الست، أم كلثوم، أعظم من قدّم أداءً على خشبة المسرح، بقدرتها على الارتجال وتقديم الأغنية كل مرة بشكل وتفريدات جديدة، تزيد الأغنية جمالًا وسلطنة. وفرقة أم كلثوم كانت سببًا كبيرًا في كل هذه التجليات والإبداعات، فكل فرد فيها كان له دور مهم في إخراج العمل بذلك الشكل الموسيقي العظيم. لذا، فرقة أم كلثوم هي أحد أهم أسباب نجاح الست وأغانيها.
كانت بداية أم كلثوم قبل وصولها إلى القاهرة وحتى بعد استقرارها بفترة، كانت تغني بصحبة «البِطانة» من أسرتها، على رأسهم والدها إبراهيم البلتاجي، كانت تغني دون موسيقى، لكن بعد نجاحها في القاهرة وبداية صناعة أغانٍ خاصة لها خارج إطار المدائح والابتهالات، كان لا بد من تَخْت يصاحبها في الغناء.
أول تخت مصاحب لأم كلثوم جمع أهم وأمهر عازفي الموسيقى في تلك الفترة: محمد أفندي العقاد على القانون، وعازف العود الأشهر محمد القصبجي، وسامي أفندي الشوا على الكمان، وإبراهيم أفندي عفيفي على الرق.
بدأت أم كلثوم في أواخر عشرينيات القرن الماضي بتلك الفرقة، وطرأ عليها بعض التعديلات والإضافات، فحل إبراهيم العريان بدلًا من العقاد، ثم جاء عبده صالح ليكمل المسيرة حتى رحيل الست، وجاء أيضًا كريم حلمي عازف الكمان، وجرجس أفندي سعد عازف الناي، ويوسف عبد الله عازف الفيولونسيل (الفيولا).
كان كل ذلك قبل دخول أم كلثوم السينما، فمع بداية عملها في السينما عام 1936، احتاجت لزيادة أعداد الفرقة، فجاء أحمد الحفناوي على رأس الكمان، وعباس فؤاد على الكونترباص، ثم سيد سالم على الناي مع تسجيل قصيدة النيل، هو وعازف الكمان محمود الجرشة، اللذان قدمهما رياض السنباطي إلى أم كلثوم، وكان السنباطي أكثر من اكتشف وقدّم موسيقيين إلى الفرقة.
أحبّت الست فترة عبده الحامولي ومحمد عثمان، الفترة التي كانت تسبقها في الغناء، وكانت ترى أن هذا هو الغناء والطرب. في ذلك الوقت، كانت الفرق تعمل دون نوتة موسيقية، ويرتجل المطرب على المسرح ويغير ويضيف في اللحن، والفرقة تتحرك وراءه بكل دقة وإتقان، ومن هنا كان تصور أم كلثوم لفرقتها التي سترافقها حتى رحيلها عام 1975.
كان الشرط الأول لدخول فرقة أم كلثوم أن يكون العازف قادرًا على قراءة النوتة، رغم عدم استخدام الفرقة النوت الموسيقية، والثاني أن يكون موهوبًا وماهرًا جدًّا، لأن العزف سيكون دون نوتة. لن ترى حفلة لأم كلثوم وأمام الفرقة نوتة موسيقية، كانت الست تتبع فكرة أن يتشرب العازفون اللحن من الملحن ومن البروفات العديدة، وترك مساحة من التحرك ولو قليلة للفرقة.
هذه الميزة جعلت الفرقة تتحرك بحرية أكثر، فيخرج اللحن كما لو أنها جلسة سلطنة، لذلك كل حفلة لها طعمها الخاص، وكان ذلك يجعل أم كلثوم أكثر حريةً في الغناء والارتجال. وكانت الفرقة في بدايتها تحت قيادة القصبجي، ثم انتقلت القيادة إلى عبده صالح.
كان للقيادة دور مهم جدًّا على المسرح، فبجانب الشروط السابقة، كان على العازف في فرقة أم كلثوم أن يحفظ أغلب ما غنته أم كلثوم سابقًا، وهو تاريخ ربما يمتد إلى 20 سنة مضت، وذلك لأن الست يمكن أن تختار أي أغنية قديمة تغنيها في الحفلة، البروفات فقط للألحان الجديدة، وكانت أم كلثوم لا تقرر ما ستغني بجانب الأغنية الجديدة إلا بعد أن تلقي نظرة على الجمهور، لذلك كان لا بد للفرقة أن تكون جاهزة في أي وقت، علمًا بأنه لا توجد نوت موسيقية، كل العزف من الذاكرة.
