اليوم ماتت أمي: كيف يفترض أن تُترجم أول جملة في رواية «الغريب»؟

الصورة: Molly

معاذ أبو معطي
نشر في 2019/12/29

يعتمد كثير من الروايات في قبولها بين القراء على مقدمتها. فكلما كانت بداية الرواية مشوقة ومثيرة في أسلوبها وصياغتها، راجت ولاقت قبولًا أكثر. بالنسبة للقارئ، الأسطر الأولى من أي رواية مؤشر مهم على مدى متانتها، لغويًا على أقل تقدير.

كانت ترجمة أول جملة لرواية الأديب الفرنسي ألبير كامو «الغريب» محط جدل واسع في ما مضى، فتركيبها واختيار مفرداتها قد يؤثر في تصور الرواية بأكملها. يطرح «ريان بلوم» رأيه حول هذا الموضوع، ويحلل الخيارات في مقال نشره على موقع «The New Yorker»

الغريب: المعضلة

لقطة من مسرحية «الغريب» - الصورة: Mostafameraji

يرى بلوم أن مقدمة رواية «الغريب» لألبير كامو أصبحت ما يخطر على بال القارئ الأمريكي حينما يجري الحديث حول العبارات الأدبية في الأدب الفرنسي: «اليوم، ماتت أمي». بغض النظر عن التفاصيل الأساسية، تعتبر أول جملة من الغريب بسيطة جدًا، لدرجة أن أي طالب يتعلم أساسيات اللغة الفرنسية يستطيع ترجمتها بسهولة. لكن لماذا لم يستوعب مناصرو الرواية هذه الجملة حتى الآن؟

يبين ريان بلوم في مقاله أن هناك خيارين بسيطين وثانويين في ظاهرهما ضمن الجملة الأولى بإمكانهما تغيير كل ما يأتي بعدهما. ما يجعل هذين الخيارين شائكين أنهما يعيدان نقاشًا قديمًا، فيطرح الكاتب تساؤلًا لا يزال قائمًا في المجتمع الأدبي: «هل من الضروري أن يكون المترجم قريبًا من مؤلف العمل الذي سيترجمه كي ينتج أفضل ترجمة ممكنة؟».

بحسب المقال، يرى «آرثر غولدامر»، الذي ترجم العديد من افتتاحيات كامو في صحيفته الفرنسية «كومبات»، أن الاعتقاد بأن الترجمة الجيدة تتطلب نوعًا من التعاطف الروحاني بين المترجم والمؤلف مجرد «هراء». ومع أن وصف «روحاني» فضفاض بعض الشيء، فإنه يصعب قراءة جملة كامو الأولى المشهورة، أيًا كان المترجم (ستيوارت غيلبرت، جوزيف لاريدو، كيت غريفيث، ماثيو وارد بدرجة أقل) دون الاعتقاد بأن قليلًا من التقارب بين المترجم والمؤلف كان حريًا بمنع تحوير النص إلى معانٍ لم يقصدها كامو.

يؤرخ بلوم بشكل موجز ترجمات الرواية، إذ إن «ستيوارت غيلبرت»، الباحث البريطاني والصديق المقرب للروائي الأيرلندي «جيمس جويس»، هو أول من ترجم رواية «الغريب» إلى الإنجليزية.ففي عام 1946، ترجم غيلبرت عنوان الكتاب إلى «الدخيل» (The Outsider)، وترجم الجملة الأولى إلى «ماتت والدتي اليوم» (Mother died today)، وهي ترجمة بسيطة وموجزة، وخاطئة.

قدم كل من «جوزيف لاريدو» و«كيت غريفيث» ترجمتين حديثتين للرواية في عام 1982، عدل كلاهما العنوان فاتفقا على «الغريب» (The Stranger)، ولكنهما نقلا الجملة الأولى كما ترجمها غيلبرت. بقيت «ماتت والدتي اليوم» كما هي حتى عام 1988، حين تغيرت كلمة واحدة فقط. كان صاحب هذا التغيير هو المترجم والشاعر الأمريكي «ماثيو وارد»، الذي استبدل بكلمة «Mother» كلمة «Maman»، التي تعني بالفرنسية أمي، لكنها أكثر حميمية من مرادفها المعروف والدتي.

