يُحكى أنه في عام 1895 حينما عرض الأخوان «لوميير» (Auguste and Louis Lumière) فيلمهما السينمائي «وصول القطار» للمرة الأولى، في فترة لم يكن يشيع فيها ارتياد السينمات، وبينما يسير القطار متقدمًا تجاه المشاهدين، انتاب الجمهور حالة من الذعر وهبُّوا قافزين من مقاعدهم هربًا من القطار الذي ظنوا أنه سيخرج من الشاشة ليصدمهم.
ورغم ترجيح بعضهم أن تلك القصة لا تتعدى كونها مجرد أسطورة متناقَلة، فإنها تحكي الكثير عن قوة الصورة وتأثيرها، والتي وصلت إلى أوجها في بدايات القرن العشرين بالتزامن مع سعي قادة العالم وصُنَّاع القرار للسلطة وركضهم المحموم تجاه أي وسيلة ذات تأثير وقوة مطلقة على جموع البشر.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وفي الوقت الذي انهمك فيه الجنود من كل بقاع العالم في تضميد جراحهم البدنية باستخدام «الشاش»، لجأ صُنَّاع القرار إلى «الشاشة» لتضميد جراحهم المعنوية، وإظهار أنفسهم وجيوشهم وبلادهم في أفضل صورة ممكنة، وبشكل يدعم موقفهم السياسي في الحروب.
بمعنى آخر، لجأ صناع القرار لاستخدام السينما كوسيط مرئي دعائي لأسباب قد تختلف من دولة لأخرى، إلا أنها جميعًا تخدم الرغبة نفسها في السيطرة على الوعي الجمعي للشعوب، فكيف سعت الأنظمة لاستغلال السينما في إيصال رسائلها؟
على الطريقة الروسية: الدعاية كإعادة صياغة للتاريخ
بافتتاحية «الثورة هي الحرب الوحيدة المخلصة والفاعلة والعادلة»، يبدأ فيلم «المدمرة بوتمكين».
في عام 1925 وفي الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفييتي يحتفي بمرور عشرين عامًا على ثورة العمال عام 1905، كان المخرج «سيرجي آيزنشتاين» (Sergei Eisenstein) ينتهي من إخراج فيلمه (Strike)، ليكون، بحسب خطته آنذاك، واحدًا من سلسلة أفلام عن الثورة الروسية تحمل اسم «إلى الديكتاتورية».
«آيزنشتاين»، الذي كان مؤمنًا بمبادئ الثورة البلشفية وأحد أفراد الجيش الأحمر الشيوعي لفترة من حياته، أراد تطبيق مبادىء الثورة وتحقيق أهدافها في شتى اهتماماته حتى السينما، وتمنى صناعة «سينما عُمَّالية» في مواجهة «السينما البرجوازية»، يستبدل فيها بالنجوم بطولات جماعية.
ولاء «آيزنشتاين» وإخلاصه لأفكار الثورة الشيوعية وضعه تحت أنظار القادة، ومع شيوع فكرة استخدام السينما كأحد أشكال البروباغندا، لم يكن هناك من هو أفضل منه كي تُسند إليه مهمة إنجاز فيلم دعائي عن ثورة عمال مدينة سان بطرسبرغ عام 1905، التي بدأت بتمرد البحارة في المدمرة العسكرية «بوتمكين» (Battleship Potemkin).
خرج فيلم«آيزنشتاين» بالعنوان نفسه: «المدمرة بوتمكين» (Battleship Potemkin)، وبافتتاحية تقول إن «الثورة هي الحرب الوحيدة المخلصة والفاعلة والعادلة»، بدأ العمل السينمائي الشهير بمشهد رفض البحارة تناول الطعام الفاسد المقدَّم لهم، الأمر الذي استدعى غضب القبطان فأمر بإعدام المتمردين.
يرفض البحارة إطلاق الرصاص على زملائهم ويهاجمون الضباط، فيموت أحد البحارة وتُنقل جثته للشاطئ وينتقل معها أثر التمرد إلى العامة، الذين يستجيبون لثورة البحارة ويبدأون في نقل الغذاء لهم عبر سلالم ميناء الأوديسا في المدينة، وهو ما يؤدي لتعرضهم لإطلاق الرصاص وحدوث مشهد مذبحة الأوديسا الشهير. بعدها يرد البحارة بنسف مقر القيادة فيتجه الأسطول لإخماد تمردهم، إلا أن بحارة الأسطول يستجيبون لنداء أشقائهم وينضمون لثورتهم.
