«علينا أن نفرَّ من هذا المكان
ولو كان هذا آخر ما نفعله في حياتنا
علينا أن نفرَّ من هذا المكان
لأنه، يا فتاة،
هناك حياة أفضل بانتظارنا».
بهذه الكلمات أطلقت فرقة «ذي أنيمالز» (The Animals) الموسيقية أغنيتها «We Gotta Get Out of This Place» (علينا أن نفرَّ من هذا المكان) عام 1965، لتلقى نجاحًا ضخمًا وتصبح إحدى أكثر أغاني الروك رواجًا بين المراهقين والشباب؛ تتردد في الحفلات الغنائية وحفلات التخرُّج وتجمُّعات الشواطئ، وهو أمر مفهوم لمرحلة عمرية ترى في الفرار مخرجًا من أسئلة تطوِّقها بشكل خانق.
ما لم يعرفه أعضاء «ذي أنيمالز» أن أغنيتهم ذات الإيقاع الراقص ستتحول في غضون سنوات قليلة إلى واحدة من أكثر أغاني الجيل ترديدًا على الجبهة خلال حرب فيتنام، لدرجة خروج نغماتها من إذاعة القوات المسلحة الأمريكية، وتَحوُّلها إلى شريط الصوت المصاحب للحرب.
ما لم يعرفه الجميع أن كلمات أغنية «ذي أنيمالز» هذه، ضمن عدة أغنيات موازية لها، ستكتسب معاني أخرى أكثر ثورية، بشكل يمهِّد لإلباس مفهوم الاحتجاج حُلَّة جديدة ذات إيقاع راقص، ليُعَبَّأ على أشرطة كاسيت وجدت طريقها إلى الجبهة.
أهلًا بكم في فيتنام
غضب، أو قلق، أو تعاطف.. ربما لا يوجد رفيق أفضل من الموسيقى لتقديم المواساة، خصوصًا لجندي ذي مشاعر متضاربة في ميدان معركة استُدعِي لخوضها رغمًا عنه.
في غالبية الحروب التي سبقت فيتنام لعبت الموسيقى دور «سَنِّيد البطل» (المُساعِد)، الرفيق المؤيِّد لصاحبه دومًا في كل ما يقوله، والذي يعرف كيف يساند وكيف يقدِّم المواساة، إلا أن البطل هنا لم يكُن الجندي الماكث على الحدود، بل الدولة.
في فيتنام، انحازت الموسيقى إلى الجنود وليس الدولة.
اقتصر دور الموسيقى «السنِّيد» على ترويج نزوات صاحبه، البطل، أو الدولة في هذه الحالة، بشكل تبريري أحيانًا، كما في أغنية «The Battle Hymn of the Republic» (ترنيمة الحرب) في أثناء الحرب الأهلية، أو لتمجيده أحيانًا أخرى كما في «God Bless America» (حفظ الله أمريكا) في الحرب العالمية الأولى، أو بشكل تحريضي ككل أغنيات الحرب العالمية الثانية المهاجمة للنازية دومًا دون محاولة طرح أي أسئلة.
اقرأ أيضًا: كيف استغلت الأنظمة السينما للترويج للجيش والحرب
أما في فيتنام فقد اختلف الأمر، بدءًا من تغيُّر انحياز السنِّيد (الموسيقى) لبطل جديد أكثر احتياجًا إلى التعاطف، فتقف في صف الجندي بدلًا من الدولة، تواسيه حينًا وتخفِّف عنه غالبًا، مرورًا باستقلاها وتكوُّن شخصيتها التي لها آراؤها واختياراتها، وصولًا إلى انقلابها واستيلائها على دور البطولة الرئيسي، وتردُّدها في خلفية معارك فيتنام المستمرة لأعوام، إلى درجة شيوع تسمية حرب فيتنام بـ«حرب الروك آند رول».
فـكيف لحرب سياسية أن تخلق فنًّا؟ وكيف لهذا الفن أن يخلق حراكًا ثوريًّا في مجتمع بأكمله؟
فيتنام: حرب الروك آند رول
تَداخُل موسيقى الروك مع السياسة وتورُّطها في حرب فيتنام لم يكُن اعتباطيًّا قَطُّ، بل إن سفر تلك النغمات ذات الإيقاع الصاخب وتردُّدها على طول الجبهة في فيتنام كان أقرب ما يكون إلى آلية دفاع، وسيلة تأقلُم طوَّرها المجنَّدون للتكيُّف مع حرب لم يُرِدْ أيٌّ منهم خوضها.
