في عام 2000 أو 2001 (لا أتذكر تحديدًا)، رافقتُ عائلتي إلى معرض الكتاب في الكويت، وبين أجنحة دور النشر أشارت أمي إلى رجل يسير بخطوات ثقيلة وغترة منسدلة على الكتفين، حاملًا بيده مشترياته من الكتب، قائلة: «إنه أحمد البغدادي، المسكين تسببوا في سجنه بسبب مقال». وبعد مرور سنوات، وتحديدا في أواخر 2009، انتقلت للعمل في المستشفى اﻷميري، وصادفت الدكتور البغدادي في مبنى العيادات الخارجية وقد بدا عليه التعب الشديد، حييته وتمنيت له الشفاء، وشكرني بلطف كبير.
بين هذين اللقاءين، تسنت لي مشاهدة لقاءات البغدادي وحواراته على التلفزيون، وقرأت له وعنه، وتحديدًا عموده الصحفي «أوتاد» على صفحات جريدة «السياسة»، واقتنيت كتابه «تجديد الفكر الديني: دعوة لاستخدام العقل» من خارج الكويت بسبب منعه داخلها، وبدا لي مطلبه واضحًا: الدعوة إلى استخدام العقل «بما يتناسب ومتطلبات العصر الراهن دون تشنج واستكبار».
هذا المطلب جعل البغدادي يسير على حقل من اﻷوتاد، كالتحريض، والتكفير، ورفع القضايا في المحاكم، ناهيك باﻷوتاد التي عناها عبد الرحمن الكواكبي في تصدير كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» بقوله: «وهي كلمة حق وصرخة في وادٍ، إن ذهبت اليوم مع الريح، قد تذهب غدًا باﻷوتاد»، ومن هذا الاقتباس استوحى البغدادي اسم عموده الصحفي.
ولد أحمد مبارك علي البغدادي في اﻷول من يناير عام 1951 في الحي الشرقي بالكويت، ﻷب يعمل تاجرًا للملابس والكماليات، وكان يملك محلًا في سوق واجف الشهير.
انتسب البغدادي إلى جامعة الكويت، ونال بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من كلية العلوم الاجتماعية عام 1974، وعمل بُعيد تخرجه في وزارة اﻹعلام، بيد أن العمل الحكومي لم يرق له، وصارح أساتذته في الجامعة بذلك، فاقترح عليه أحدهم التقدم إلى خطة بعثات الجامعة للدراسات العليا، وهي فكرة لم ترق للأسرة حسبما علم زياد البغدادي من والده، خاصة اﻷب مبارك، الذي رأى أن اﻷفضل لابنه التمسك بوظيفته الحكومية.
إلا أن أحمد البغدادي تمسك بفكرة الاستقالة من الوظيفة الحكومية واستكمال تعليمه خارج الكويت، وهي فكرة لم تخلُ من المخاوف، خاصة أنه لم يسافر في حياته أبعد من لبنان، بالإضافة إلى هاجس عدم الإلمام باللغة الإنجليزية الذي لازمه أوائل أيامه في ولاية ماساتشوستس اﻷميركية، حيث حاز الماجستير في الفكر الغربي من جامعة كلارك اﻷميركية عام 1977.
وفي عام 1981، حاز البغدادي درجة دكتوراه الفلسفة في الفكر اﻹسلامي من جامعة إدنبره في المملكة المتحدة، وكان عنوان رسالته «الفكر السياسي لأبي الحسن الماوردي». وفسر في رسالته أن الماوردي في «كتاب اﻷحكام السلطانية» كان صاحب نظرة فلسفية أكثر منها دينية إزاء اﻹنسان والطبيعة والحكم، وأن نظرياته في الحكم يمكن وصفها وفق المنظور اﻹسلامي بأنها تقوم على العقل لا النقل.