هنا كان يأتي دور عبده صالح: الحفاظ على اللحن وعدم خروج الفرقة عنه، خصوصًا عند تشابه مقاطع لحنية مع بعضها في أجزاء، فيمكن للعازف أن يخطئ أو يسرح في أغنية أخرى، فينبه الفرقة بدقات على آلة القانون. وكان لإبراهيم عفيفي عازف الرق دور مهم أيضًا في مساعدة أم كلثوم للحفاظ على الإيقاع، بخاصة عند الارتجال، وكانت تقول إنه «يسترها». ويعتبر عفيفي أعظم من عزف على الرق في تاريخ الموسيقى العربية، وقد جاء بعد رحيله عازف الرق حسين معوض.
كانت أم كلثوم تترك مساحة للصولوهات، فتجد عبده صالح يقسِّم ويرد عليه الحفناوي، ثم يختم القصبجي.
رغم أن عازفي الكمان كانوا قاسمًا مشتركًا بين فرقة أم كلثوم و«الفرقة الماسية»، كان هناك فارق كبير في موسيقى الفرقتين بسبب ما ذكرناه عن العزف دون نوتة موسيقية، وكذلك اختلفت الفرقتان في وجود آلة العود والقصبجي عند أم كلثوم.
اقرأ أيضًا: الست والأفندي والفوضوي: في مديح الصراع بين السنباطي وبليغ
كانت فرقة أم كلثوم تتعامل مع أكثر اثنين صرامةً في الوسط الفني: الست ورياض السنباطي، لا مجال للمزاح أو التأخير عن ميعاد البروفة أو أي شيء من ذلك، الالتزام والجدية كانا سر فرقة أم كلثوم.
كانت أم كلثوم تترك مساحة للصولوهات، فتجد عبده صالح يقسِّم ويرد عليه الحفناوي، ثم يختم القصبجي. وكانت هناك إبداعات خارج المتوقع، مثل ما فعله سيد سالم ذات مرة، لدرجة أن الست قالت «إيه ده» من فرط الجمال. وكان لسالم دور مهم أيضًا هو تلقين الكلام للست إذا نسيت، خصوصًا في الفترة الأخيرة من عمرها.
اقرأ أيضًا: «تاني والنبي يا ست ده أنا جايلك من طنطا»: عن تفاعلنا مع الموسيقى
مع دخول أم كلثوم عالم بليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب، كان لا بد من إدخال عناصر جديدة إلى الفرقة، مثل الأكورديون مع فاروق سلامة، والأورغ مع مجدي الحسيني وهاني مهنا، والغيتار مع عمر خورشيد، بعد أن كان عازف الكمان عبد الفتاح خيري يؤدي الجزء الخاص بالغيتار.
كانت أم كلثوم حريصة على المال، لذلك رفض عبده داغر الاستمرار في فرقتها وعمل سمير سرور في الأفراح، فغضبت وعاقبته بعدم العمل معها.
كذلك، شارك سامي سرور «عاشق الساكس» مع أم كلثوم في عدة أغانٍ، وكان هناك تنافس واضح بين بليغ وعبد الوهاب في استخدام الوافدين الجدد، وكان لقاء العازفين الجدد بأم كلثوم أمرًا مخيفًا بالنسبة إليهم، مخيفٌ أن تقف أمام أم كلثوم، فما بالك بأن تكون ضمن فرقتها وعليك جزء كبير من مسؤولية الأغنية.؟
ورغم كل البروفات والاستعداد للحفلات، كان الخطأ واردًا، خصوصًا مع عدم الخبرة والرهبة من الجلوس وراء أم كلثوم وأمام كل هذا الجمهور، فنجد الفرقة تخطئ مرتين في نفس الأغنية بسبب سمير سرور، وينظر أعضاء الفرقة إلى سمير ولسان حالهم يردد: «الست هتطلّع عينّا بسببك». وفي المرة الثانية ترتبك الفرقة، ويعيد القائد عبده صالح الفرقة إلى البداية، وترجع أم كلثوم إلى الوراء عدة خطوات، كل ذلك حدث في أغنية «فات المعاد».
كانت أم كلثوم حريصة على المال، لذلك رفض عبده داغر الاستمرار في فرقتها، وعمل سمير سرور في الأفراح، فغضبت عليه وعاقبته بعدم العمل معها. وعندما رأت مجدي الحسيني لأول مرة وهو شاب لم يكمل العشرين، قالت للسنباطي: «إيه العيل ده؟»، وأجبرته في البداية على العزف وهو جالس، حتى سمحت له بالوقوف.
كانت أم كلثوم تتابع دَوْزَنة الآلات الوترية بنفسها قبل بدء الحفل، وتتأكد من كل شيء خاص بالفرقة، تصنع كل ذلك وهي ترتدي المعطف، ولا ترى الفرقة فستانها إلا مع الجمهور. كانت الست تهتم بكل تفاصيل الفرقة وأعضائها، لأنها تعلم أن روحها في أيديهم، وكلما كان أداء الفرقة جيدًا، كان ذلك في صالحها وصالح الأغنية وخلودها.