جيل كامل تقع غالبيته في الفئة العمرية من 19 إلى 23 عامًا تَورَّط في الحرب، تحديدًا الجيل الذي شبَّ على موسيقى الروك، التي سطع نجمها قبل اندلاع الحرب بعقد واحد. أقدام تطأ ميدان القتال بدلًا من الجامعات، وأيادٍ تتدرَّب على حمل المدافع، في حين أن أيًّا منهم لم يُرِدْ مغادرة موطنه.
كان البديل هو حَمْل ما يذكرهم بالبيت، عن طريق اصطحاب أغنياتهم المفضلة إلى ميدان القتال، أغنياتهم التي انتمت إلى الروك بطبيعة الحال لأن الجيل بأكمله شبَّ على هذا النوع من الغناء، وهو ما سمحت به السلطات لرفع الحالة المعنوية لجنودها، حتى إن الإذاعة كانت تبثُّ الروك في مخيَّمات الجنود طوال الوقت.
على الجانب الآخر، داخل البيوت الأمريكية، فإن ظهور الميديا المرئية وانتشار التليفزيون وسيلةً لتناقل الأخبار السياسية وشيوعه في كل المنازل من منتصف الأربعينيات تقريبًا خلق حالة من التشكُّك في نفوس المواطنين.
وعندما بُثَّت صور ومشاهد حيَّة من حرب فيتنام على الشاشة للمرة الأولى، بدأت أسئلة الجماهير في الظهور، تساؤلات شتَّى حول طبيعة تلك الحرب التي أخذت أبناءهم والأسباب الداعية إليها، تساؤلات لم تُشبِعها إجابة «محاربة الشيوعية»، خصوصًا أن الغالبية العظمى لم تكُن ترى أسبابًا حقيقية لخوض حرب جديدة تكلِّف خسائر مادية ومعنوية.
ببساطة، لم يعُد المواطنون يصدِّقون كل ما تقوله الحكومة، فكانت الحاجة إلى البحث عن إجابات لأسئلتهم، أو حتى وسيلة لطرح تلك الأسئلة.
قد يعجبك أيضًا: المتعة المرعبة: كيف تُغسل الأدمغة؟
بيلي، لا تكُن بطلًا: الموسيقى بدلًا من الثورة؟
الإيقاع والطاقة واهتزاز أوتار الجيتار الصارخ هي أكثر ما عَكَسَ درجة التخبُّط التي يعيشها الجنود داخل الغابات في فيتنام، وهي أيضًا أكثر ما عبَّر عن ارتباك الجيل الأمريكي الناشئ. ومع تصاعد الأسئلة المستمر، وفي فترة يتحسس خلالها جيل كامل خطواته سعيًا لمستقبل أفضل، كانت المعارضة هي الحل.
تمثلت تلك المعارضة في الحركات الاحتجاجية، ومن بين أشكال تلك الحركات تبلورت موسيقى الروك والبوب. اعتلى الفنانون منصَّات المظاهرات وشرعوا في الغناء، فجاءت أغنيات «بوب ديلان» (Bob Dylan) و«جيم موريسون» (Jim Morrison) و«ناش & يانغ» (Nash & Young)، وفرق «البيتلز» (The Beatles) و«The Doors» و«Paper Lace»، لتصبح مكبِّرَ صوت معبِّرًا عن جيل متخبِّط ومرتبك، وتفرض نفسها كأحد أكثر أشكال الاحتجاج رواجًا ورسوخًا.
استفاد الروك من حرب فيتنام بدرجة كبيرة. قبل فيتنام كانت موسيقى الروك بطبيعتها الصاخبة عبارة عن شحنات غضب متراكمة في جوف الشباب لا تجد لها تبريرًا، لكن مع بداية الحرب بدا الأمر كأن كل هذا الغضب المتراكم قد وجد لنفسه معنًى، سياقًا، جهةً مناسبة لتفريغه، فلم تعُد مجرَّد أغنيات غاضبة يصرخ بها بشر حانقون، بل اكتسبت أصالةً تمنح أصحابها ترخيصًا لمزاولة هذا الغضب وتوجيهه.
يحرق «جيمي هندريكس» علم أمريكا على المسرح وهو يغني، ويرقص الجمهور انتشاءً.
بالإضافة إلى ذلك، حصلت استفادة أخرى للموسيقى والغناء من ظروف حرب فيتنام ومناهضتها بشكل أثراها إلى حدٍّ كبير، فصحيح أن معظم الأغنيات كانت معارضة، لكن أسلوب وأسباب ونبرة الاعتراض نفسها كانت تختلف من أغنية إلى أخرى، ومن مغنٍّ إلى غيره.
