كان يا ما كان: الجذور الأولى لألف ليلة وليلة

جاسم كلمد
نشر في 2019/07/30

في القرن الثالث للهجرة، وقف الجهشياري في سوق الورَّاقين ببغداد وأخذ يتصفح الأوراق من بين آلاف الكتب المتاحة، باحثًا عن أخبار وتواريخ قد تنفع لإتمام كتابه «الوزراء والكُتاب». 

كان من بين تلك الأوراق كتاب بالفارسية سيجذب انتباهه، يُدعى «هزار أفسان». ليس بين أيدينا ما يثبت أنه قد طلب أن يُنسخ الكتاب له على أيدي النساخين في ذلك الوقت، ولا نعلم أيضًا إن كان الجهشياري اشترى النسخة الفارسية التي رآها في سوق الوراقين أو إن كان قد اقتناها لنفسه. لكننا نعلم بأن «هزار أفسان» أو «هزار أفسانه»، ويعني «ألف خرافة» بالفارسية، هو النسخة الفارسية المفقودة التي ستلهم ولادة كتاب يدعى «ألف ليلة وليلة».

عاصر محمد بن عبدوس الجهشياري فترة خلافة المقتدر بالله (259-230 هـ/908-932 م). وعمل لدى علي بن عيسى وزير المقتدر، وهو منصب قد ورثه عن أبيه. 

تعد فترة خلافة المقتدر العصر الذهبي لكتب الأخبار والأسمار، إذ كثر الطلب على تجميعها وتصنيفها من قبل الوجهاء والوزراء ومن الخليفة نفسه، مما مهد أرضًا خصبة للجهشياري، الذي كان بدوره كاتبًا ومؤرخًا، فصنف كتابه «الوزراء والكُتاب»، وصنف كتابًا آخر جمع فيه أخبار الخليفة المقتدر. 

في النسخة التي رآها ابن النديم نجد أن شهرزاد ابنة أحد الملوك وليس وزيره، وأختها في هذه النسخة تدعى دينارزاد، وتعمل قهرمانة (رئيسة الجواري) لدى الملك.

كانت أسواق الورَّاقين ببغداد في ذلك العهد ممتلئة بالكتب من كل حدب وصوب ومن مختلف الثقافات، وكان الجهشياري شأنه شأن كل كُتاب عصره يدفعه الشغف للبحث عن كل جديد وغريب في أسواق الوراقين، ويحثه طلب العلم على الاطلاع على تطورات الطب والهندسة وأخبار الأمم السابقة والحكمة والشِّعر. فعثر الجهشياري خلال إحدى زياراته لسوق الوراقين على كتاب «ألف خرافة» بالأصل الفارسي. 

يحكي هذا الكتاب قالب الحكاية ذاتها التي سنجدها في «ألف ليلة وليلة» كما تُعرف اليوم بيننا، لكن مع اختلافات طفيفة. يلخص ابن النديم، المتوفى عام 385هـ/995م، في كتاب «الفهرست»، حكاية هزار أفسان بقوله إن «ملكًا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة، قتلها من الغد. فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية، يُقال لها شهرزاد، تسامره كل ليلة وتقطع حديثها عند انقضاء الليل، كي يستبقيها الملك إلى الليلة التالية فتتم حديثها». 

في هذه النسخة التي رآها ابن النديم نجد أن شهرزاد ابنة أحد الملوك وليس وزيره، وأختها في هذه النسخة تدعى دينارزاد، وتعمل قهرمانة (رئيسة الجواري) لدى الملك. بينما يتكلم المسعودي، المتوفى عام 334هـ/945م، في كتابه «مروج الذهب»، عن شهرزاد ودينازاد جاريتها. وفي نسخة متأخرة من «ألف ليلة وليلة»، سيصبح اسمها دنيازاد وستكون أختًا لشهرزاد.

«الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة»

أثارت نسخة «هزار أفسان» اهتمام الجهشياري بعد عثوره عليها، فقرر العمل على كتاب له النسق ذاته، اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم. وجمع المسامرين والقصاصين الموجودين في عصره من الأسواق والمساجد، وأخذ أفضل القصص من كل واحد منهم. فأتم بذلك أربعمئة وثمانين حكاية، كل حكاية منها تُحكى في ليلة واحدة تامة. 

لم يكن الجهشياري ليعجز عن إيجاد ألف حكاية، بل لو شاء لوجد ضعف ذلك، لكنه لم يستطع جمع ألف حكاية لأن المنية عاجلته عام 331هـ/943م. يقول ابن النديم إنه رأى هذه المجموعة بنفسه بخط أحد النساخين وتصفحها. لكن كتاب الجهشياري وكتاب «هزار أفسان» أيضًا من الكتب المفقودة اليوم. 

في عام 1933، عثر المستشرق الألماني «هلموت ريتر» على مخطوطة لمؤلف مجهول في مكتبة بإسطنبول. تحتوي المخطوطة على قرابة 18 حكاية، والبقية مفقود. كل حكاية منها تتم في ليلة واحدة، وعنوان المخطوطة، الذي يجعلنا نتحسر على ما فقدناه منها، هو: «الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة». 

الحكايات التي جمعها الجهشياري من القصاصين كانت البذرة الأولى التي سيأخذ منها النُّساخ والمؤلفون المجهولون، ويضيفون المزيد من القصص إليها، فيتم عددها ألفًا وليلة.

قدّم ريتر المخطوطة في مؤتمر أُعد خصيصًا لذلك، لكن المخطوطة لم تقدم أجوبة بقدر ما أثارت مزيدًا من الأسئلة. فطرح الناقد العربي صلاح الدين المنجد فكرة أن «الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة» قد تكون هي ذاتها الكتاب الذي جمعه الجهشياري، لكنه لم يقدم أي دليل على ذلك. ولاحقًا، نفذ المتخصصون والباحثون تدقيقًا تامًا على المخطوطة، وتفحصوا خط النُّساخ وأسلوب الإنشاء، فوجدوا أنها ربما تعود إلى القرن السادس عشر من الميلاد، أي بعد الجهشياري بستمئة عام تقريبًا. 

ربما، والعلم عند الله، أن الحكايات التي أخذ الجهشياري يجمعها بنفسه من القصاصين والمسامرين كانت البذرة الأولى التي سيأخذ منها النُّساخ والمؤلفون المجهولون، ويضيفون المزيد من القصص إليها، فيتم عددها ألفًا وليلة. 

لكن من المؤسف أننا اليوم لا نستطيع الاطلاع على ما جمعه الجهشياري، ولا نعرف أيًا من الحكايات اختار وأيها تجاهل في مصنفه، ولا يمكننا أيضًا معرفة ما كان موجودًا في كتاب «هزار أفسان». وإلا لكنا اليوم نقرأ ثلاثة كتب مختلفة لألف ليلة وليلة : الأول بأصله الفارسي وعنوانه «ألف خرافة»، والثاني كتاب «ألف ليلة وليلة» المنتشر بيننا اليوم والذي لا نعرف من جمعه وصنفه، والأخير حين ننظر إلى غلافه ونتفحص العنوان برويَّة سنقرأ بفخر: «ألف ليلة للجهشياري».

مواضيع مشابهة