الحروب كلها كريهة، ومرهِقة، ولا يحبها أحد، خصوصًا العامة، لكن «آيزنشتاين» فنان قبل أي شيء آخر، وباعتماده تقنيات مونتاج لم تُستخدم من قبل، نجح في خلق إيقاع متصاعد جعل من الحرب الكريهة قطعة فنية أمَّنت لها صيتًا عالميًّا. ليس هذا وحسب، بل نجح أيضًا في التأثير على وعي متلقيه وشحنهم للتعاطف مع الثورة الروسية رغم كل مكارهها.
تأثير الفيلم النفسي أثار إعجاب «جوزيف غوبلز» (Joseph Goebbels)، وزير الدعاية النازي فيما بعد، لدرجة اتخاذه قرارًا بصناعة النسخة الألمانية من الفيلم، بمشهدها الخاص لسلالم الأوديسا.
«أريد لكل مَن يشاهد الفيلم أن يؤمن بالنازية»، هكذا كان تبرير «غوبلز».
ما الذي قد يؤرِّق قادة العالم أكثر من فيلم عن التمرد؟
النجاح الذي حققه فيلم «المدمرة بوتمكين» عالميًّا كان حصاة في أحذية سائر الدول، أبطال متمردون ونظام يخسر في النهاية، ومع تأثير الفيلم النفسي بدأت دول العالم مواجهته. على سبيل المثال، حاولت ألمانيا عبثًا منع عرض «المدمرة بوتمكين» خوفًا من تأثر جنودها به وقيامهم بثورة هم أيضًا. ولما فشل النظام، اتخذ كل الإجراءات لتحجيم تأثير الفيلم؛ بدايةً من عرضه دون موسيقى لتخفيض قوة إيقاعه وثوريته، وصولًا لإحاطة دور العرض بأوتاد خشبية.
لكن هل يخبرنا «المدمرة بوتمكين» بالحقيقة؟
الإجابة هي النفي، فرغم نية «آيزنشتاين» الصادقة في حمل المشاهدين على اتباع الثورة والإيمان بمبادئها، ورغم أن الهدف الأساسي للفيلم كان إبراز مدى وحشية النظام القيصري (النظام الحاكم وقت حدوث الثورة الأولى)، فإن التاريخ يفضح مدى تلاعب المخرج الكبير بالأحداث وإعادة تقديمها بشكل يخدم مصالح النظام الروسي الجديد (الذي قام على أكتاف النظام القيصري بالتأكيد).
طبقًا للمؤرخين، لم تكن هناك أي انتفاضة على سلالم الأوديسا، وبالتبعية لم تحدث أي مجزرة، كما أن بحارة المدمرة «بوتمكين» أُجبروا على الاستسلام، و«تصرفهم البطولي» لم يتعدَّ كونه تمردًا حُجِّم سريعًا بشكل لم يلهم العالم في أي ثورات تالية.
القصة كلها لم تتجاوز كونها أسطورة داخل عقل مخرج شاب مُحِب للثورة الشيوعية، وعلى أتم الاستعداد لضم أتباع لها، حتى إن لجأ إلى شيء من التدليس والتلاعب و«مَنتجة» التاريخ، وبرعاية مباشرة من سلطة انهزمت في الماضي وآثرت أن يذكرها التاريخ بغير ذلك؛ لتثبيت جماهيرية حكمها من جهة، ولتضميد جراح قديمة لا تزال تُحدِث وَخزًا من جهة أخرى.
الحروب كلها كريهة، ومرهقة، ولا يحبها أحد، لكن السلطات ترى غير ذلك، ليس هذا فقط، بل إنها ستحملك كمشاهد على أن ترى ما يريد لك قادتك أن تراه.
على طريقة هتلر: ليست الإرادة، وإنما الدعاية هي ما تنتصر
لقطة ممتدة لسماء ألمانيا، متبوعة بلقطة علوية لما هو قابع أسفل تلك السماء؛ مروحية تبسط ظلها على الجماهير الغفيرة قبل أن تتنزل عليهم برفق، ولكن بثقة، ليخرج منها هتلر المخلِّص كما لو أنه آتٍ مباشرةً من السماء.