اقرأ أيضًا: أصوات نسوية متمردة فوق مسرح الموسيقى المستقلة
الحرب مسألة كبيرة متداخلة الأطراف، ومع استمرارها عقدًا كاملا من بداية الستينيات إلى بداية السبعينيات، كان من الطبيعي أن ترتبك الحركات المعارضة بشأن الجهة التي ينبغي إلقاء اللوم عليها وكيفية إيجاد حل. كان هذا هو التشتُّت الذي نجحت الموسيقى وحدها في محوه، فقد تتشعب الاحتجاجات والمظاهرات، لكن الجميع كانوا يرددون الأغنيات نفسها.
بالإضافة إلى ما سبق، نجحت الموسيقى في خلق أرضية موحَّدة تستهدف الأجيال الأصغر سنًّا، ولعل أفضل مثال على تلك الأرضية مهرجان «Woodstock»، الذي كان يجمع التسلية بالموسيقى، ويضمن تبليغ رسالة سياسية في أثناء ذلك.
يلعب «جيمي هندريكس» (Jimi Hendrix) أغنيته «Machine Gun»، يخلق بالجيتار نغمات صوتية تشبه أصوات طلقات الرصاص الخارجة من البنادق، يحرق العلم الأمريكي على مسرح مهرجان «وودستوك»، ويرقص مئات الآلاف من الجمهور انتشاءً.
سأموت كخِرقة: ضد من؟
لم تكُن الأغاني تسير وَفْق نهج ثابت، كذلك كانت نبرة الاعتراض ارتجاليةً بقدرٍ ما، يغنُّون ضدَّ الموت، أو ضدَّ الحرب، أو ضدَّ الحكومة نفسها. وكلما زادت المذابح في فيتنام جاءت الأغاني أكثر صراحة وغضبًا، وصولًا إلى أغنية «كانتري جوي» (Country Joe)، أكثر الأغنيات المعادية للحروب جرأة؛ «I Feel Like am Fixin' to Die Rag» (أشعر أني سأموت كخِرقة).
يحكي جوي بصراحة تامَّة عن الموت في فيتنام، هنا لا توجد مواربة، ولا توجد مجازات. لا يُعنَى جوي بالجمال ولا يحاول توظيفه، وإنما يتعمد استخدام كلمات جافة قاسية لا تحاول الترفُّق كالتي نستخدمها في حواراتنا اليومية، وبسخرية لاذعة يخاطب أمهات الجنود الشباب ليشحِنَّ أبناءهنَّ إلى فيتنام حتى يعودوا إليهن مرة أخرى في صناديق خشبية.
الأمر نفسه تكرَّر مع أغنية «The Eve of Destruction» (عشِيَّة الدمار) لـ«باري مغواير» (Barry McGuire)، التي تناولت الموت ولكن من المنظور الآخر، لا انحيازًا إلى المجندين الأمريكيين أو تعاطفًا مع موتهم، بل على العكس جاءت الأغنية تُبدِي انحيازها الواضح لضحايا فيتنام، وبإدانة صريحة للسلطة الأمريكية.
في الأغنية، يردد مغواير جملة «You are old enough to kill, not to vote» (أنت كبير بما يكفي لتقتِل، لا لتُصوِّت في الانتخابات)، في إشارة إلى أن الشباب كانوا يُرسَلون إلى الحرب فور إتمامهم الثامنة عشرة، في حين أنهم ﻻ يُمنحوا حقهم في التصويت لا يكون إلا بعد الحادية والعشرين.
جاء ردُّ فعل السلطة على قدر إدانة أغنية «Eve of Destruction» لها، إذ منعت إذاعتها بحُجَّة أنها «قد تساعد العدو في فيتنام». ليس هذا فقط، بل حاول النظام الترويج بالدعاية السلبية ضد الأغنية من خلال الإعلام، الأمر الذي أحدث تأثيرًا معاكسًا، إذ تداول الإعلام الأغنية باستمرار للاستشهاد بها على كل ما هو فاسد بشأن الجيل الجديد، ممَّا أدَّى إلى رواج الأغنية بشكل غير مسبوق وترديدها حتى في الأوساط العامة غير العاملة في المجال الموسيقي.
