تُعرَف السينما المصرية في ثمانينيات القرن الماضي بأنها فترة أفلام المقاولات، أما التسعينيات فكانت فترة ظهور أفلام الكوميديا.
بين هاتين اللحظتين كانت هناك تجربة جَسّد فيها تمثيل عادل إمام وإخراج شريف عرفة وتأليف وحيد حامد مجموعة من الأفلام التي أثْرَت ذلك المحتوى الذي حاك الواقع، وخصوصًا عن طريق رصد الحالة الاجتماعية والسياسية، وما يدور من صراعات داخل المجتمع المصري. السؤال هنا: كيف تشابهت هذه التجربة مع الواقع؟
يقول الطبيب النفسي محمد المهدي في كتابه «الشخصية المصرية» إن عادل إمام يمتلك تركيبة جسدية تشبه المصري المطحون، وقد هضم الشخصية المصرية بشكل جيد، وأعاد توصيلها بوسائل لفظية وغير لفظية، فكان مِصدَاقَ الفهلوي المصري الذي يتحايل على واقعه، ولذلك كان قريبًا منا دومًا.
مجموعة من الأفلام رصدت وتنبأت بأحداث كانت مجرد خيال سينمائي في نظر صُنّاعها، إلا أنها اليوم قد أصبحت رسمًا للواقع الذي يعيشه المجتمع المصري، ونبوءةً لأحداث أكسبت بدورها تلك الأفلام هذا الثّقَل لتبقى حاضرةً في الأذهان. فهل حقًّا كانت كذلك؟
البداية: اللعب مع الكبار
تسيطر على المجتمع مجموعة أخفت هويتها، تدير الأمور على أهوائها وفقًا لمصالحها. يجد عامل بسيط قائم على تحويل خطوط الهاتف فرصة للاستماع إلى ما يدور بين الكبار، فيخبر صديقه حسن بهلول الذي ألهمه حبه لوطنه أن لا يقف صامتًا حيال ذلك.
يذهب إلى أحد رجال أمن الدولة الذي اتسم بالمرونة لتقبُّل فكرة بهلول حول أن الأحلام هي التي تلقنه معلوماته عن خطط الكبار، لكنه لا يجد لها تفسيرًا قانونيًّا.
بعد حفنة من تلك المعلومات يأخذ ضابط أمن الدولة أحلام بهلول على مَحمِل الجد. ويرفض بهلول إخبار مصدر أحلامه للضابط قائلًا: «المصدر بتاعي دليل براءة مش دليل إدانة».
بهذه الجملة تتلخص فكرة ظهور أسرار الكبار على سطح المجتمع دون معرفة هوية المصدر. وما أن أصبح المصدر معروفًا حتى صار هدف هؤلاء الكبار، الذين عليهم إقصاؤه من الساحة. هو كذلك في المشهد الأخير للفيلم، حينما يصل الكبار إلى مصدر تلك المعلومات حتى يُردوه قتيلًا، في ظل قانون ملأته ثغرات أدت إلى خروج الكبار من مأزق المواجهة.
كشف المستور على يد الصغار حينما يتوفر السبيل إلى ذلك، وتشابه حياة حسن بهلول العبثية حياة كثيرين شاركوا في الحراك السياسي في المجتمع المصري. فكان الحلم هو ستار بهلول، وكانت وسائل التواصل ستارًا لفضح ما يحدث في كواليس المجتمع الحقيقي، في محاولة لفضح رموز النظام السياسي بطرق غير مباشرة.
المنسي: ناس كتير تزهق بس متقدرش تمشي
المواطن المنسي يوسف، عامل التحويلة في أحد أكشاك سكك حديد القطارات، كادح من الطبقة الدنيا في المجتمع، يسير بجانب القطار، لا تدوسه قدمه أبدًا كحال المواطن المصري.
يذهب به القدر في اتجاه استغاثة الفتاة غادة، ليدخل في نزال مع أسعد ياقوت، أحد رجال الأعمال صاحب النفوذ، الذي ينظم في تلك الليلة إحدى حفلاته لإبرام صفقاته المليونية.
تصبح غادة أحد بنود تلك الصفقات، لكنها لا ترغب في ذلك، فيمتطي المنسي جواده لإنقاذ الفتاة من تلك الأزمة. في النهاية تركب غادة القطار، لكن المنسي يودع حلمه، ويبقى في موضعه منسيًّا.
جعلت الأقدار المجتمع المصري، في أحيان كثيرة، يدخل في حروب للكشف عن حبه لوطنه: ثورات، مظاهرات، مواجهات فردية، وكان لزامًا عليه دائمًا الاختيار بين ذاته ووطنه عدة مرات، أجلاها ثورته في 25 يناير.
لكن دائمًا ما كان ينقذها، ويتركها تذهب في القطار، ويكتفي بوداعها في كل مرة، في مشهد لا يرغب مُخرجه في إنهائه، ويعاد مرارًا وتكرارًا. فهل سيستقلُّ يومًا المواطن المصري نفس قطار الوطن، أم يكتفي بنظرة الوداع؟
طيور الظلام: حلم السلطة
الشر، الورم الخبيث يتوسع لحد ما يبقى الانحراف متعة، والشر مزاج، والسرقة كِيْف، والسلطة إدمان. بديت مظلوم، أصبحت ظالم.
ثلاثة أصدقاء يجمعهم القدر في مجال واحد. يصل الأول إلى السلطة عندما يتخلى عن مبادئه ويصبح انتهازيًّا، والثاني يصل إلى النفوذ عندما يرتدي عباءة الإسلام السياسي داخل جماعة محظورة، والثالث يهاب تلك المعارك، ويفضل أن يسعى وراء قوت يومه.
