاقها الذين يأتون من خارجها، هائلة طوال أيام وليالي موسم الرياض. إنها لحظة الانعتاق الاجتماعي العظيمة التي لم يتخيل أشد المتفائلين أنها ستأتي في حياته، فاكتفى بالحلم أن يراها أبناؤه يومًا ما.
لا يمكنك تخيل حجم التغير الاجتماعي الهائل الذي أحدثه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في نمط حياة السعوديين، ما لم تكن تعرف الرياض قبل هذه التغيرات الهائلة، ولكن المفارقة الأكثر إدهاشًا أن المواطنين بدوا وكأنهم مستعدون جيدًا لهذا التغيير، وكأنهم ينتظرونه منذ زمن بعيد ليتعاملوا معه بأفضل صورة ممكنة، ودون منغصات، وهذا قد يفسره أن عددًا كبيرًا من السعوديين كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية الحقيقية داخل البيوت أو خارج البلاد.
بدأت المفاجآت خلال شهر البروفات مع مخرجنا الكويتي المبدع محمد راشد الحملي، فقد كانت الاستعدادات لموسم الرياض تجري على قدم وساق، وكان من بين أجمل هذه المفاجآت إطلاق الطاقة الكامنة في نفوس الشباب من الجنسين، وهذه واحدة من أهم سمات السعودية الجديدة، فقد كانت الإدارات الحكومية في السابق يقودها مسؤولون كبار السن يساعدهم موظفون في مثل عمرهم، وجميعهم من الرجال بالطبع، ولم يكن ثمة صوت يعلو على صوت البيروقراطية والتعليمات والتعاميم، ولكننا وجدنا أنفسنا نتعامل مع نمط مختلف من المسؤولين والموظفين، جميعهم من الشباب المؤهل في أفضل جامعات العالم، ولم يكونوا يطلبون الكثير من الأوراق أو يشترطون الذهاب لمكاتبهم، بل ينزلون إلى الميدان وينهون أي مشكلة بسرعة البرق.
ضجت الفنادق التي كان فريق العمل يؤدي فيها بروفات الطاولة أو الاجتماعات لمتابعة التحضيرات بفنانين وفنانات من مختلف الجنسيات، جاؤوا مثلنا للمشاركة في فعاليات موسم الرياض، الذي اعتبرته الإدارة الحكومية ممثلة في رئيس هيئة الترفيه تركي آل شيخ تحديًا أساسيًا بالنسبة لها، ووضعت إمكانيات مالية كبيرة لإنجاحه.
كنت أتأمل كل هذا العدد من الفنانين والفنانات العرب والأجانب، وأتذكر أني قبل عقد من الزمان كنت أتلقى يوميًا خطابات احتجاج وشكاوي للجهات الرسمية من بعض المتشددين بسبب نشر الجريدة التي أعمل رئيسًا لتحريرها صورًا لهؤلاء الفنانين والفنانات، وكانت الشكاوي لا تفوت أي صورة لأي مطربة أو ممثلة، إلى درجة أنني أيقنت بأن هؤلاء المتشددين يتابعون الصفحة الفنية أكثر من القراء.
ورُفعت الستارة في نجد العذية
جاءت الساعة التي كنا نتخوف منها كثيرًا، وامتلأت القاعة بالحضور من العائلات والشباب والشابات، وعلمنا أن التذاكر في كل العروض قاربت على النفاد قبل أن تبدأ أولى عروض المسرحية، وهذه أخبار مفرحة ومربكة في الوقت ذاته.
رُفعت الستارة، وبدأ الجمهور في التفاعل الجميل مع المسرحية، حتى صعد ناصر القصبي إلى خشبة المسرح بعد غياب طويل. لقد كانت لحظة تاريخية بالفعل، هذا التصفيق المدوي لفنانهم الأول، الذي حاصرته لسنوات فتاوى التكفير والتهديد بالقتل والتشهير على منابر المساجد، كان تصويتًا جماعيًا على حبهم له وإيمانهم بفنه وتضامنهم مع رسائله الحراقة الشجاعة والمضحكة، والتي جاهر بها في أصعب الظروف.
في تلك الدقائق من التصفيق الحار والذي كان يتكرر بالحماسة ذاتها كل ليلة، كان الجمهور يقول للقصبي إنه معه في مدينته التي يعشقها والتي خرج منها بسبب ضغوط الكراهية، التي سرعان ما ذابت في بحر الحب الذي يدخره له جمهوره العريض.
كان جمهورًا ذكيًا للغاية، أثار انتباه حتى الضيوف الذين جاؤوا من خارج المملكة، فقد كان تفاعله مثاليًا، والتصفيق أو الضحك في اللحظة المناسبة دون مقاطعة للعرض بعبارات الاستحسان والاستهجان التي تشتت المتابعة.
وكان من المثير حقًا أن تجد مجموعات شبابية رجالية تجلس بالقرب من مجموعات شبابية نسائية دون أن يضايق أي طرف الآخر، ما يفكك الأكذوبة التاريخية التي كان يتشدق بها أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأنهم لو خرجوا من المشهد لحدثت الاعتداءات الأخلاقية في كل مكان. أيامها كنا حائرين حقًا: هل نحتفل بالنجاح الجماهيري الكاسح للمسرحية، أم نحتفل بهذا المجتمع الذي أثبت للجميع أنه أكثر نبلًا ورقيًا من أي وصاية؟
ثمة قسم بسيط من الجمهور اعترض على تغليفنا أجهزة الجوال منعًا للتصوير، وكان استمرار محاولاتهم لتمزيق الأغلفة التي تمكنهم من الاتصال فقط خير شاهد على الحالة العجيبة لبعض الجماهير المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي، والذين لديهم رغبة جامحة في التعليق على كل جملة في المسرحية من خلال تويتر أو سناب شات. وهذا السلوك الذي سبق ولاحظناه في الأعمال التلفزيونية يحول مشاهدة الأعمال الفنية إلى ما يشبه متابعة مباريات كرة القدم، حين تعلق الجماهير على كل لقطة لحظة حدوثها، وهو ما أظنه لا يليق بالعمل الفني، الذي يحتاج نظرة شاملة وهادئة كي يمكن الاستمتاع به.
أما جامعة الأميرة نورة التي قدمنا العروض على مسرحها الجميل ذي التجهيزات الرائعة، فقد وجدتْ في هذا المسرح الذي كان مخصصًا لحفلات التخرج وما يماثلها من المناسبات نافذة استثمارية جيدة تدر عليها مبالغًا مجزية، وهذا يكشف أن المسرح صناعة مهمة يمكن أن تفيض أرباحها لجهات مختلفة ومتعددة.
هل نجحتُ حقًا في الحديث عن الظروف التي أحاطت بالمسرحية دون أن أتطرق إلى المسرحية من نواحيها الفنية؟ أتمنى ذلك، فالشهادة الفنية في عمل أنت جزء منه ليست فقط مجروحة، بل مذبوحة في مسلخ الموضوعية.