 يتساءل المقال: ما الذي يمكن تغييره من خلال كلمة واحدة؟ ثم يجيب بتدرج: يعتمد جزء كبير من رؤيتنا، ومن ثَم حُكمنا، بالإضافة إلى المحكمة في الرواية، لشخصية «مورسو» على تصورنا لعلاقته مع والدته. فإدانتنا له أو تبرئته ترجع إلى تقييمنا له كشخص، لا إلى الجريمة التي ارتكبها. هل يحب والدته؟ أم هو جامد تجاهها، غير مكترث لها أصلًا؟ 

يوضح بلوم أهمية اختيار المفردة ولو حملت نفس المعنى العام، فهي تختلف في صفاتها ودرجاتها. الانطباعات الأولية مهمة، فقد عرف القراء الأمريكيون مورسو بطل الرواية طوال 42 عامًا من خلال جملته الرسمية: «ماتت والدتي اليوم» (Mother died today). هناك القليل من الدفء، القليل من الحب أو القرب أو الوثاق في كلمة والدتي (Mother)، فهي كلمة ساكنة، مصطلح اعتيادي، ليست من الكلمات التي نعبر بها عن كائن يعيش ويتنفس، كائن تربطنا به علاقة وطيدة. هذا سيكون كتسمية كلب العائلة «كلب»، أو دعوة رب الأسرة «زوج». تجبرنا هذه الكلمة على النظر إلى مورسو كشخص لا تربطه علاقة متينة بالمرأة التي حملت به وأنجبته.

الضياع في الترجمة

لقطة من مسرحية «الغريب» - الصورة: Mostafameraji

ماذا لو قُرئت أول جملة «Mommy died today»؟ كيف سنرى مورسو حينها؟ سيكون الانطباع الأولي بأن المتحدث طفل غالبًا. فبدلًا من الجمود الذي سيعترينا، سنشعر بالإشفاق أو التعاطف. لكن هذا سيخلق تصورًا غير دقيق عن مورسو أيضًا.

الحقيقة بالنسبة إلى بلوم أن أيًا من الترجمتين «Mommy» و«Mother»، لا تعطي المدلول الصحيح للنص الأصلي. تقع المفردة الفرنسية «Maman» في مكان ما بين الطرفين، ليست بالجامدة والرسمية (Mother)، وليست بالطفولية كليًا (Mommy).

 قد تكون «Mom» هي المرادف الأقرب لمفردة كامو بالإنجليزية، لكن تشوب مفردة المقطع الواحد هذه بعض الحدية وعدم الاتساق. وعلى النقيض منها، مفردة المقطعين «Maman» فيها لمسة من الدفء والنعومة.

ما الحل إذًا؟

يتساءل المقال: كيف لمترجم اللغة الإنجليزية تجنب التأثير غير الضروري على القارئ؟ 

يبدو أن ماثيو وارد (آخر مترجم للرواية) فعل الأمر المنطقي الوحيد: لا شيء. نقل مفردة كامو كما هي، مقدمًا الجملة الأولى المشهورة: «Maman died today». قد يُقال إن وارد أتى بمشكلة جديدة: فالآن، يواجه القارئ الأمريكي مصطلحًا أجنبيًا من أول جملة يقرؤها، مما يخلق تشوشًا غير مسبوق. مع ذلك، تعتبر ترجمة وارد عبقرية، ويرى كاتب المقال أن هناك ثلاثة أسباب توضح لماذا يعتبر حله الأمثل.

أولًا: لأن مفردة «Maman» الفرنسية مألوفة إلى حد مقبول لقارئ اللغة الإنجليزية حتى يحلل معناها. يبدأ الأطفال في جميع أنحاء العالم بأبسط الأصوات حينما يتعلمون تشكيل الكلمات من خلال التمتمة. وفي لغات كثيرة، تعتبر الأصوات الشفاهية مثل «م» و«ب» و«د»، بالإضافة إلى صوت العلة «أ»، ضمن أسهل الأصوات في الإخراج. وبالتالي، نجد أن الأطفال في البدء يشيرون إلى والدتهم بنطقهم «ماما». حتى في لغة تبدو مختلفة كالمندرينية الصينية نجد نفس اللفظ تقريبًا «Mãma»، وفي لغات جنوب الهند «Amma»، أما في النرويجية والإيطالية والسويسرية والأيسلندية، كما في كثير من اللغات، فتُستخدم «Mamma». فلفظ «Maman» في الفرنسية مجانس تمامًا لما سبق، مما يسهل فهم الكلمة على قارئ اللغة الإنجليزية.

تظل «Maman» أكثر ألفة وطبيعية من «Mother»، فهي تقربنا أكثر إلى أصل كامو.

ومع مرور السنين، يزداد فك انعزال الأجيال الحديثة من القراء الأمريكيين، وهم غالبًا ما يواجهون كِتاب كامو في المرحلة الثانوية، فاستعمال كلمة فرنسية الأصل في أول جملة بدلًا من الخيارات الإنجليزية الأخرى، يساعد في إخطار القراء بأنهم على وشك دخول عالم مختلف عن عالمهم.

ثانيًا، والسبب الأهم في اعتقاد الكاتب: أنه ربما لن يُضمر القارئ الأمريكي أي تصور مسبق حول مفردة «Maman»، بل سيفهمها بسهولة وسكينة، فلن تكون حملًا ثقيلًا، ولن تزرع أفكارً بعيدة في رأسه. لن تجعله هذه المفردة ينظر إلى مورسو كشخص جامد خالٍ من المشاعر، ولا حتى كشخص مفرط في الحب والمشاعر.