سرعان ما يُزَجُّ بالصديقين الأول والثاني إلى السجن بعدما يحتدم الصراع بينهما، ويحاول كلاهما أن يجد لقدمه موطئًا خارج أربعة جدران.
تلك هي قصة الفيلم، من وحي الخيال، وليست سردًا لأحداث سياسية حدثت بالفعل.
حينها فقط كانت من وحي الخيال، إلا أنها بعد مرور ما يقرب من عقدين تحول الخيال إلى واقع: جماعة محظورة تعاني كل الضيق من نظام سياسي طاردها حتى وصلت إلى سدة الحكم، ثم سرعان ما يُزَجُّ بها إلى السجن مع سَجانها، ويحاول كلاهما أن يجد لقدمه موطئًا خارج أربعة جدران.
«أنا خارج يا فتحي».. «وأنا خارج قبلك يا علي»
بين التحالف تارةً، والضرب تحت الحزام تارةً أخرى، حاكت الأحداث الصراع بين النظام السياسي وجماعة الإخوان، ومحاولة النظام السياسي إضفاء طابع الديمقراطية على الحياة السياسية منحت الإخوان رقعة أكبر. ينتهي المطاف بالطرفين إلى نفس السجن، وما زال الصراع قائمًا بينهما. نبوءة لحقيقة الأحداث والصراع على السلطة بحذافيره، مع إضافة المشهد الخاص بالصديق الثالث «المواطن»، الذي اتخد النرجيلة صديقًا جديدًا بعد الزج بصديقية إلى السجن.
تغض السلطة البصر عن هذا الوباء الذي اجتاح المجتمع، وتحاول التستر على الحدث، تمامًا مثلما تتجاهل المؤسسات السياسية كل ما يؤرق المجتمع المصري.
في المشهد الأخير نرى الصديقَيْن اللذين دبّ بينهما الصراع يتسابقان في الوصول إلى الكرة ليركلاها بقوة تؤدي إلى تحطم الزجاج خارج أسوار السجن. وإذا كانت الكرة رمزًا، فما رمزية الزجاج؟
قد يكون هذا الرصد، وتلك النبوءة، مجرد صدفة، وذلك الزجاج ليس وطنًا.
النوم في العسل: نقول «آآه»
«الشر، الورم الخبيث يتوسع لحد ما يبقى الانحراف متعة، والشر مزاج، والسرقة كِيْف، والسلطة إدمان، بديت مظلوم، أصبحت ظالم».
عندما تسود حالة من الإحباط والعجز، ذلك العجز الجنسي الذي عانى منه طاقم الفيلم، إنما هو إسقاط على الواقع مفاده أن ذلك العجز تعبير عن شدة الرغبة وضعف القدرة التي أصابت المجتمع المصري في حياته اليومية والسياسية.
لم يعد الطعام والجنس سوى المفر الذي أتيح للمجتمع المصري من أجل التعبير عن طاقته. ولعل ذلك ما يفسر أن مصر تحتل المركز الأول في انتشار السمنة بين البالغين، إذ تصل النسبة إلى 35% في دراسة نُشِرت في المنتدى السنوي للغذاء في ستوكهولم عام 2017، لرصد السمنة من 1980 إلى 2015.
كذلك، معدل النمو السكاني خلال الفترة من 2006 إلى 2017، المقدر بـ2.56%، أعلى من معدل النمو خلال الفترة من 1996 إلى 2016، إذ سجل معدل نمو السكان 2.04% سنويًّا.
تغض السلطة البصر عن هذا الوباء الذي اجتاح المجتمع، وتحاول التستر على الحدث، تمامًا مثلما تتجاهل المؤسسات السياسية كل ما يؤرق المجتمع المصري، ما تسبب في اندلاع المظاهرات التي رفعت شعار «آه».
الإرهاب والكباب: مجرد رسالة تدريبية
تجسيد الثورة بهذا الحجم يتشابه مع ما حدث بعد ذلك، ليصبح الزمان هو الفارق الوحيد في تحقيق تلك النبوءة. الثورة صارت إرهابًا، والكباب وجبة من وجبات المطعم الشهير «كنتاكي». الميدان هو نفسه لم يتغير، إذ تمسّك الثوار بروح اليد الواحدة، مثلما طالب كل طاقم الفيلم الحكومة بـ«الكباب، الكباب، لا نخلِّي عيشتكو هباب».
رمزية الكباب تأتي من كونه طعام الأغنياء، والمواطن البسيط اتحد مع الإسلامي والعامل وربة المنزل وفتاة الليل وذي البشرة السمراء، لتتوحد مطالبهم، ويتجاهلوا خلافاتهم.
في النهاية يتحول المواطن البسيط، في محاولة الوصول إلى مطالبه البسيطة، إلى صورة الإرهابي، يهابه الجميع حتى تبدأ الفئات الأخرى في الانجذاب إليه، وينتهي المشهد بالتفاف جميع الأطياف حول تلك الثورة.
المشهد الأخير من أكثر المشاهد التي إن حاول المؤلف حينها تغيير حبكتها لأصبح من الممكن أن تطابق الواقع تمامًا، وذلك حينما يُحبَط عادل إمام، فيطلب من الجميع الرحيل ليواجه مصيره، بعدما أدرك أنه لم يكن يقصد أن يصل الأمر إلى هذا الحد، لكن رفقاء الثورة لا يتركونه، ويتمكنون من إخراجه خلسةً بينهم، ليترك ما صارع من أجله، وتعود الحياة في اليوم التالي إلى طبيعتها، كأن شيئًا لم يكن.
بين الرصد والنبوءة، أصبحت تلك الأفلام محاولة لتوثيق حقبة مريرة عاصرها المجتمع المصري، حقبة من التغيرات السلوكية والثقافية والسياسية.