عند سقوط قنبلة «الفتى الصغير» على هيروشيما، اتجه الفكر الإنساني إلى وجهة لم يكن يدرك وجودها من قبل، وعند سقوط قنبلة «الرجل السمين» تأكدت هذه الوجهة.
أثَّر سقوط القنبلتين في الثقافة البشرية بوجه عام، والثقافة اليابانية بوجه خاص، فظهر هذا الأثر في المانغا، وهي اللفظ الذي يطلقه اليابانيون على القصص المصورة، والتي تلقى إقبالًا شديدًا من جميع الفئات العمرية والاجتماعية. وعلى عكس ما هو متعارف عليه في معظم دول العالم، وهو توجه القصص المصورة لفئة الأطفال والمراهقين، فالمانغا لكل الفئات السنية، وتحمل في طياتها أفكارًا ورسائل جادة. أثَّر الإنفجار النووي كذلك في الأنيمي، وهو الرسوم المتحركة اليابانية والمشهورة حول العالم، ويناقش قضايا مهمة، ويتعرض لمواضوعات واقعية.
نستعرض أمثلة لهذا الأثر في كتَّاب المانغا والأنيمي الذين نجوا من القنبلة، وحكوا تجربتهم في رسومات ومشاهد.
«حافي القدمين جين».. وجه الحرب القبيح
نجا «كيجي ناكازاوا» من قنبلة «الفتى الصغير» التي ألقتها طائرات الولايات المتحدة الأمريكية على مدينة هيروشيما اليابانية. لم يتحدث عن الأمر، لم يخبر أي شخص ممن عرفهم في طوكيو عن أنه ناجٍ من القنبلة، فقط كتم الأمر بداخله.
مرت عدة سنوات، ورجع كيجي إلى قريته ليدفن أمه التي ماتت من آثار الإشعاع النووي، وفي طريق عودته لطوكيو قرر كسر الصمت.
أظهرت «حافي القدمين جين» وجه الحرب القبيح للأطفال، وبينت ما يمكن أن تفعله القنبلة النووية بالحياة البشرية.
أصدر كيجي مانغا بعنوان «الصعق بالمطر الأسود»، والتي تناولت الحياة في هيروشيما بعد الحرب، كيف سيطر تجار الأسلحة والمجرمين على مجريات الأمور، وكان بعضهم قد تعرض للإشعاعات النووية. تستعرض المانغا قصة البطل الذي تقوده كراهيته للأمريكيين لقتل تاجر أمريكي، وقد عبر كيجي عما يخالجه من مشاعر غضب تجاه الولايات المتحدة في قول بطل القصة للتاجر: «من انت لتتحدث عن العدالة، وقد قتلت مئات الآلاف من الأبرياء في هيروشيما وناغازاكي وطوكيو؟ هل هذا ما تدعونه عدالة؟».
بعد ذلك طُلب من ناكازاوا الإسهام في سلسلة عن تجارب الفنانين في طفولتهم، فأصدر، في 1972، «لقد رأيتها»، التي حكى فيها عن رؤيته، وهو ابن السادسة، أول قنبلة نووية تُلقى على بلدته. التجربة المريرة تركت الأثر الأكبر في حياة كيجي ناكازاوا وفكره، وكونت بداخله قناعات عن الحرب والمعاناة والأسى في حياة البشر، حولها بقلمه إلى رسومات عبرت بشكل أفضل بكثير من آلاف الكلمات. «لقد رأيتها» نقلت القنبلة بكل بشاعتها للقراء الذين لم يحضروا تلك الفترة، وكانت أول مانغا تتحدث عن القنبلة بهذا الشكل، وبهذا التفصيل.
فتحت «لقد رأيتها» المجال لكيجي للتوسع والحديث بشكل أكثر تفصيلًا عن تلك الفترة في حياته، فأصدر كيجي «حافي القدين جين». هذه المانغا تحكي أهوال القنبلة النووية والمآسي التي تعرضت لها هيروشيما في عين طفل في السادسة من عمره، نجا هو وأمه من القنبلة بمعجزة إلهية.
الطفل الذي يحاول النجاة مع أمه في الظروف القاسية يتعرض لكثير من ويلات الحرب، ويقابل كثيرًا من الشخصيات في رحلته للنجاة.