نجاح هتلر في تصديره صورة ذهنية عن نفسه كمُخلِّص شجعه على تكرار التجربة مرة أخرى.
ما سبق هو المشهد الافتتاحي لواحد من أشهر الأفلام الدعائية في التاريخ، فبميزانية غير محدودة وطاقم مساعدين يرتدي الزي العسكري الذي يفتح كل الأبواب المغلقة، صنعت المخرجة الألمانية «ليني ريفنتسال» (Leni Riefenstahl) فيلمها الدعائي (Triumph of the Will) عام 1935، بتكليف مباشر من الرئيس الألماني أدولف هتلر، الذي كان مدركًا لأهمية الدعاية ودورها في فرض المذهب على الشعب كله، مثلما قال في كتابه «كفاحي».
ورغم أن الفيلم يبدو في طبيعته توثيقيًّا؛ إذ يتوقف عند استعراض مجموعة خطابات هتلر دون التطرق لحكاية أو حبكة سينمائية، فإنه لا يخلو من الرسائل البصرية التي تكرِّس للنازية العرقية المتمثلة في قيادة «هتلر»، وتعمل على ترسيخها في الوعي الجمعي للجماهير، بدءًا من استخدام منظور سُفلي (زاوية منخفضة) للتصوير في كل مرة يلقي فيها هتلر خطابًا؛ لتقديمه كما لو كان قامة شامخة، رمزًا أو إلهًا، وصولًا إلى خصِّ هتلر وحده باللقطات الفردية، في مقابل دمج كل طبقات المجتمع في لقطات جماعية.
المعنى لا يمكن أن تكون أكثر وضوحًا؛ رجل واحد نزل من السماء مُحمَّلًا برسالة لإعادة بناء المجتمع الألماني، رجل واحد بمفرده يمكنه توحيد البقية، رجل واحد هو المنقذ، والإرداة المنتصرة هنا هي إرادته وحده دون غيره.
قد يهمك أيضًا: كيف استقبلت الصحافة الأمريكية صعود هتلر وموسوليني إلى الحكم؟
نجاح هتلر في تصدير صورة ذهنية عن نفسه كمُخلِّص شجَّعه على تكرار التجربة مرة أخرى؛ فظهرت عدة أفلام تكرِّس لتفوُّق القوة الألمانية ومعاداة السامية والتحقير من اليهود؛ باعتبارهم كائنات فرعية أقل شأنا يجب إبادتهم قبل انتشارهم في المجتمع الآري.
فيلم (The Eternal Jew) للمخرج «فريتز هبلر» (Fritz Hippler) هو أحد أشهر تلك النماذج. أُنتج عام 1940، وكان معنيًّا بتسجيل حياة اليهود ضمن المجتمع الألماني كـ«طفيليات تزحف فوق جدار المجتمع». كان هذا تحديدًا قبل عام واحد من بدء هتلر إجراءه الأبشع على الإطلاق بقتل اليهود وطوائف عرقية أخرى داخل مستودعات الغاز، في الفترة من 1941 وحتى 1945، كما لو أن فيلمه كان مجرد خطوة استباقية يبرر بها ما هو مُقدم عليه.
مرة أخرى تنتصر «الإرادة العُليا» عن طريق الدعاية، مرة أخرى ينتصر هتلر.
على طريقة ناصر: «إسماعيل ياسين في».. الدعاية لغسل العقول
هذه المرة قواعد اللعبة مختلفة. لا توجد سينما بمفهومها الفني، لا توجد شريحة عُظمى تهتم بالفنيَّات، لكن في المقابل هناك جمهور يحب التسلية ويفضِّل النكتة، وهناك إسماعيل ياسين، هناك أيضًا قائد شديد الذكاء يعرف جيدًا كيف يخاطب شعبًا يُفضَّل النكتة على الفن، والتسلية على الدراما، ويتقبل تمرير العظة إلى وعيه طالما أنها في قالب ساخر، وطالما أنهم سينقلبون على ظهورهم من فرط الضحك.
«إسماعيل ياسين» في البوليس، في الطيران، في الجيش، في الأسطول البحري، وغيرها من الأفلام التي حملت اسمه وبطولته المطلقة بتكليف مباشر من القوات المسلحة في أعقاب ما يُعرَف بـ«ثورة 1952»؛ للترويج للجيش بكل أسلحته المعروفة.
