ملحوظة: يحتوي هذا الموضوع على حرق لأحداث مسلسل «The End of the F***ing World».
سمعتُ عن مسلسل «The End of the F***ing World» بالصدفة. كنت أبحث عن مقطوعة موسيقية من فيلم أحبه تحمل عنوانًا مشابهًا. دفعتْ به محركات البحث أمامي عوضًا عن المقطوعة، انجذبتُ إلى عنوانه، فقررت مشاهدته.
على غير العادة لم يستغرق تحميله سوى بضع ساعات، ثم بضع ساعات أخرى شاهدته فيها، ثم قرار مفاجئ بأنه أصبح واحدًا من مسلسلاتي المفضلة. تمامًا كما يلتقي إنسان إنسانًا آخر غريبًا عنه، ليتخذ هذا الإنسان مسارًا مختلفًا عمن سبقوه، وتحدُث الألفة، وتتطور إلى ما هو أسمى، ولا يبقى على لسان المرء تلخيصٌ لهذه التجربة الفريدة سوى جملة واحدة يقولها مبتهجًا فى كل مناسبة: «كل شيء حدث بسرعة».
نهاية العالم: بطل مشوَّه، وبطلة تحاول الهرب
فتى يُدعى «جيمس» يبلغ 17 عامًا، يوقن أنه مختل عقليًّا، يبدأ في تقديم نفسه، يقول إنه اكتشف هذا الأمر حينما كان يبلغ من العمر ثماني سنوات، والذي هداه إلى هذا التصور أنه كان لا يمتلك حس دعابة، فهو لا يضحك على نكات أبيه، بل إنها تثير حنقه، وتزيد من رغبته في أن يلكم الأب في وجهه. لم يكن هذا فقط ما اكتشفه جيمس عن نفسه، فقد اكتشف أيضًا أنه لا يمتلك أي مشاعر إنسانية تجاه من حوله، إلى الحد الذي دفعه لوضع إحدى يديه في مقلاة ليجبر نفسه على الشعور بأي شيء، مشوهًا يده إلى الأبد.
لم يتوقف الأمر عند هذا، ففي سن 15 عامًا ارتكب جيمس جريمته الأولى، عندما استدرج قطة جاره وقتلها، ثم قتل بعدها كثيرًا من الحيوانات والطيور والحشرات، ولا يزال يتذكر كل واحد منها بوضوح شديد.
تبدأ القصة، أو بالمعنى الأصح «المغامرة» عندما يقرر جيمس أنه اكتفى من قتل الحيوانات، وصار في حاجة لقتل شيء أكبر: إنسان آخر.
يدفع إليه القدر بـ«إليسا»، إحدى زميلاته في المدرسة، فتاة جميلة، وغاضبة، ولا تنتمي إلى شيء مثله تمامًا. تخترق وحدته بوقاحتها المدهشة. تنجذب إليه لأنه يبدو كمَخرج من حياتها المملة، وينجذب إليها لأن قتلها سيكون مثيرًا للاهتمام كما يروي جيمس نفسه.
اقرأ أيضًا: مسلسلات الإنترنت: هل نودع التلفزيون قريبًا؟
المونولوج كسردية للتعبير
هناك ثلاثة محاور لتحليل شخصية بطلَي المسلسل جيمس وأليسا:
- ما يحدث فعلًا
- مشاعر كلٍّ منهما تجاه ما يحدث وما هو موشك على الحدوث، التي نعرفها عن طريق روايتهما
- أغنيات المسلسل، التي لم توضع بشكل عشوائي، بل كانت بمثابة راوٍ ثانٍ للأحداث
لكن هذا الراوي لا يعارض الراوي الأول أو يؤيده في ما يروي، بل يؤكد أنه رغم غرائبية أحداث القصة، فإنها حدثت من قبل، ومن المحتمل أنها ستتكرر إلى الأبد، لسبب بسيط: الأغاني لم تُكتَب خصيصًا لهذه القصة، لكنها بالرغم من ذلك كانت أكثر صدقًا ودقة وأمانة في نقل أحداثها.
تحكي إليسا أن والدها شرَّع لها السرقة في حالة واحدة: أن تكون من سلسة متاجر وليس متجرًا متواضعًا: «كان مثل روبن هود».
ليست المرة الأولى بالتأكيد التي نستمع فيها في أي عمل فني إلى مونولوج داخلي لأبطاله، كاشفًا عن صراع، أو تناقض، أو عن عمق يميز الشخصية. لكن استخدام هذا المونولوج الداخلي طوال المسلسل كانت له وظيفة مختلفة عما اعتدناه، فقد كان مثيرًا للضحك في أحيان كثيرة، إذ يكشف لك عن تصورات الشخصية عن نفسها، لتفاجأ في نفس المشهد بما هي عليه حقيقةً.
يكون هذا محزنًا في أوقات أخرى، عندما يكشف التناقض عن عزلة صاحبه الذي يضطر دائمًا إلى أن يقول عكس ما يعنيه ليحصل على الأمان في هذا العالم بادِّعاء قوة زائفة. وأخيرًا، عندما تكشف هذه التقنية عن تطور الشخصية ونضجها، حين يتطابق مونولوجها الداخلي مع ما تقوله وتفعله في الواقع.
تعيش إليسا في منزل جميل مع أمها وزوج أمها، وطفليهما التوأمين. حياة تبدو مثالية غير أنها ليست كذلك، فزوج الأم رجل قاسٍ ومتلاعب، يتحرش بها لفظيًّا وجسديًّا، ووالدتها على دراية بذلك، لكنها اختارت منذ زمن بعيد أن تتظاهر بأنها لا تدرك شيئًا مما يحدث، مفضلة الأمان المادي الذي يوفره الزوج.
