لا أظن أن الإنجليزي «ويليام فريز غرين» تصور حين حاز براءة الاختراع في تعدد اللقطات والصور عام 1889، والتي صارت حجر الأساس لصناعة الافلام والسينما اليوم، أنها ستكون جزءًا من حياتنا اليومية ومصدرًا للترفيه الأساسي لدى أغلب مجتمعات في هذا الوقت.
إضافة إلى ذلك، صارت السينما إحدى أهم الأدوات الأيديولوجية الحديثة أكثر من أي وقت آخر. ففي مطلع القرن الماضي كانت دور العرض واحدة من المصادر الرئيسية لنقل الأخبار والأحداث تحت مسمى «النيوز ريل» (NewsReel)، والتي بدأت كأفلام وثائقية قصيرة عن الأحداث العامة في العالم في شتى المواضيع.
إلا أن السينما أصبحت جزءًا أكبر من حياة الفرد اليوم أكثر من أي وقت مضى. ويرجع ذلك إلى انتشارها بشكل كبير حول العالم وتطور المحتوى الترفيهي في نواحٍ تقنية عديدة، مثل تقنية المؤثرات البصرية (CGI) وتضخم ميزانية الإنتاج بشكل عام. كل هذه مؤشرات تدل على التوسع الاقتصادي في صناعة الأفلام والسينما، إلا أنه مع هذا النجاح الاقتصادي أتى أيضًا تغيير على المستوى الأكاديمي للمحتوى. نستطيع القول بأن المستوى الفني للأفلام في النص، والقصة، والتمثيل وغيرها، صار تجاريًا وسطحيًا في معظم أفلام الوقت الحالي.
هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى ذلك، لكننا سنلقي الضوء على أحد هذه العوامل التي حولت السينما من ساحة فنية بصرية وصوتية إلى أكبر مساحة للتسويق في العالم.
إيطاليا.. حيث البداية
في عام 1960، أطلق المخرج الإيطالي الكبير «فيديريكو فيلليني» فيلمه الشهير «La Dolce Vita» من بطولة صديقه المفضل «مارسيلو ماستروياني».
تدور أحداث الفيلم حول حياة فيلليني نفسه، الذي عانى من الشهرة في مجتمع سطحي، وعن آرائه الخاصة بشأن تدهور معنويات المجتمع الإيطالي والتغييرات السريعة التي لحقت به. نجد القصة تعرض أسبوعًا من حياة صحفي يعمل في المجلات الشعبية، ويتنقل من حفل إلى آخر في رحلة للبحث عن المعنى دون جدوى.
إلا أن جانبًا واحدًا من الفيلم هو موضع حديثنا هنا، ألا وهو النظارات الشمسية التي ارتداها ماستروياني في مشاهد الفيلم. تلك كانت أول تقديم للنظارة كعنصر أنيق يمكن استخدامه في المناسبات الداخلية الاجتماعية كطريقة لتجاهل الآخرين بشكل غير مباشر، كما حدث في الفيلم. وهكذا تسببت أناقة الممثل وجمالية إخراج فيلليني وتصويره في زيادة مبيعات قياسية للشركة المنتجة «Persol» آنذاك.
من هنا نستطيع القول بأن هوليوود اكتشفت منجم ذهب جديدًا: الإعلان عن طريق استعمال ظاهرة التعرض المجرد.
يخصص الاستوديو فريقًا للدعاية والتسويق لمراقبة عملية التصوير والإنتاج في أغلب الأفلام، مما يعرقل أداء المخرج الإبداعي في العمل بشكل كبير.
يتمحور هذا الأسلوب حول نظرية «روبرت زاجونك»، التي تنص على أن الفرد «يكوّن قرارًا مبدئيًا في لحظة رؤيته لشيء مألوف، سواء بشكل مباشر أو مبطن». مثال على ذلك: في حال تعرض المستهلك لإعلان في الشارع لمطعم برغر، يكوّن عقله في لحظتها قرارًا أو عاطفة مسبقة للبرغر، حتى قبل أن هو يدرك ذلك، ولهذا تنتشر اللوحات الإعلانية بشكل كبير عبر دول العالم. نفس المبدأ يطبَّق في صناعة المحتوى اليوم، سواء في الأفلام أو المسلسلات، وهذا يعني انتصارًا آخر للعالم الرأسمالي، ووهمًا جديدًا للمستهلك المادي.