الوصفة واحدة دائمًا، شاب تَعِس الحظ لا قِبَل له بالبطولات الكبرى، يُقحَم في سلاح عسكري إجباريًّا، وفي كل مرة تتعثَّر خطواته نسبيًّا، ثم وبشكل ما يتورط في مهمة عسكرية من شأنها تعريفه بأهمية الدور الذي يقوم به. رسالة متكررة بتنويعات مختلفة تؤكد فكرة «الجيش مصنع الرجال»، وتمرر تلك الحقيقة لعقول الملايين.
ورغم أن السيناريو تكرر بعد ذلك بعقود في فيلم كوميدي آخر بعنوان «عبُّود على الحدود»، يحمل السيناريو نفسه تقريبًا، ويسرد الحكاية ذاتها عن شاب رافض للانضمام للمؤسسة العسكرية يجد نفسه أحد أفرادها رغمًا عنه، رغم ذلك، فإن الفيلم الذي قام ببطولته الراحل علاء ولي الدين لا ينتمي للأفلام الترويجية بأي شكل؛ ربما لانحيازه لفردانية الإنسان وخصوصية تجربته، في مقابل انحياز أفلام إسماعيل ياسين للمؤسسة الحاكمة وطمسها هوية المجندين.
قد يعجبك أيضًا: لماذا لا أقدر على البوح برفضي للخدمة العسكرية؟
في أفلام إسماعيل ياسين دائمًا ما تُغلَّف الفكاهة في إطار دعائي يُعنَى باستعراض جوانب المؤسسة العسكرية، مشاهد مطولة تركز بشكل أساسي على دور السلاح العسكري ودور الجندي والمهام المطلوبة منه حال انضمامه للأقسام المختلفة، وتُضمَّن النكتة داخل إطارها بشكل لا يخلو من ذكاء ومهارة للتغلب على جفاف المادة الدعائية.
وعلى الجانب الآخر، ينحاز فيلم «عبود على الحدود» منذ اللحظة الأولى للبطل نفسه، والذي يشبه في حاله الكثيرين ممن يرفضون التجنيد الإجباري، ولا يملكون إلا محاولة التملُّص من كابوس المؤسسات العسكرية بكل الطرق، حتى إن المُشاهد بعد قليل ينسى أن الفيلم تدور أحداثه داخل ثكنات الجيش المصري، ويبقى فقط التعاطف مع حكاية شاب آخر في المكان الخاطئ في الوقت الخاطئ.
لكن، بعيدًا عن مرارة السخرية التي يستدعيها «عبود على الحدود»، لو حاولنا اقتفاء أثر أفلام إسماعيل ياسين وتأثيرها النفسي في غسل أدمغة الكثيرين، لن نجد ما هو أكثر دلالة من اللجوء إلى السينما نفسها للتحقق من ذلك، ولن نجد ما هو أكثر صدقًا من أبطال المخرج عاطف الطيب، أحد أعمدة الواقعية السينمائية في مصر، ونخص بالذكر شخصية «أحمد سبع الليل»، التي جسدها الفنان أحمد زكي في فيلمه «البريء».
يؤمن «سبع الليل» أن الجيش يحمي المواطنين من «أعداء الوطن»، وينساق بسذاجة وراء قناعاته، بينما يقوده تجنيده للانخراط في قوات الحراسة بأحد المعتقلات السياسية. يؤمن بما شبَّ عليه ويُصدِّقه تمامًا، فيُعامِل كل مَن في المعتقل باعتبارهم أعداء للوطن، الأعداء الأكثر شراسة في واقع الأمر.
تدور أحداث فيلم «البريء» في نهاية السبعينات، وبحسابات بسيطة يمكن تخمين أن «سبع الليل» ما هو إلا تجسيد لآلاف الشباب المصريين الذين نشأوا على سلسلة أفلام إسماعيل ياسين الترويجية وصورتها الوردية للجيوش، دون إدراك أن الجيش، الذي تربى على كونه مصنع الرجال، يكسر أنفه فور الالتحاق به.
