لعل أهم ما يميز الروائي الكويتي عبد الله البصَيِّص القادم من حديقة القصة القصيرة، والتي وصلها أصلًا من خيمة الشعر النبطي، أقول أهم ما يميزه هو ذلك الاحتفاء الوقور بالمهارة السردية، لا من حيث هي ابتكار وحسب، بل من حيث إخلاصها للراهنية دون إذعان لشروطها القاهرة بالضرورة، فنراه يتمرد بجرها إلى الماضي الحقيقي/المتخيل بعيدًا وقريبًا، أو ينتصر عليها بنفيها إلى تخوم فانتازيا موازية.
إننا أمام كاتب خاض في أمواه كثيرة قبل أن يستقر له الأمر مع السرد الطويل، إذ نجح في استثمار موهبته في لعبة «الواقعية السحرية» وتقنيات الكتابة الواعية التي يمتلك مفاتيحها.
أصالة معاصرة
لفهم نص البصيص علينا إدراك محلية سرديته. أعني تلك المحلية الكويتية أو الجغرافيا القريبة منها: مدينةً وباديةً، حضرًا وبدوًا، مجنسين وبدون، بكل ما تحمله هذه الثنائيات من أنساق، ظاهرة/مضمرة، دينية وطبقية وأخلاقية وتاريخية مهيمنة. كما أن فضاءه -أي فضاء النص- مؤثث بما يمكنني المجازفة بتسميته «الأصالة المعاصرة»، أو إعادة إنتاج الأصالة المجتمعية أدبيًا، بدرجة إتقان يندر أن يجاريه فيها مجايلوه في الرواية الخليجية، وبالولوج إلى مناطق خاصة يمكن رصدها بين بكورة الإدهاش والمشاع الأدبي.
البشارة
منذ روايته الأولى «ذكريات ضالة» (2014) الواقعة في 221 صفحة، والتي جاءت مبشرة بصوت روائي مختلف ومهم، ينحت البصيص اسمه بروية كمجرب وحكاء حذر، وصاحب طراز مستقل في صناعة أبطاله وضحاياه، مستندًا بمرفقيه في هذا العمل إلى ثيمة «الصداقة» وتطوراتها الثقافية والنفسية عبر «سلمان/حميد». وهو الاحتفاء الذي سيتكرر بنفس القوة في باقي رواياته، مع ثيمات مركزية أخرى تنمو حولها الأحداث وتتشابك الشخصيات. ولولا أنه حاول أن يقول كل شيء (من قبيل: الغزو، البدون، الجسد، التمايز الاجتماعي، أحكام القيمة، الجريمة... إلخ) فتسرب منه أكثر من شيء، لذهب به عمله الأول هذا إلى أبعد مما بلغه من نجاح وانتشار، وهو به جدير.
مخلب المستذئب
على أنه احتاط لهذا المأخذ، بل احتاط جيدًا، وتجاوزه مع روايته الثانية «طعم الذئب» (2016) الواقعة في 224 صفحةً. أقول تجاوزه إلى ما يمكن اعتباره حكاية صحراء عربية تقبض على أسباب العالمية، بمعايير سرد عالية وأدوات احترافية ولغة رشيقة وتضاريس نادرة تشي، بالقدر الذي تتلاشى فيه أبعادها، بسحر المكان السردي الغامض. كل ذلك مع بعض الشعر النبطي والكلمات باللغة المحكية لخدمة السياق، بالإضافة إلى هوامش لتعريفٍ أو معنى تفيد الوافد الجديد إلى أجواء البداوة والصحراء.
استند البصيص في هذا العمل المغاير إلى ثيمة مركزية أخرى كانت «الرجولة» وأوهام «البطولة» وما يتعلق أو يعلق بهما، والتي اشتغل عليها عبر شخصية «ذيبان» المركبة، التي تنضج في مخيال خصب من التصورات والتمثلات الجارفة حد أن تلامس -أو تكاد- مخلب «المستذئب» القرين. إنها باختصار أهم أعماله حتى الآن.
بين المنزلتين
أحب ما يفعله البصيص في النهايات التي يحلو للبعض تسميتها بـ«المبتورة»، وأسميها «المفتوحة».
أما الرواية الثالثة «قاف قاتل سين سعيد» (2020) الواقعة في 426 صفحة، فتدور حول جريمة قتل حدثت في وقت يسبق زمن الرواية بعقدين. نشهد كذلك في هذا العمل اشتغالًا جديدًا نفسيًا/اجتماعيًا على الضحايا/الأبطال مع، محدودية أصوات تتناسب مع عدد الشخصيات الرئيسة مثل «ماجد/عادل/فهد/سعيد... إلخ».
لست متحمسًا لا لتكنيكها التلفزيوني، ولا لوصفها بالبوليسية، ولا للعنوان «العادي» على غير عادة البصيص، الذي درج على اجتراح عناوين مغايرة بجرس يدوم في الذاكرة. إنما تبقى هذه الرواية تحتل تقييمًا خاصًا لمرحلة من أهم مراحل سطوع موهبته وانتشاره ككاتب مقروء. ولا مشاحة أنها فارقة وجريئة من حيث بعض اشتغالاتها، ومؤكد أنها أنضج من روايته الأولى، التي تتقاطع معها في أكثر من ملمح، لكنها تظل عندي أدنى مستوىً من روايته الثانية.
مزايا.. مآخذ
أحب ما يفعله البصيص في النهايات التي يحلو للبعض تسميتها بـ«المبتورة»، وأسميها «المفتوحة». تروقني السخرية المكتومة خلف أقفاص الحوار البارد أحيانًا، وأقدر عاليًا المفهوم الخاص للفروسية في أعماله.. فروسية المسالمين/المهزومين/الجبناء الذين لا يريد أحد استعارة أصواتهم وألسنتهم، فيرفعهم هو إلى مصاف الأبطال الشعبيين.
لدي أيضًا بعض المآخذ التي يمكن سوقها بعجالة في ما يخص أعمال البصيص إجمالًا، منها ما هو فني/عام كالإسهاب غير الضروري القاتل للخيال أحيانًا، وتسلُّل اللحظة الشعرية (لغةً/تركيبًا) غير المرغوب به إلى المدونة السردية. أعتقد كذلك أنه مدين باشتغال أكثر على صوت المرأة وتنويعاته في أعماله. ويبقى مأخذ شخصي يخصني، كقارئ كسول، إذ أشعر بالفتور حيال طول العمل الروائي (المعاصر)، الذي أطمح له أن يبقى في حدود الـ 200 صفحة أو أزيد قليلًا.
ليس ضربة حظ
بعد عقد من الكتابة المحترفة: مجموعة شعرية ومجموعة قصصية وثلاث روايات، صار بوسع البصيص الإفراط في استخدام سلطته كراوٍ في هذا العمل أو ذاك، كما صار من حق القارئ تبجيل هذه السلطة العليمة دون شروط إن لزم السرد أو المتعة، بينما صار بوسعنا القول إنه ليس ضربة حظ في مجال الحكاية، بل هو روائي مهم له موهبة تراكمية تتجدد باستمرار، روائي يدرك ما يفعله ولماذا يفعله.