من هنا بدأت الإعلانات المبطنة والمباشرة تظهر شيئًا فشيئًا في الأفلام الغربية، مما أدى إلى زيادة التدخل التجاري في إنتاج المحتوى الفني بصورة أكبر مع الوقت. البعض زجها بشكل متقن مثل ما شاهدناه في سلسلة أفلام «جيمس بوند»، التي تقدم/تعلن عن آخر إصدارات ساعات أوميغا أو أحدث موديل سيارة أستون مارتن بشكل فاخر، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من شخصية العميل السري الشهير.
لكن آخرين قدّموا الجانب الدعائي التجاري على مستوى المحتوى الفني، ولهذا نرى العديد من الأفلام الكبيرة اليوم تتعرض لكثير من التدخلات من جانب الاستوديو، الذي تطغى كلمته الأخيرة على المخرج. الآن تغيرت طريقة عمل الأفلام عن السابق، فالمخرج لا يتحكم في آلية الإنتاج والقرار مثلما تعودنا عليه في السابق. نجد اليوم أن الاستوديو يخصص فريقًا للدعاية والتسويق لمراقبة عملية التصوير والإنتاج في أغلب الأفلام، مما يعرقل أداء المخرج الإبداعي في العمل بشكل كبير.
نظارات فيلليني والدعاية
قبل ظهور فيلليني، كانت صناعة النظارات في أنحاء العالم تستخدم عارضي الأزياء بتعبيرات وجه سعيدة ومرتاحة للترويج لمنتجاتها، كما نرى في الصور بالأعلى.
لكن اليوم أصبح الجميع يسوقون للنظارات بنفس الطريقة التي عرضها فيلليني في ستينيات القرن الماضي. فمظهر الشخص ذي التعبيرات الباردة غير المكترث بالعالم والمجتمع من حوله أدى إلى تثبيت ماستروياني كأيقونة للرجل الراقي الجديد، أو ما يسمى في الغرب «Cool Cat» (شخص أنيق وعصري)، مما جعل أسهمه ترتفع بين الرجال والنساء في أوروبا والعالم. وبهذا أصبح جزءًا من أيقونات التمثيل الرجولي الأنيق في عصر الستينيات، مع أمثال «ستيف ماكوين» و«آلان ديلون» وغيرهما، ومحط أنظار صناعة الأزياء والإعلان على حد سواء.
من النظارة إلى الدعاية: بداية زمن صناعة أفلام الفشار
وجود الدعم المادي مهم جدًا لرعاية الفكرة الفنية وإيصالها من خيال الفنان إلى واقع المشاهد «المستهلك». إلا أنه في العقود الأخيرة أصبح التركيز الأعظم ينصب على صناعة فيلم مربح دون الاهتمام بأي جانب فني، مما يعرقل العملية الإبداعية للفيلم ويجعل الاستوديو يفرض قيودًا على المخرج، بل ويتدخل في عملية التصوير والإنتاج.
يصل الأمر أحيانًا إلى استبدال المخرج في منتصف العملية، مثلما حدث مع فيلم «Justice League» عام 2017 الذي كلف إنتاجه 300 مليون دولار، حين وقعت العديد من المشاكل بين الاستوديو والمخرج «زاك سنايدر»، تسببت في طرده والتعاقد مع «جوس ويدن» لاستكمال الإخراج. وكما خمنتم، كانت النتيجة النهائية للفيلم سيئة للغاية.