أظهرت «حافي القدمين جين» وجه الحرب القبيح للأطفال، وبينت ما يمكن أن تفعله القنبلة النووية بالحياة البشرية، وهو ما أراده كيجي. وقد هوجمت المانغا، فمرة اتهموها بأنها تجاهلت الجرائم التي ارتكبها اليابانيون، ومرة بأنها تجاهلت الجرائم المرتكَبة ضد اليابانيين، ومرة بأنها موالية للولايات المتحدة، ومرة بأنها مناهضة للولايات المتحدة.
كل تلك التهم، وعلى الرغم من تضادها، فإنها وُجِّهت بالفعل للمانغا التي تعد تأريخًا لحدث هو الأكبر في تاريخ هيروشيما بكل تأكيد. وقد أوقفتها الحكومة اليابانية بعد أن كانت موجودة في مكتبات المدارس، وحُظِرَت بشكل نهائي عام 2013 لكونها شديدة التفصيل. يُذكر أنها تحتوي على مشاهد عنف واعتداءات جنسية تحدث في أثناء محاولة جين الهرب.
هذه لم تكن المرة الأولى التي توقف أو تُحظَر فيها «حافي القدمين جين». فبعد أن كانت تُنشر في مجلة «شونين جامب» الشهرية التي كانت من أشهر المجلات التي تخاطب الشباب، أُوقفت بعد عام ونصف، واضطر كيجي إلى أن يبحث عن مجلة أخرى لينشر فيها سيرته الذاتية المصورة. وظلت «حافي القدمين جين» تتنقل بين المجلات المختلفة لفترة طويلة حتى ظهور «مشروع جين».
«مشروع جين» كان مبادرة تطوعية أطلقها «ماسيرو أوشيمو» و«يوكيو أكي» لترجمة «حافي القدمين جين» للإنجليزية ونشرها بموافقة كيجي. يقول المترجم «آلن غليسون» الذي انضم إلى المشروع: «كان كيجي داعمًا للمشروع رغم قلقه، فقد كان مُقدِّرًا للمجهودات التي كنا نبذلها، لكنه لم يظن أن هذه المجموعة من الهيبيز ستنجح»، وأضاف غليسون: «لم يهتم كيجي بالمبيعات أو حقوق الملكية أو أي شيء من هذا القبيل، فقد كان هدفه الوحيد أن يقرأ عمله كل أطفال العالم ليدركوا خطر القنبلة النووية».
تحولت «حافي القدمين جين» من مجرد مانغا لثلاثة أفلام صدرت بين 1976 و1980، من إخراج «تينجو يامادا». كذلك أنتجت شركة «مادهاوس» لإنتاج أفلام الأنيمي فيلمين في 1983 و1986 مستوحيين من القصة الدرامية. وفي عام 2007، عُرِضَ مسلسل قصير من حلقتين مستوحى من أحداث المانغا، لتعود «حافي القدمين جين» إلى الساحة بعد غياب طويل، ربما كان السبب فيه هو ظهور «أكيرا».
«أكيرا».. الديستوبيا اليابانية في أبهى صورها
التاريخ: 16 يوليو 1988، والمكان: طوكيو، والحدث: انفجار أبيض عملاق يغشى المدينة. هكذا بدأ «كاتسويرو أوتومو» فيلمه الشهير «أكيرا»، والذي رآه كثيرون أنجح ما قدمته اليابان في عالم الأنيمي.
الأنيمي الذي أُنتِجَ في 1988 لقي قبولًا غير مسبوق في الغرب، فقد قدم أوتومو في عمله الفني نوعًا جديدًا لم يعتده الغرب.
ألهم «أكيرا» هوليوود بشكل كبير، فتأثرت أفلام مثل «Star Wars» و«The Matrix» و«The looper»، بفيلم الأنيمي الياباني.
تدور الأحداث في طوكيو 2019، والتي تحولت إلى «ديستوبيا» بعد انفجار 1988، والذي قضى على ملامح التحضر، جعل الدولة تسقط تحت سيطرة عصابات الدراجات النارية المسلحة. وتتمحور القصة حول علاقة الصداقة بين «كانيدا» و«تيتسويو»، فكانيدا هو الشخصية الرائعة صاحب الدراجة النارية الحمراء الذي دومًا ما يعيش المغامرات، بينما تيتسويو، إلى حد ما، تابع لكانيدا، إلى أن يتعرض تيتسويو لحادث مروع على دراجته النارية، ما يكسبه قوة خارقة، ويتحول إلى الشخصية الشريرة الخارقة التي تحاول فرض سيطرتها.
