منذ ظهرت الفلسفة كفكرة بشرية، كانت مُشبَّعة بالأسئلة والمحاولات اللانهائية لتفسير العالم، وحتى اليوم لم تتوقف عن محاولة تفسير كل شيء، وفيما يخصُّ الضحك، لم تتجاوز تفسيره كفعل له آثاره وأسبابه الاجتماعية، وقدرته على التغيير وزرع أسئلة جديدة.
ولأن لكل مجتمع خصوصية تجعل من الضحك فيه مَنبتًا لأسئلة مختلفة عن بقية المجتمعات، صار مهمًا البحث في الكوميديا السعودية، التي برزت على الساحة، بعد أن أسهم في ذلك الانفتاحُ الإعلامي وثورة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. إنها كوميديا ذكية وواعية، رفعت سقف النقد وحرية التعبير بشكل كبير في دولة مُغلَقة، بداية من المسلسل الأشهر طاش ما طاش وحتى البرامج على اليوتيوب، مرورًا بظاهرة الاستاند أب كوميدي (Stand up comedy).
سليمان السلطان، كاتب وباحث سعودي، أجرى دراسة فلسفية عن الضحك في المجتمع السعودي، نشرها على موقع حكمة، نقوم هنا بمراجعة أبرز ما جاء فيها، وعرضه.
لماذا نضحك؟
إننا نضحك كي نُعبِّر عن المكبوتات النفسية بصورة يُسمح لها أن تمرر عن طريق المتعة في الفكاهة.
في محاولة الفلاسفة لتفسير الضحك، جاء السؤال الأول «لماذا؟»، وظهرت إثر ذلك ثلاث نظريات للإجابة: نظرية التفوق، نظرية المفارقة، نظرية التنفيس، وتُفصِّل لنا الدراسة النظريات الثلاث:
1. نظرية التفوق
«إننا نضحك في بعض الأحيان ممن نعتبرهم أدنى وأهون شأنًا منا، والضحك عليهم، قد يرافقه شعور بالغبطة بأننا أرفع منهم حالًا، حتى لو لم يكن الأمر صحيحًا في الواقع». وهو ما يفسِّر ضحكنا على النكات التي نتداولها عن الأغبياء والبخلاء والأنذال و غيرهم.
وفي بعض الأحيان تكون الأسس عرقية، فنضحك على الأفارقة مثلا أو الآسيويين، وغيرهم، لاعتقادنا أننا أرفع مكانةً منهم. وتستدل الدراسة بكتاب «فن الشعر» للفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي ذكر فيه أن الكوميديا محاكاة لأشخاص «أردياء»، أي أقل منزلة من المستوى العام.
2. نظرية التنفيس
تندرج النكت التي نتداولها بخصوص قضايانا ومشكلاتنا وأوضاعنا، تحت هذه النظرية، وقد فصَّل عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد دور الضحك في الحفاظ على الصحة النفسية وتفريغ الطاقة إذ «يذهب إلى أننا نضحك كي نُعبِّر عن المكبوتات النفسية بصورة يُسمح لها أن تُمرر عن طريق المتعة في الفكاهة، فبينما يكون الضحك تنفيسًا عن هذه المكبوتات، هو في الوقت ذاته تكنيك لتوفير الطاقة النفسية».
وفسَّر فرويد الضحك على أنه حيلة دفاعية من الإنسان تجاه الرقابة، أيًا كان شكلها، ومحاولة لتجاوز ما هو مُحرَّم في المجتمع. وإذا ما نظرنا إلى النكت التي نتداولها، سنجد أمثلة كثيرة لما ذهب إليه فرويد. النكت السياسية والجنسية والعنصرية مثلًا تذهب إلى غاية التنفيس عن طاقة كامنة عبر تجاوز الحدود والقيود.
3. نظرية المفارقة
عبَّر أرسطو عن دور المفارقة في التلاعب بالألفاظ، فقال في كتابه «الخطابة»: «النكتة تحصل عند تبديل الأحرف في كلمة تتآلف في المعنى، فتباغتنا عندما نجد أن المعنى أمرًا آخر»، وهو ما اشتُهر عن دعابات زياد الرحباني وتلاعبه بالكلمات وتأويلها.
وقد تجد نظرية المفارقة أيضًا في الرسم الكاريكاتوري الذي يرسم ملامح الوجه أكبر من حجمها الطبيعي، بهدف الإضحاك، بحسب رأي الفيلسوف الألماني شوبنهاور.
لماذا يضحك السعوديون؟
لقد أصبحت الفوارق بين الوضع في الماضي والحاضر مادة للضحك.