أما والد إليسا، فقد هجرهم وهي في الثامنة من عمرها أيضًا، لكنها لم تكرهه، بل فسرت ذلك بأنه مثلها لم يشعر بالانتماء. رسمت له صورة مثالية في ذهنها، كان لصًّا في ما مضى، وعلَّمها أيضًا السرقة، لكنه، كما تحكي، شرَّع لها السرقة في حالة واحدة: أن تكون من سلسة متاجر وليس متجرًا متواضعًا. في هذه الحالة فقط لا يُعد الأمر سرقة. تبتسم وهي تتذكر نصائحه، ثم تقول: «كان مثل روبن هود».
ولأن الجميع بحاجة إلى بطل، تقرر إليسا الهرب من منزلها واصطحاب جيمس للذهاب إلى والدها.
ماذا يجب عليك فعله لتتماشى مع تصوراتك عن نفسك؟
بدأ الأمر بأن تصوَّر جيمس أنه مختل عقليًّا، وقاتل بالفطرة. كان من الممكن أن يسلك المسلسل مسارًا تقليديًّا بأن يجعل البطل يتخلى عن وساوسه حين يقع في حب الفتاة الجميلة. هذا ما يحدث فعلًا، لكنه ليس السبب الوحيد في هذه الحالة. فكي يدرك جيمس أنه ليس مختلًّا عقليًّا، ولا قاتلًا أيضًا، عليه أن يقتل فعلًا. لكنها جريمة غير مدبرة هذه المرة، بل كانت نتاج قرارات خاطئة أدت إلى خروج الأمور عن السيطرة، وكانت كذلك رد فعل قد يصدر عن شخص طبيعي دفاعًا عن نفسه وعن من يحب.
«أشعر بالفخر، لقد قتلنا قاتلًا متسلسلًا، وأدرنا ظهرنا للقانون».
من كان ليصدق أن أكثر مَشاهد المسلسل إرضاءً للذات هو مشهد القتل الذي نهابه منذ بداية الأحداث، وأن القتيل سيكون مغتصبًا وقاتلًا متسلسلًا؟
«أن تكون مجنونًا في عالم مختل، هذا ليس جنونًا، بل تعقُّل».
طوال أحداث المسلسل نرى إليسا ترتدي سترة والدها الجلدية، وترفض التخلي عنها تمامًا، حتى بعد جريمة القتل حين وجب حرقها مع كل ملابسهما القديمة المغطاة بالدماء، وكل ما يدل على وجودهما في منزل القتيل. كان جليًّا كيف أحبت والدها، وكيف تطلعت إلى لقائه من جديد.
تنجح في الوصول إليه أخيرًا في العربة المتنقلة التي يعيش فيها. كانت تهاب لقاءه بقدر تطلُّعها إليه. كانت تخشى أن تشعر بالرفض ثانية، أو أن تجد نفسها تتطلع مرة أخرى إلى صورة جديدة لا تماثل تلك التي تحتفظ بها في ذاكرتها، صورة لا تنتمي إليها.
لكنها تجده كما تتذكره بالضبط: مرحًا، ومتفلسفًا، ولا يكف عن إلقاء الحِكم التي ألَّفها هو نفسه. ولاحقًا، ستكتشف إليسا أيضًا أنه ما زال جبانًا، أنانيًّا، لا يجيد شيئًا سوى الهروب.
هناك مشهد عظيم يرمز إلى تلاشي صورة الأب البطل بداخلها إلى الأبد، عندما تكتشف أن لديه ابنًا لم يخبرها عنه، ابن يتهرب منه أيضًا، تمامًا كما فعل معها. وفي لحظة المصارحة والتضييق، نجده يستقل سيارته ليهرب من المواجهة، فيدهس جروًا صغيرًا، ثم لا يهتم بالعودة للاطمئنان على الحيوان المسكين.
تنكسر رقبة الجرو، لكنه لا يموت، فقط يتألم. يتفق جيمس وإليسا على ضرورة قتله لإراحته من العذاب، فينظر إليه جيمس ويبكي بشدة لأول مرة، ولا يقوى على قتله، فتفعلها هي، ثم تلفه في سترة والدها وتدفنه بها، وكأنها تدفن معه هذا الحب البريء الذي ربَّته داخلها تجاه والدها عامًا بعد عام، ولامت نفسها على فقدانه طوال السنوات الماضية.
اقرأ أيضًا: مسلسل «Thirteen Reasons Why»: كيف تستخدم نقاط ضعفك لتقديم دراما جذابة؟
لماذا لا يعيش هذان المراهقان قصة حب طبيعية؟
ما سبب تَشوُّه هاتين الشخصيتين، ذلك الذي نعرفه منذ اللحظات الأولى للمسلسل، ويستمر معنا حتى نهاية حلقاته؟
أهي والدة جيمس، التي انتحرت أمامه وهو في الثامنة من عمره، لا لتقتل نفسها فقط، بل لتقتل طفولته وبراءته إلى الأبد؟ أهو والده، الذي ظن أنه من الحكمة أن يعيش عمره متفاديًا الحديث عن تلك الحادثة؟ أهو والد إليسا، الذي أتى بها إلى هذا العالم فقط ليتخلى عنها؟ أهي والدتها، التي عجزت عن تخصيص مكان لها في أسرتها الجديدة؟
هذا سر جمال المسلسل، أنه يستعرض كل هذا دون الاستناد إلى شعور واحد، فالرحلة التي خاضها البطلان مزيج من كل المشاعر الإنسانية التي يحسُّها الناس بشكل يومي. الفارق في مسلسل «The End of the F***cking World» أن البطل بدا وكأنه يختبر هذه المشاعر لأول مرة.