يذكر البغدادي في إحدى مقالات كتاب «تجديد الفكر الديني: دعوة لاستخدام العقل» أن «اﻷحكام السلطانية لم تكن محل اهتمام الفقهاء، حتى ظهر أول كتاب في اﻷحكام الشرعية للماوردي عام 450 من الهجرة»، مضيفًا: «فإذا علمنا أن الماوردي كان يعمل لدى الخليفة العباسي القادر بالله، فإنه يمكننا الاستنتاج بكل يسر أن ما كتب حول جواز ولاية العهد لثلاثة ليس إلا لأسباب سياسية وليست شرعية» مختتمًا بأن «ما فعله الماوردي هو إخضاع الدين لمتطلبات السياسة، ولم يعترض عليه أحد ممن جاء بعده».
كان لغزو الكويت أثر كبير على البغدادي، إذ رأى أن فكرة الروابط على أساس القومية العربية قد هُدمت باحتلال بلد عربي لبلد عربي آخر.
عاد البغدادي إلى الكويت بعد تخرجه من بريطانيا، وانتسب إلى قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت، واتخذ منذ اليوم اﻷول، بصفته عضوًا في هيئة التدريس، سياسة الفصل بين آرائه الشخصية وعمله اﻷكاديمي في الفصل الدراسي. كتب فلاح المديرس في صحيفة «القبس» أغسطس 2010، وهو الذي زامل البغدادي منذ 1987، أن الراحل عُرف عنه التمسك باللوائح وتطبيقها، والالتزام بأوقات المحاضرات.
أما على صعيد الكتابة والترجمة، فقد أتاح الراحل رسالة الدكتوراه الخاصة به للقراء عبر تعريبها ونشرها عام 1984، ونشر كتاب «دراسات في السياسة الشرعية عند فقهاء أهل السنة» عام 1987، وترجم كتاب «ابن تيمية وفكره السياسي» عام 1985، وترجم كذلك رسالة دكتوراه ﻷرسن موسى رشيد بعنوان «الشرطة في العصر اﻷموي» عام 1990، وحقق كتاب «اﻷحكام السلطانية والولايات الدينية» ﻷبي الحسن الماوردي عام 1989، والتزم بكتابة المقال الصحفي مع مجلة المجتمع الكويتية.
اعتقد البغدادي، بعد عودته من إدنبره، أن بإمكان الصحوة الدينية النهوض بالمجتمعات العربية والمسلمة، وأبدى اهتمامه بفكر «حزب التحرير» الإسلامي. ولكن جاء عام 1990 ومعه احتلال الكويت، فأخرج أسرته الصغيرة من الكويت إلى السعودية ومنها لسلطنة عمان حيث اجتمع بهم لاحقًا. وكان للغزو أثر كبير عليه، وخصوصًا من الناحية الفكرية، إذ رأى أن فكرة الروابط على أساس القومية العربية قد هُدمت باحتلال بلد عربي لبلد عربي آخر.
أما المسألة اﻷخرى التي شكلت أساسًا لمعظم نتاجه الفكري والنقدي فكانت مواقف الحركات الدينية من احتلال الكويت، وتيار اﻹخوان المسلمين بوجه خاص، فكان أن ترجم كتاب «الحركات اﻷصولية اﻹسلامية وأزمة الخليج» لـ«جيمس بيسكاتوري» عام 1992، والذي تناول هذا الموضوع، وكتب العديد من المقالات بشأنه في صحيفتي «الطليعة» و«اﻷنباء».
اتسمت سنوات التسعينيات في الوطن العربي بالعنف، وخاصة من حركات اﻹسلام السياسي ومؤيديها، وطال العنف اﻷرواح، كحادث اغتيال فرج فودة، ونجاة نجيب محفوظ من محاولة أخرى. أما في الكويت، فقد تصاعدت أصوات التكفير والتخوين لمناهضي حركات اﻹسلام السياسي، ومن يُعتبرون مخالفين للآداب اﻹسلامية، ورُفعت العديد من الدعاوى القضائية ضد اﻷدباء والناشرين، ومنهم عالية شعيب وليلى العثمان ويحيى الربيعان، وصدرت أحكام بتغريمهم.