يحدث الصراع بين كانيدا وتيتسويو، ويشتد ثم يظهر أكيرا في المشهد، ونكتشف أنه هو من مد تيتسويو بتلك القوة، وأنه يملك قوة جبارة قادرة على محو مدن بأكملها، والدليل انفجار 1988، والذي كان هو السبب فيه. في غالبية التفسيرات، فإن أكيرا بقوته التدميرية تلك رمز للقنبلة النووية، وتيتسويو الذي أصبح شريرًا، هو الكارثة التي تلتها، إلا أن أوتومو نفى ذلك قائلًا إنه استلهم هذا العمل من القصص المصورة التي قرأها أيام شبابه، وتناولت الحرب الباردة، وأثرت تجاربه الشخصية على العمل، موضحًا أنه لا يوجد أي «حساسية نووية» في عمله الفني.
«أكيرا» ألهم هوليوود بشكل كبير، فنجد أفلام مثل «Star Wars» و«The Matrix» و«The looper»، تأثرت بفيلم الأنيمي الياباني. كذلك مسلسل «Stranger things»، ونجد فيه شخصية «Eleven» المستوحاة من شخصية «أكيرا». كانييه ويست رأى الفيلم من أكثر أفلامه المفضَّلة، واستلهم منه مشاهد في فيديو أغنيته «Stronger».
قبر اليراعات.. حينما يكون الأنيمي سلاحًا
في سنة 1988، أنتج إستوديو الأنيمي الشهير «جيبلي» فيلم «قبر اليراعات» ليتحول الفيلم إلى علامة من علامات الأنيمي بشكل خاص، والفن بشكل عام. الفيلم من إخراج «إيزاو تاكاهاتا»، ومأخوذ من رواية تحمل نفس الاسم للكاتب الياباني «أكايوكي نوساكا» والتي احتوت على أحداث ووقائع حقيقية.
يعيش الطفلان في فيلم «قبر اليراعات» مأساة أبدع إيزاو تاكاهاتا في إخراجها وإبراز كل المشاعر الإنسانية فيها.
«21 سبتمبر 1945، كان هذا هو اليوم الذي مت فيه»، يبدأ الفيلم بهذه الجملة، على لسان «سيتا». بطل الفيلم الذي نراه مع أخته الصغرى «سيتسوكو». في المشهد الأول يموت سيتا من الجوع في محطة قطار مدينة كوب مثله مثل كثير من الأطفال بأجسادهم الصغيرة المتناثرة في أرجاء المحطة، والتي افترسها وحش الجوع، فيفتش عامل نظافة في أغراضه، فلا يجد سوى وعاء فارغ للحلوى، وحينما يلقيه بعيدًا تخرج روح سيتسوكو منه لتقابل روح أخيها، وتحيط بهم اليراعات من كل جانب.
يعود «تاكاهاتا» بنا بعد ذلك للماضي، حين يركب الطفلان القطار ليعودا بنا إلى ما قبل قصف الطائرات لبيتهم. نجد سيتا في منزله يجهز العتاد للذهاب إلى الملجأ من القصف، تسبقهم الأم، ويتأخر الطفلان في الطريق هربًا من النيران المتساقطة عليهم من السماء. وحينما يذهب سيتا وأخته الصغيرة يجد أن أمه أصيبت إصابات بالغة، فيأخذ أخته ليبقيا عند عمتهما ويبيتا عندها لليلة، وعند عودته في الصباح يجد أن أمه قد فارقت الحياة.
يعيش اليتيمان لفترة يعانيان فيها من تعنت العمة، ويضطر فيها سيتا إلى أن يبيع ممتلكات أمه ليؤمِّن الغذاء له ولأخته. لكن بعد فترة يترك الطفلان بيت العمة القاسية باحثين عن بيت جديد، فيجدا ملجأ مهجورًا يطل على النهر، فيستقران فيه، ويجعلان منه منزلًا جميلًا. يستخدم الطفلان اليراعات لإنارة المكان في الليل، لكن عندما تستيقظ سيتسوكو تجد أن اليراعات ماتت، فتسأل الطفلة الصغيرة سؤالها البريء: «لماذا تموت اليراعات صغيرة؟»، في إشارة عبقرية من تاكاهاتا لموت الأطفال في الحرب.