ترى الدراسة أن نظريات التنفيس والمفارقة والتفوق يمكن إسباغها جميعًا على ما يضحك له السعوديون، وتقول: «يُسمِّي المجتمع السعودي صاحبَ النكتة وخفيفَ الظل بـ(العيَّار) وهو مسمى له دلالته الواضحة، فاللفظة مُشتقَّة أساسًا من الفعل (عيَّر) بالفصحى، أي عاب أو نقص من شيء ما، والعيَّار بهذا المعنى هو الذي يعيب على الآخرين، فيُظهر مساوئهم، سواء كان هذا حقًا أم باطلًا».
انتقل المجتمع السعودي نقلة زمنية ونوعية من ماضٍ بسيط وفقير إلى حاضر متمدِّنٍ وغني بعد اكتشاف النفط في منطقة الخليج، وقد صارت هذه النقلة وما لها من تبعات اقتصادية واجتماعية مادة للضحك، مما يوائم نظريتي التفوق والمفارقة التي سبق أن أشرنا إليهما.
لقد أصبحت الفوارق بين الوضع في الماضي والحاضر مادة للضحك، مثل شخصيتي سعيدان وعليان الشهيرتين في مسلسل طاش ما طاش، والضحك على التباين بين ما كانوا عليه وما صاروا إليه.
قد نضحك على أنفسنا، لا سيَّما عندما نتجاوز الموقف الذي في حينه لم يكن مضحكًا بالنسبة لنا، إذ إن الذات قد تشعر بتفوق على نفسها.
وطبقًا لنظرية التفوق، فإن الكثير من المضحكات في المجتمع السعودي مبني على فكرة مترسخة في العقل الجمعي تقضي بتفوق الحاضر على الماضي.
وتحلل الدراسة هذا فتذكر: «ظن البعضُ، على سبيل المثال، أن الراديو أول ما جُلِب للمملكة، أصواتُ جانٍ ساكنةٍ في صندوق، و هدير السيارة هو الآخر صراخ جانٍ، و سمعنا عن قصص تحكي كيف أن بعض النساء كُنَّ يُغطِّين وجوههن في كل مرة يظهر فيها رجل في التلفاز، وكل هذه الطرائف التي نقصُّها اليوم ونضحك منها، لأنها تعبِّر عن شعور بتفوقنا على تلك المرحلة من تاريخ تغيرنا الاجتماعي».
ووفقًا للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز فإننا «قد نضحك على أنفسنا، لا سيَّما عندما نتجاوز الموقف الذي في حينه لم يكن مضحكًا بالنسبة لنا، إذ إن الذات قد تشعر بتفوق على نفسها، عندما تتجاوز موقفًا حدث في الماضي، مع وعيها أنه موقف أدنى من وضعها الحالي».
ليس الفارق الزمني بين الحاضر والماضي وحده العنصر الذي يصبُّ عليه المضحك في المجتمع السعودي، فـالطفرة الاقتصادية التي حدثت إثر اكتشاف النفط استحدثت طرق تواصل جديدة في المجتمع، وسهَّلت اللقاء مع المختلف، وأظهرت الفوارق الطبقية والتعليمية وغيرها، إذ اغتنى الكثيرون معها، وتشكّلت بعض الطبقات المهنية والوظائف الجديدة التي أنتجت اختلافات كانت محلَّ تندُّر وضحكٍ في المجتمع السعودي .
«مجتمع القرية مثلًا أنقص من مجتمع المدينة بحسب النظرة السائدة»، وفقًا لما رأت الدراسة، وتضيف «وآلية التعبير الفكاهي تنجح عندما تلقي الضوء على هذا العيب أو النقص في صورة كوميدية، مبنية على المفارقة، فيضحك المتلقي بغض النظر عن موقفه الاجتماعي من هذه المفارقة»، ربما مثَّل ذلك مسلسل «العولمة» الذي يتمحور حول العائلة القروية التي تزور أقرباءها في المدينة وما يحدث بينهما من مواقف مضحكة، بسبب التباين بينهما.
تتطرَّق الكاتبة السعودية بدرية البشر في كتابها «معارك طاش ما طاش» لما أثاره «طاش» من غضب، بسبب تعرضه للاختلاف الثقافي في السعودية، وتباين العادات واللهجات فيها، واعتُبر إثر ذلك مثيرًا للنعرات والفتن، إلا أن السلطان في دراسته يبدي رأيًا مغايرًا بقوله «ما كان للمسلسل أن يحقق هذا النجاح، لو لم يركز على هذا العنصر في الإضحاك، لأنه ينسجم مع مفهوم المضحك لدى المجتمع السعودي».
ويُعدُّ مسلسل «طاش ما طاش» من أهم الأعمال الفنية العربية، إذ رفع سقف النقد في المجتمع السعودي، وفتح أبواب النقاش بخصوص القضايا والموضوعات المجتمعية، ومثَّل الهوية السعودية بشكل حِرَفي، لم يسبقه له غيره من الأعمال.