أما البغدادي فقد حوكم عام 1999 إثر لقاء معه نشرته مجلة «الشعلة» الصادرة عن قائمة الوسط الديمقراطي في كلية التجارة بجامعة الكويت يوم 25 يوليو 1996، قال فيه: «لقد فشل النبي (صلى الله عليه وسلم) في فرض اﻹسلام على المجتمع المكي مدة ثلاثة عشر عامًا، إلى حين دخل اﻷسلام قلوب اﻷنصار من أهل يثرب. أليس في اﻷمر إلهام عبرة؟ لم تكن في المدينة جماعات التأسلم السياسي، ولم يكن هناك إخوان ولا سلف ولا حزب تحرير ولا جماعة تبليغ. كل ما هناك إسلام بسيط نقي خالص يدخل القلوب بالكلمة الطيبة».
كانت كلمة «فشل» هي ما دفع بعض الأفراد إلى مقاضاة البغدادي، رغم توضيحه أنها تختلف عن كلمة «فاشل». وحقق معه رئيس النيابة في حينها حسين الحريتي، الذي صار وزيرًا للعدل لاحقًا، وصدر الحكم في 4 أكتوبر 1999 بسجنه لمدة شهر بتهمة الطعن في الثوابت اﻹسلامية.
في داخل السجن، باشر البغدادي الإضراب عن الطعام مما تسبب في دخوله المستشفى في اليوم الرابع من سجنه إثر عدم انتظام نبضات القلب.
يذكر الكاتب عبد الله المدني في مقال له أن المحامي عبد الكريم جاسم حيدر، الذي وكله البغدادي، اقترح عليه أن يدخل المستشفى ﻹجراء عملية جراحية في القلب، لكنه رفض الاقتراح، وأكد تأجيل العملية إلى ما بعد تنفيذ الحكم، كي لا يقال إنه تهرب من الحكم بحجة المرض.
يسترجع زياد البغدادي في حديثه لـ«منشور» ذكريات اليوم التالي للنطق بالحكم، ومشهد وقوف أربع سيارات مدنية تابعة للمباحث عصرًا أمام باب المنزل في منطقة خيطان، وكان والده يقضي قيلولته، ثم نهض ورافقهم. ويشير إلى المضايقات التي طالته من المعلمين في مدرسته، واستفزازه بترديد اسم سجن طلحة حيث نفذ والده الحكم، والحالة المعنوية السيئة ﻷشقائه ومنهم عبد الوهاب، الذي تأثرت دراسته الجامعية في أمريكا سلبًا إثر الحكم، الذي جعل من أحمد البغدادي أول سجين رأي في الكويت.
في داخل السجن، باشر البغدادي الإضراب عن الطعام مما تسبب في دخوله المستشفى في اليوم الرابع من سجنه إثر عدم انتظام نبضات القلب. وخاطبت المنظمات الحقوقية واﻷكاديمية العالمية حكومة الكويت للإفراج عن البغدادي. ويذكر عبد الله المدني أن تجمعًا تضامنيًا عُقد في جمعية أعضاء هيئة التدريس بجامعة الكويت، واحتج الدكتور سيف عباس رمزيًا بتوثيق يديه ورجليه، وتحركت إحدى الشخصيات النافذة سرًا لمخاطبة أمير البلاد آنذاك الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح ﻹصدار عفو عن البغدادي، وكان لتلك الشخصية النافذة علاقة صداقة عميقة بوالد زوجة البغدادي النوخذة محمد المسكتي، وصدر العفو عن البغدادي بعد أن قضى 14 يومًا في عنبر رقم 3 بسجن طلحة.
خرج البغدادي من السجن متفكرًا في قضيتين: الدفاع عن حرية التعبير، وهي القضية التي تطرق إليها في العديد من مقالاته لاحقًا بصحيفة «السياسة»، وقضية المَدينين الذين يُسجنون بسبب شيكات دون رصيد أو ديون تراكمت عليهم وعجزوا عن سدادها. وخاطب صديقه اﻹعلامي محمد ناصر السنعوسي، الذي كان يقدم آنذاك برنامجًا حواريًا على القناة الأولى لتلفزيون دولة الكويت، ودعاه إلى تخصيص حلقة عن قضية المدينين، وسُجلت الحلقة في سجن طلحة، ولاقت صدى واسعًا من الجمهور. يتذكر زياد مقولة عمته لوالده بأن «الله أدخلك السجن ﻹخراج هؤلاء المساكين منه».