اقرأ أيضًا: كيف حوَّل التليفزيون السياسة إلى عرض ترفيهي؟
على الطريقة الأمريكية: الدعاية التي لا تحتاج تصريحًا من السلطة
كل شيء في هوليوود أكثر اختلافًا وذاتية، وفي دولة قامت في الأساس على الصراعات العرقية وتمجيد الرجل الأبيض، لدرجة ظهور حركات عرقية مثل «كلو كلوكس كلان» (Ku Klux Klan) للدفاع عن تفوق الرجل الأبيض وحقه في المواطنة، ومعاداة الكاثوليكية في مقابل تحقير ذوي البشرة السمراء والأمريكيين الأفارقة، كان لا بد للسينما الدعائية الانخراط في شؤون بلادها الداخلية هي الأخرى.
في عام 1915، أطل المخرج «دي دبليو غريفيث» (D. W. Griffith) بملحمته السينمائية (The Birth of a Nation)، الذي يجسد فيه الحرب الأهلية الأمريكية من منظور الرجل الأبيض، ويُظهر الأفارقة السود باعتبارهم «مجموعة من البرابرة مثيري الفزع»، قبل أن تظهر جماعات «كلو كلوكس كلان» بزيهم المتعارف عليه كأبطال على وشك إنقاذ العالم.
وبعيدًا عن حبكة الفيلم ومباشرتها في تمجيد الرجل الأبيض، فإن تقنيات «غريفيث» السينمائية استهدفت اللاوعي بقدر غير هيِّن؛ باختيار فتيات صغيرات السن يلعبن دور «الضحايا»، وإفراد مشاهد طويلة نسبيًّا لهن على الشاشة دون حراسة، فماذا قد يشحذ غضب الرجل الأبيض أكثر من أنثى بحاجة للحماية؟
صحيح أن الفيلم لم يُنتج بأوامر مباشرة من أي سلطة، إلا أن المشاهدين لم يكونوا بحاجة لتصريحات سياسية للتعاطي معه، وتمثَّل ذلك في انبعاث جماعات «كلو كلوكس كلان» مرة أخرى وبشكل أكثر عنصرية، ليس فقط تجاه الأفارقة الأمريكيين؛ ولكن مع الكاثوليكيين واليهود والمهاجرين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن نجاح الفيلم تجاريًّا شجع السينما على إعادة تقديم الرؤية الذاتية نفسها لكن بشكل أكثر تورية وتسلية، ومن خلال أكثر زاوية غير متوقعة؛ (King Kong)، ذكر الغوريلا «الأسود» المتوحش ذو الطبيعة الحيوانية، الذي يُصطاد بغرض التسلية، وما إن يخرج عن السيطرة ويصبح خطرًا على النساء والأطفال حتى يستوجب الأمر قتله. هل يحتاج المشاهدون ترويجًا للعنصرية أوضح من ذلك؟
قد يهمك أيضًا: من يُصلح ما فشل فيه مانديلا؟
سواءً بصورة متعمدة أو دون قصد، دائمًا ما تسير السينما في هوليوود بمحاذاة التاريخ السياسي، ربما بشكل متأخر عدة عقود، لكنها تحاول دومًا تصحيح أخطاء الماضي أو تمجيد تاريخ الدولة من المعارك والحروب، ربما كمحاولة لتبرير كل هذه الدماء المراقة.
أفلام مثل (Saving Private Ryan) أو (The Thin Red Line) أو حتى (American Sniper) وغيرها، خصوصًا أفلام «الأكشن»، كلها تقُص بشاعات الحروب بشكل درامي فني، وتُعنى بسرد الحكاية الإنسانية التي تدور في كواليس أرض المعركة، وكلها تؤرخ لـ«تضحيات» الجنود وولائهم، دون التركيز على الآلية التي ضمنت بها الجيوش هذا الولاء أو الظروف السياسية والأخلاقية لتلك الحروب.
وربما يكون فيلم (Full Metal Jacket) الناجي الوحيد من تلك المقصلة؛ بتركيزه في الأساس على ما يجري في الخيام بدلًا من الصفوف الأمامية، فترة التجنيد والتدريب العسكري نفسها، وما تتضمنه من إذلال ممنهج للمجندين بغرض محو هوياتهم وتجريدهم من كل ما يعتقدونه بشأن العالم، استعدادًا لتبنِّي معتقد «الدولة» في المقابل.
نسخة المخرج «ستانلي كوبريك» (Stanley Kubrick) للجيوش هي الأكثر صدقًا وانحيازًا للفرد، فالجيوش إذلال،الجيوش مهانة، الجيوش طمس للهوية، و«كوبريك» لم يكذب علينا في ذلك.