هل يتقبَّل السعوديون الكوميديا؟
يجب ألا أن نُنكر ما للكوميديا والسخرية من أثر قد يبلغ حدَّ القسوة في كثير من الأحيان، أو حدَّ القبول، لكن كيف يُقاس هذا القبول؟
رجَّحت الدراسة أن بعض البقع الجغرافية في المملكة، كنجد والجنوب، أكثر انغلاقًا عن التأثيرات الخارجية، فقلة الاحتكاك بالأجانب والعزلة بسبب الطبيعة الجغرافية، جعلت أهالي هذه المناطق أكثر سخرية وتبادلًا للنكات عن المختلِف، عكس أهالي المناطق الساحلية الأكثر احتكاكًا بالمختلِف وقبولًا لثقافته، ومن ثم الأقلُّ سخرية.
باتت الكوميديا السعودية تقود الرأي وتصنع ساحات نقاش لأهم القضايا.
ورغم أن الدراسة تناولت الموضوع من خلال نظريات الفلاسفة بشكل عام، وصولًا إلى خصوصية المجتمع السعودي، فقد توقَّفت عند العمل الإعلامي التقليدي ونُكت العيَّارين، دون الإشارة إلى ما يحدث اليوم في عالم السوشيال ميديا، وثورة التغيير التي يصنعها المحتوى السعودي.
لذلك فإن مسألة الانغلاق وقبول الآخر، تراجعت كثيرًا في وجود الإعلام الحديث الذي سمح للجميع بالاحتكاك والتواصل مع البعيد والمختلِف بطبقاته الاجتماعية وخلفياته الثقافية والعرقية، فتجد المحتوى السعودي على اليوتيوب في معظمه، خاضعًا لنظرية التنفيس والتعبير عن القضايا، أكثر من نظريتي التفوق والمفارقة وفكرة الرفعة والدونية، وإن استخدمت هذه الأساليب كتكنيك في مواضع معينة، مما يعكس نقلة كبيرة في نمط التفكير ونمط النكتة التي صار يلقيها أو يتقبلها السعودي، ولم تصل إليها الدراسة.
نماذج حديثة للكوميديا السعودية
من أهم الأعمال الكوميدية السعودية على اليوتيوب برنامج «لا يكثر» للكوميدي فهد البتيري، الذي حاز أكثر من مليون مشترك، ويتعرَّض لأهم القضايا المثارة على الساحة المحلية السعودية، وينتقدها بسخرية بأسلوب مباشر يقارب طريقة الستاند أب كوميدي.
وبشكل غير تقليدي للنقد، يعمل برنامج «أشكل» لبطله علي الحميدي، على انتقاد الحكومة بعرضه وجهة نظر المسؤول بطريقة ساخرة جدًا وكوميدية، تتناول أهمَّ قضايا المملكة ومشكلاتها، وتتجاوز أحياناً ما كان يعتبر «خطوطًا حمراء» في السابق، على هيئة فقرات تمثيلية، وقد تخطَّى على اليوتيوب مليونًا و400 ألف مشترك.
وتقدم هتون القاضي نموذجًا مختلفًا تتصدره المرأة، وهو ما لم يعتده الجمهور في فترات طغيان الإعلام التقليدي: برنامج «نون النسوة» المعني بتقديم القضايا النسائية في المملكة في إطار كوميدي، وقد حقق ما يتجاوز 299 ألف مشترك، ويقدَّم بالأسلوب المباشر الشبيه بالستاند أب كوميدي.
اقرأ أيضًا: التجربة الآيسلندية 1971: هل تفعلها المرأة السعودية العام المقبل؟
وينتقد برنامج «خمبلة»، لأبطاله علي الكلثمي وإبراهيم خير الله ومحمد دوخي ومؤيد النفيعي وآخرين، الجانب الاجتماعي للمجتمع السعودي بشكل ساخر وكوميدي في فقرات تمثيلية، تجنح في أحيان كثيرة إلى درجات كبيرة من الخيال والمبالغة المقبولة بغرض الإسقاط على الواقع، وقد تجاوز عدد متابعيه مليونًا و700 ألف مشترك على اليوتيوب.
كانت هذه نماذج قليلة من محتوى كبير يصنعه السعوديون في الإعلام الحديث، وما يُغيِّرونه في مجتمعهم عبر الضحك والكوميديا والسخرية، حتى باتت الكوميديا السعودية تقود الرأي وتصنع ساحات نقاش لأهم القضايا التي يراها الشباب السعودي، مستغلين بذلك أن الضحك فعل إنساني مؤثِّر لا يُستهان به، وهو الطريقة المثلى نحو تغيير أنماط التفكير، فالإنسان يتقبَّل كل شيء ما دام في طابع ترفيهي.