استمر البغدادي في كتابة مقالاته، والتفاعل مع المجتمع المدني بتأسيسه مركز «تنوير» للثقافة مع مجموعة من اﻷفراد، منهم فاخر السلطان وطالب المولي، واشترط عليهم قبل وضع اسمه مع المؤسسين أن يكون المركز للنقاشات الفكرية والثقافية بأسلوب علمي وأكاديمي دون خوض في السياسة.
وفي عام 2005، عاد اسم أحمد البغدادي إلى سجلات القضاء والمحاكم إثر مقال نشره في صحيفة «السياسة» بتاريخ 5 يونيو 2004 بعنوان «أما لهذا التخلف من نهاية؟»، شكى فيه من تدخل وزارة التربية في المناهج الدراسية للمدارس الخاصة، وتقليص حصص الرسم والموسيقى لصالح المقررات الدينية. وعبر في المقال عن أنه من حقه بصفته ولي أمر يدفع رسومًا لتعليم أبنائه في مدرسة خاصة، ألا تتدخل وزارة التربية بفرض منهاجها الحكومي على تلك المدارس. أدين البغدادي في مارس 2005 بمحكمة الاستئناف، التي حكمت عليه بالسجن لمدة سنة مع وقف التنفيذ لثلاث سنوات لقاء كفالة قدرها ألفي دينار كويتي، ما جعله يصرح برغبته في طلب اللجوء خارج الكويت احتجاجًا على الحكم، لكنه لم ينفذ رغبته.
اشتد المرض على البغدادي في عام 2009، وأصبح طريح الفراش، وراجع عيادات المستشفى اﻷميري، ثم نُقل إلى لندن وتحديدًا مستشفى «لندن بريدج» في يناير 2010، ورافقه زياد الذي ازداد قربًا من والده وعرف الكثير عنه وعن حياته.
من المواقف التي يتذكرها زياد تطفل مرافقي المرضى من الكويتيين في المستشفى وإلقاء النظر على والده، وأحدهم كان معلمًا في وزارة التربية ومرافق لوالدته المريضة، وتحدث إلى زياد مبديًا استغرابه من سماع صوت المنشاوي يتردد في غرفة البغدادي الذي يحب سماع القرآن بصوته، وسأل زياد قائلًا: «ليش يقولون عنه كافر؟».
في المستشفى، نشر البغدادي آخر مقالاته في جريدة «السياسة»، وفيه خاطب زوجته كاتبًا: «لقد كنتِ نِعم الزوجة الصالحة واﻷم الحافظة لبيتك، شكرًا على سنوات العمر الجميلة التي قضيتها معك بحكمتك ورجاحة عقلك». أما أبناؤه فأوصاهم: «ابقوا متحابين ومتعاضدين في وجه الدنيا. لا تلجأوا إلى مخفر أو نيابة أو قضاء لحل مشكلاتكم. ليحترم الصغير فيكم الكبير، وليعطف الكبير على الصغير. الله الله في أمكم، ترى الجنة تحت أقدامها، رضا الله عليكم من رضاها وغضبه من غضبها». وأوصاهم أخيرًا بتقسيم الميراث بينهم بالتساوي بعد سداد حقوق الغير.
يذكر زياد أن والده لم يكن ينوي إرسال الوصية إلى الجريدة، لكن ما حدث أنه أرفق الوصية بالخطأ بدلًا من المقال المراد نشره على البريد اﻹلكتروني وهو على سرير المرض في لندن، ويشير إلى أن والده أبدى غضبه مما حصل، وأبلغ صحيفة «السياسة» بأنه سيتوقف عن كتابة المقالات. وبعد أن هدأ، قال البغدادي لعل في اﻷمر خيرًا، إذ سيشهد العالم كله على الوصية.
أخبرت إدارة المستشفى أحمد البغدادي بعدم جدوى متابعة العلاج، فعاد إلى الكويت، ومنها إلى أبو ظبي حيث توفي في مستشفى الشيخ خليفة في 8 أغسطس 2010، وبذلك خسر أنصار حرية التعبير صوتًا كانوا في أمس الحاجة إليه في السنوات اللاحقة لوفاته، مع تزايد أحكام السجن والغرامة في المحاكم الكويتية.