قد يهمك أيضًا: الوصفة الصينية لترويج القمع
من جانب آخر، كان لمؤدِّي الروك نبرتهم الزاعقة، وسيلتهم الخاصة لرفض الحرب من منظور شخصي. الشعب كله كان غاضبًا، بجميع فئاته وطبقاته الاجتماعية، والأكثر حظًّا، أو ربما الأقل، هم من يمتلكون ميكروفونًا لتبليغ اعتراضهم هذا.
ومثلما استمع الشعب إلى الروك، استمعت السلطة بكل عناصرها أيضًا. ومثلما مُنعت أغنية «Eve of Destruction»، مُنع فنانون آخرون من الغناء نهائيًّا، وأقرب مثال لذلك هو «بيت سيغر» (Pete Seeger)، الذي مُنعت أغانيه من التليفزيون والإذاعة تمامًا.
أما المغنية «جون بايز» (Joan Baez)، التي كانت معروفة بنشاطها الحقوقي المعارض للحرب لدرجة امتناعها عن دفع الضرائب «لأنها تموِّل الحرب في فيتنام»، فكانت الحكومة أكثر صرامة تجاهها لدرجة أمر الجيش بمنعها من الذهاب إلى الجبهة والغناء للمصابين، خوفًا من تأثيرها على الحالة المعنوية للجنود هناك.
أقصى درجات تكميم الأفواه كانت بمنع «جودي كولينز» (Judy Collins) من غناء «Where Have All the Flowers Gone» (أين راحت كل الزهور؟) خلال محاكمة مجموعة من النشطاء الحقوقيين والمناهضين لحرب فيتنام، بالطبع، بتهمة التآمر ضد الدولة.
يبدو أن الكلام، كل الكلام، يذهب في نهاية المطاف إلى المحاكم.
هل غيَّر الروك وعي الشعب وموقفه من الحرب؟
ما تَغيَّر بالنسبة إلى جيل فيتنام كان امتلاكهم مذياعًا يستبدل الموسيقى بأخبار الجبهة.
الإجابة هي النفي، فصحيح أن موسيقى الروك جاءت لتوحيد الوعي العام، إلا أن هذا الوعي كان رافضًا للحرب من البداية، فجاءت الموسيقى لتصبح مرآة عاكسة لذلك الرفض، أقرب لذاكرة توثيقية، أو معايَشة لقلق الشعب وارتباكه وتقلُّب ردِّ فعله تجاه الحرب التي تأكل أبناءه واحدًا بعد آخَر.
مثلًا، في عام 1964، وقت صدور وثيقة حرب فيتنام التي تمنع طلبة الجامعات من الانضمام إلى الجيش مقابل اختيارها أبناء الطبقة الفقيرة، حاولت الموسيقى معايشة هذا الشأن، فجاءت أغنية «Draft Dodger Rag» لتحاول إيجاد حلٍّ للتهرُّب من الخدمة العسكرية، بإيقاع ساخر قليلًا إلا أنه واضح في تحريضه.
ولمَّا تصاعدت نبرات التشكيك في استحقاق فيتنام كل تلك الأرواح المُزهَقة عام 1968، استجاب الروك أيضًا بأغنيات مثل «War» (حرب) و«Fortunate Son» (الابن المحظوظ) و«What's Going on» (ما الذي يجري؟).
كلما طالت سنوات الحرب ابتلعت شبابًا آخرين ولفظتهم على الجبهة. تلك هي معادلة كل الحروب، لكن ما تَغيَّر بالنسبة إلى جيل فيتنام كان امتلاكهم مذياعًا يستبدل الموسيقى بأخبار الجبهة، وأغنيات «بوب ديلان» بخطابات الرئيس الأمريكي «ليندون جونسون» (Lyndon B. Johnson).
لم تغير أغنيات فيتنام منظور الشعب، وإنما أوضحت له الصورة فقط، استحثَّت تعاطفه أحيانًا، شرحت له أبعاد الموقف في أحيان أخرى، وجَّهت اللوم تجاه الحكومة والساسة، اقترحت أشكالًا مختلفة أكثر سلمية لمناهضة الحرب.
كل هذا أكسب تلك الأغنيات أصالةً حقيقية ضمِنَت استمراريتها حتى يومنا هذا، لم تعُد مجرَّد ضوضاء مزعجة كما كان الغالبية يرونها، بل صارت لسان الشعوب وحلوقهم الزاعقة، نبرةً تختلف عمَّا يتردَّد في التليفزيون، تيَّارًا معاكسًا، حنجرةً تستطيع أخيرًا تحويل كل هذا الغضب الذي راكمته سنوات الحرب إلى كلمات، ولحن، وإيقاع.