وفي حادثة أخرى من سلسلة تدخُّل الاستوديوهات في عملية إنتاج الفيلم، نجد بأن عناد المخرج التاريخي «فرانسيس فورد كوبولا» وعدم اكتراثه بملاحظات ومطالبات الاستوديو بتخفيض الإنفاق وتقليل مدة الفيلم وإضافة تغييرات تقنية وفنية خلال فترة تصوير «Apocalypse Now»، أدت إلى تقديم فيلم تاريخي متكامل في العديد من العناصر، رغم تكلفته والمشاكل التي نشبت بين الاستوديو والمخرج. إلا أن النتيجة النهائية كانت عملًا مبهرًا، وإنتاجًا يعده العديد من النقاد أحد أفضل الأفلام على الإطلاق.
شخصيًا أقسم الأفلام إلى أفلام «حقيقية» وأخرى أحب أن أطلق عليها لقب «النفيش» أو «الفشار»، وذلك لأنها تكون سطحية وتجارية جدًا من حيث المستوى الفني، فتتجلى فيها رداءة مستوى النصوص، أو مستوى أداء الممثلين الذي يتسم بالسطحية وخلوه من التعبير المتقن وعرض العواطف، مثل أداء الممثل الأمريكي الشهير «جون ترافولتا» في فيلم «The Fanatic »، والذي حاز جائزة أسوأ ممثل بجدارة لعام 2020.
لهذا عندما نستثمر في الجانب الفني بشكل كبير ونوازيه مع الرغبة في إيصال فكرة أو رسالة مع الطموح والنجاح المادي، سنجد تجارب مخلدة في صناعة الأفلام المرموقة مثل «The Seventh Seal» عام 1957، و«The Godfather» عام 1972، و«Gone with the Wind» عام 1939، و«Apocalypse Now» عام 1979.
العديد من الاستديوهات الكبيرة أصبحت تستثمر في النصوص الإبداعية في محاولة لتقديم شيء جديد للمشاهد، مثل نجاح فيلم «Joker».
أما أفلام «النفيش» وما هو على شاكلتها فأمثلتها عندي كسلسلة أفلام «Fast & Furious» و«Transformers»، والتي تمثل طابع الإنتاج العام الحالي. هذه الأفلام تفتقر إلى المحتوى أو الهدف، أو حتى الفكرة الأصيلة. ويمكن أن توصف بأنها أعمال تسودها نصوص دون هدف، وتحكيها شخصيات بلاستيكية يؤديها ممثلون غير متقنين لأدوارهم، ويقودها مخرج لديه «تعليمات لتنفيذ مشروع» بأسرع وقت وأقل تكلفة ممكنة. كل هذا من أجل بيع التذاكر لشريحة معينة من المشاهدين، دون الاستثمار في أي جانب فني أو أكاديمي في المشروع.
ربما تكون نظارات مارسيلو ماستروياني أمام عدسات فيديريكو فيلليني إحدى البدايات الكبيرة التي استقطبت العلامات التجارية الضخمة للاستثمار بشكل مباشر في الأفلام، لكني أظن أن سيطرة «النفيش» على الطابع العام لن تدوم طويلًا.
رغم تشاؤم الكبار مثل «مارتن سكورسيزي»، الذي وصف أفلام استديوهات مارفل بأنها «أقرب إلى مدينة الملاهي عن الأفلام». إلا أن العديد من الاستديوهات الكبيرة أصبحت تستثمر في النصوص الإبداعية في محاولة لتقديم شيء جديد للمشاهد، مثل نجاح فيلم «Joker» الذي كلف إنتاجه فقط 55 مليون دولار، إلا أنه تمكن من تحقيق أكثر من 900 مليونا في شباك التذاكر، وحصد العديد من الجوائز الأكاديمية مثل الأوسكار وغيرها، مما جعل الجماهير تطالب بإنتاج مزيد من أفلام الأبطال الخارقين بمثل ذلك المستوى الفني.
في النهاية، ستكون مسألة وقت حتى إعادة اكتشاف السينما من جديد. سواء كانت من منظور نظارة شمسية جديدة أو عدسة فنية منسية، لأن تلك إحدى غايات الفن، أن يُعاد اكتشافه دائمًا وأبدًا، والسينما خير مثال.