يواجه الطفلان صعاب الحياة وحدهما في وقت الحرب، وحالهما كان حال كثير من الأطفال في اليابان في ذلك الوقت، حيث الدولة تتساقط ولا يوجد مأوى ولا غذاء، يعيش الطفلان مأساة أبدع تاكاهاتا في إخراجها وإبراز كل المشاعر الإنسانية في التجربة التي أقل ما يقال عنها إنها غاية في الصعوبة.
الفيلم غني بالمشاهد المؤثرة، التي تحمل معاني ودلالات إنسانية. فيقول «رولاند كيلتس»، مؤلف كتاب «Japanamerica»، إن الفيلم يحتوي على قصة تُروى بشكل جيد غني بالتفاصيل، بكل ما تحويه الحياة من غموض وتردد، ما يجعل الفيلم ملائمًا حتى يومنا هذا. إنه يحكي عن فشل البطولة والنبل في الظروف الصعبة ليكون تقريبًا مضادًّا لأفلام هوليوود. ويضيف، في تقرير نشرته «BBC»: هوليوود ستجعلك تؤمن بأنه في وقت الأزمات نحتاج إلى الأبطال الخارقين، تاكاهتا يرينا ما هو عكس ذلك، وهو أنه في وقت الأزمات نحتاج للتواضع والصبر والتحكم في الذات، هكذا يمكننا النجاة.
«قبر اليراعات تجربة شعورية قوية للدرجة التي تجبرنا على أن نعيد النظر إلى الرسوم المتحركة»، وصف «روجر إيبرت»، الناقد السينمائي، فيلم الأنيمي الياباني بأنه: «منذ القدم والرسوم المتحركة للأطفال والعائلات، لكن هذه الأفلام تكون في بيئة أمنة، حيث الدموع دموع إلهام لا أسى»، على عكس فيلم «قبر اليراعات» الذي أثر في إيبرت بشكل كبير. وقد استطاع الفيلم الظفر بعدة جوائز، منها جائزة «الوسام الأزرق» اليابانية 1989، وفي مهرجان أفلام الأطفال الدولي بشيكاغو فاز بجائزة «حقوق الأطفال» وجائزة «الحكام».
فكرة أن الفيلم مبني على قصة حقيقة يجعل المشاعر أكثر صدقًا، والمشاهد أكثر تأثيرًا. فكما ذكرنا سلفا، فإن أكايوكي نوساكا بنى أحداث روايته على تجربته الشخصية، فنوساكا هو الآخر فقد أخته في الحرب وحمَّل نفسه سبب الخسارة، وكتابته لهذه القصة التي صدرت في ستينيات القرن العشرين ما هي إلا محاولة منه للتصالح مع نفسه.
هذه المعلومة كفيلة بأن تجعلك تنظر إلى الفيلم نظرة أكثر عمقًا، فهذه الأحداث ليست تخيلية ألفها أديب وهو جالس في مكتبه يرتشف مشروبه المفضل أو يدخن نوعه المفضل من السجائر، بل تجربة إنسانية حقيقية، بكل ما فيها من مشاعر.
موت سيتا في بداية الفيلم، بجانب أنه بداية من أقوى البدايات السينمائية (قتل البطل)، فهو أيضًا تشبيه لحالة نوساكا بعد موت أخته، الدنيا تغيرت لسيتا بعد موت سيتسوكو، وتغيرت لنوساكا بعد موت أخته. كلاهما دُمِّرا نفسيًّا، لكن وعلى عكس سيتا الذي لم يجد سببًا في الحياة يدعوه للبقاء بعد رحيل دنياه، نوساكا عاش ليقدم لنا هذه القطعة الفنية العظيمة التي ستبقى علامة في تاريخ الأنيمي والفن، ودليل دامغ على مدى قوة الأنيمي كسلاح.
«وبينما يهرول سيتا عائدا للملجأ (منزله الذي بناه مع أخته الصغيرة) بالطعام الذي وعدها إياه، كانت سيتسوكو تحتضر. يدخل سيتا ليراها نائمة على الأرض، أنهكها الجوع والمرض، فلم تقدر أن تجري عليه وتحتضنه كعادتها. يحاول إطعامها، لكن لم يعد بها قوة تسمح لها بالأكل، حركة المضغ البسيطة كانت أقوى من أن تقوم بها. سيتا.. شكرًا لك. قالتها سيتسوكو بكل برأة الأطفال وطيبتهم قبل أن تنام، احتضنها سيتا وهو يعلم أنها لن تستيقظ هذه المرة».