في مديح الرداءة.. في مديح الشغب
تحت طبقات التسلية تُوصَّل الرسائل، وتُدفن عميقًا في نفس المتلقين؛ لجلب التعاطف وشحذ الأتباع.
في مارس عام 2014، أطلت المخرجة المصرية ساندرا نشأت بفيلمها الترويجي القصير «بحلم»؛ لدعوة المواطنين للمشاركة في الاستفتاء على الدستور. كان هذا بعد مُضيِّ شهور قليلة على «مجزرة رابعة العدوية»، وخرج الفيلم دعايةً مضادة للدعوات المعارضة التي تطالب بمقاطعة الاستفتاء.
أذكرُ أني استمتعت بمشاهدة الفيلم حينها بغضِّ النظر عن توجهه السياسي. على الأخص، أتذكر صوت «أبلة فضيلة» بينما تحكي بنبرتها المألوفة عن أحلام الأطفال.
ربما يكون هذا هو محور الالتباس بخصوص استخدام السينما كدعاية، فعلى عكس الكلمة المكتوبة أو المسموعة، التي تعتمد على قوة المحتوى ودرجة جاذبية المتكلم، يصل الفيلم باعتماده على الصورة إلى الجماهير من خلال تسريب المشاعر، الفيلم لا يحتاج مثقفين أو قراء، الفيلم يقدر على استهداف شريحة واسعة من الجماهير، يعدهم بليلة مسلية ومريحة، وتحت طبقات التسلية تلك تُوصَّل الرسالة، وتُدفن عميقًا في نفس المتلقين لجلب تعاطف وشحذ أتباع.
المشكلة تكمن في كون بعض الأفلام الدعائية متقنة الصنع، في النهاية تنتهي الحروب، يموت القادة ويحل محلهم قادة جدد. تُنسى ملابسات السياسة في خضم الزمن. بعد سنوات، ربما تُطمس ملامح استفتاء مارس والحملات المعارضة له. يجيد القادة تنظيف التاريخ من مخلفاتهم، يعرفون جيدًا كيف يُعيدون صياغته. يعبئ كلٌّ منهم الصورة التي يريد للتاريخ أن يذكره بها في بَكَرة سينمائية، ويترك البقية للزمن.
بعد سنوات، وبنسبة غير هيِّنة، لن أقوى على تذكر أسبابي الخاصة لمقاطعة الاستفتاء على الدستور، بعكس الفيلم الذي ما زلت أستمتع بمشاهدته، لأنه متقن الصنع، ولأنه وثائقي، ولأنه فيلم عن الناس.
وبعكس الخطب السياسية المتكررة التي نحرص جميعًا على إخلاء رؤوسنا منها، ستعلق مزحة الطفل الصغير في نهاية الفيلم داخل رأسي لسنوات: «نفسي أطلع مهندس.. دكتور يعني». تبقى فقط الحكاية المعبَّأة على شريط سينمائي بصري أثرًا أخيرًا، وتتحول بمرور الوقت لتصبح هي الحقيقة.
لكن سيظل هناك المشاغبون، أمثال «كوبريك» وعاطف الطيب، الذين يروون التاريخ كما رأوه وكما شهدوا عليه؛ لحفظ سردية السينما له. وسيبقى الحانقون، أمثال «أوليفر ستون» (Oliver Stone)، الذي ذهب للجبهة وعاد ليقص علينا حقيقة الحروب كما هي، لا كما تريد لها الدول أن تكون. صانعو النشاز أولئك، والخارجون عن النسق بتفضيلهم سرد حكايات المُرغَمين، هؤلاء هم صُنَّاع الذاكرة البديلة، الأكثر صدقًا والأكثر نبلًا والأكثر انتصارًا للإنسانية.
يُفرغ «سبع الليل» ذخيرته كاملةً في وجه قادة كتيبته في نهاية فيلم «البريء»، ويقتل «ليونارد» نفسه في نهاية (Full Metal Jacket) بدلًا من تخريبه في فوضى الجيوش، بينما يموت «بول» على الجبهة في نهاية (All Quiet on the Western Front) في أثناء محاولته اصطياد فراشة، لأن معمعة الحروب لم تُجرده من ذاته تمامًا، ولأن الأشياء كلها تحدث على الجبهة، ولأن الحروب كريهة، لكن الإنسانية عكس ذلك.