وعلى الرغم من ضياع ضبط الكلمة بالنسبة لقارئ اللغة الإنجليزية، تظل «Maman» أكثر ألفة وطبيعية من «Mother»، فهي تقربنا أكثر إلى أصل كامو، وفقًا لبلوم.

ماتت أمي، أم أمي ماتت؟

مسرحية «الغريب» - الصورة: Mostafameraji

إذا كان ماثيو وارد قد حل مشكلة الأم أخيرًا، فما الذي أخطأ هو وغيره من المترجمين في تقديره إذًا؟ 

يقول الكاتب «غاي دامان» معلقًا على أول جملة من رواية «الغريب»: «تكون بعض الافتتاحيات موحية للقارئ، حتى تبدو وكأنها تحرق ثقبًا عبر الكتاب كاملًا، كتناغم الرنين اللفظي مع ثبات الثيمة الأولى في سيمفونية بيتهوفن الخامسة».

يتحدث بلوم عن البعد اللغوي، إذ توحي طلاقة المترجمين اللغوية لهم بأن جملة «Aujourd’hui, maman est morte» الفرنسية ليست أكثر الجمل سلاسة في التركيب اللغوي الإنجليزي. ولذلك، بدلًا من استخدام ترجمة حرفية صرفة «اليوم، ماتت أمي» (Today, mother died)، استُخدم التركيب التالي: «ماتت أمي اليوم» (Mother died today)، فهي أرق وأبسط وقعًا. وهنا تساؤل مهم جدًا يطرحه بلوم: «عندما نغير تركيب الجملة، فهل يتغير معه منطقها ، ومعناها الروحاني العميق؟».

الجواب هو «oui» (نعم) دون شك.

تهمل هذه الترجمة «أمي ماتت اليوم» (Mother died today) التسلسل الدقيق للأحداث، والذي يصور لنا مكنون مورسو. سيتسنى للقارئ خلال قراءته للرواية أن يرى مورسو كشخصية تعيش اللحظة أولًا وقبل أي شيء آخر. فهو لا يعيش في الماضي بكامل وعيه، ولا يحسب حساب المستقبل، فالعامل الأهم والأوحد لديه هو الحاضر.

كذلك «Maman» ليست بالماضي البعيد. يبين الكتاب بعدًا مهمًا لمؤلف الرواية: كانعكاس لحياة كامو نفسه، يعيش مورسو علاقة فريدة مع والدته بسبب عدم قدرتها على التواصل بشكل طبيعي (كانت والدة كامو أمية، صماء جزئيًا، لا تستطيع التحدث جيدًا). يتوق كلاهما، كامو ومورسو، إلى «Maman»، إلى سعادتها وحبها، لكن يصعب عليهما التعبير عن هذه المشاعر. فبدلًا من إبعاد الأم عن ابنها، يضع هذا التوتر «Maman» مركزًا لحياة ابنها. فكما استفتحت الرواية، يجعل فقد «Maman» مكانتها بين قدرة مورسو على العيش للحاضر وإدراكه لزمن لا نصيب للحاضر فيه.

رمزية رواية «الغريب»

ألبير كامو

يؤمن بلوم، كما يبدو في مقاله، بأن الرواية تناقش الفقد بالدرجة الأولى، فيبرر: «يحرك الفقد أحداث الرواية، يقودها إلى النهاية الحتمية، إلى المرحلة الأخيرة، إلى ما يتدلى فوق كل شيء عداه: الموت. يربط كامو في بداية الكتاب بين وفاة والدة مورسو والشمس الأبدية الغاشمة، حتى إذا وصلنا إلى ذروة الرواية في مشهد الشاطئ تتضح لنا الرمزية: الشمس ترمز إلى فقد الأم، وهذا ما دفع مورسو إلى سحب الزناد». يوضح كامو الرمزية في هذا الاقتباس: «... كانت نفس شمس ذاك النهار الذي دفنت فيه أمي، ومثلما حدث لي وقتها، صار جبيني يؤلمني، وأخذت كل عروقي تنبض تحت جلدي». وبينما ينفك الزناد، يظهر لنا أن البداية، كما الحاضر، تمر بفقدان «Maman» حتى تستسلم إلى الموت، وهي النهاية.

يلخص بلوم تحليله ورأيه في هذا الجدل: «لم يكن ترتيب كامو لكلمات الجملة الأولى اعتباطيًا، فقد قاطع موت «Maman» اليوم (الحاضر). ينبغي أن تكون الترجمة الإنجليزية لهذه الجملة التي ناقشناها في رواية «الغريب» هكذا : «اليوم، ماتت أمي» (Today, Maman died).

رغم صغر المشكلة ظاهريًا، فإن ملحظ الكاتب مهم جدًا ومفتاحي لكثير من قضايا الترجمة، فكثيرًا ما يصعب على المترجم إيجاد المرادف الدقيق، وقد لا يجد مرادفًا يحمل نفس المدلول. نقل المفردة كما هي، ومن ثَم شرحها في حاشية، قد يكون الحل الأمثل فعلًا.

مواضيع مشابهة