هناك شيء تغير في صوت رياض السنباطي وهو يردد الجملة اللحنية الأولى في الأغنية: «القلب يعشق كل جميل، ويا ما شُفتي جمال يا عين». آخر لحن يجمعه بأم كلثوم، التي عرفها منذ كان صبيًّا يُنشد في الأفراح والليالي الدينية، كأن الشتاء والإنشاد الديني أعادا ذهنه إلى البدايات.
حين وصل الفتى إلى رصيف القطار، أشار والده نحو الفتاة الواقفة بجانبهما، والتي ذاع صيتها في الإنشاد. كانت وقتها تسمى فاطمة، وعُرِفت بثيابها البدوية، ودائمًا ما كانت تصاحب والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي في إحياء الأفراح والليالي الدينية، وكانت معرفة وصداقة تربط الشيخين منذ وقت طويل.
بعدما أشار والده نحو الفتاة، نظر الصبي رياض إلى فاطمة التي تكبره بسنوات. تلك كانت المرة الأولى التي يرى فيها السنباطي الفتاة التي ستصبح في ما بعد «الست» أم كلثوم.
«1»
انتقل السنباطي مع والده إلى القاهرة عام 1928، بعد أن ذاع صيته في الدلتا والقرى المصرية، وعُرف وقتها بلقب «بلبل المنصورة». وصل القاهرة مصحوبًا بطفولة لم تكن سعيدة، فقد اضطر للخروج من المدرسة وهو لا يزال صغيرًا بسبب ضعف بصره، ثم اضطر للعمل «صبي منجِّد»، وحين لاحظ والده أن لديه خامة صوت جيدة، بدأ في تعليمه الإنشاد والمقامات.
لم تكن القاهرة بالقسوة ذاتها التي اعتاد عليها النازحين من أرياف مصر وصعيدها بحثًا عن الفن أو العمل. فحينَ تقدم السنباطي لاختبارات معهد الموسيقى في القاهرة، وجدت لجنة التحكيم أن مستواه في الغناء والعزف على آلة العود أكبر بكثير من أن يكون مجرد طالب، فاتخذت قرارًا بتعيينه أستاذًا في المعهد العالي للموسيقى العربية.
كانت فاطمة قد انتقلت قبله إلى القاهرة، وأصبحت ملء السمع والبصر، وتخطت تصنيف مجرد منشدة بدوية، وبات اسمها يقارب أسماء الكبار، أمثال منيرة المهدية وفتحية أحمد.
في العام ذاته الذي انتقل فيه السنباطي إلى القاهرة، كانت فاطمة قد تحولت إلى أم كثلوم، وأصدرت أغنية «إن كنت أسامح وأنسى الأسيَّة»، التي باعت مليون أسطوانة حسب بعض المؤرخين الموسيقيين. كان هذا شكلًا جديدًا من المونولوج الغنائي الذي كتبه أحمد رامي بعد عودته من فرنسا، ولحنه القصبجي، وشكَّل بدايات المشروع الكلثومي.
في الوقت الذي خلعت فيه أم كلثوم ثوبها البدوي وبدأت رحلتها الموسيقية، كان السنباطي يخلع عن نفسه ثوب الغناء ويتفرغ للتلحين، انتظارًا لفرصة اللقاء الموسيقي الأول مع الست. جاءت اللحظة التي انتظرها طويلًا حين اتصل به أحمد سالم، وأخبره أنه سيلحن بعض الأغنيات في فيلم «وداد»، أولى خطوات أم كلثوم السينمائية.
رفضت أم كلثوم أول ما لحنه السنباطي لها، لكنها عادت وغنتها بعد أن شاهدت نجاحها بصوت المطرب داوود حسني.
لم يتحقق اللقاء الأول في الفيلم، فبعد أن وضع السنباطي لحن أغنية «على بلد المحبوب وديني»، رفضت أم كلثوم غناءها لأن اللحن شعبي أكثر من اللازم، ولم تكن مقتنعة بمستوى اللحن أيضًا. استُخدمت الأغنية في الفيلم لكن بصوت المطرب داوود حسني. وبعد عرض الفيلم في عام 1935، لاقت الأغنية نجاحًا وتفاعلًا كبيرًا من الجمهور. أدركت أم كثوم النجاح الكبير للأغنية بعد أشهر من عرض الفيلم، فسجلتها بصوتها في أسطوانة، لتبدأ الرحلة بينهما بجملة «على بلد المحبوب وديني، زاد وجدي والبعد كاويني»، ويدخل السنباطي مشروع أم كلثوم في أطواره الأولى.
«2»
مساء يوم الثاني من مايو 1936، وقفت أم كلثوم على مسرح قاعة «إيوارث» في الجامعة الأمريكية في القاهرة، بينما كان السنباطي يجلس في بيته أمام الراديو، منتظرًا إياها لتغني أغنية من تعاون جديد بينهما. مع بداية الحفل، أخذ الجمهور في التصفيق تحيةً لأم كلثوم، التي بدأت وصلتها بجملة «فاكر لما كنت جنبي، والنسيم لاعب غصون الشجر».
تعددت اللقاءات الفنية بين السنباطي وأم كلثوم قبل «فاكر لما كنت جنبي»، لكن هذه المرة كانت مختلفة كثيرًا، وبدا أن رياض يحاول رسم خطوط المشروع الكثومي بأسلوب جديد في اللحن، بعيدًا عن الشكل الذي غنته مع محمد القصبجي وزكريا أحمد. فالأغنية، التي كتبها أحمد رامي، تحمل شكلًا مختلفًا من حيث التشبيهات والمجازات اللغوية، ما أعطى للسنباطي سهولة في الانتقال بين المقامات، ومساحة من التلوين الموسيقي تؤسس لأم كلثوم شكلًا جديدًا من الارتجال والتطريب، من خلال التقطيع المتواصل في الحروف والجمل.
خلال تلك السنوات عُرف عن السنباطي أنه ملحن القصائد، فغنت له أم كلثوم عدة قصائد من أشعار أحمد شوقي. طوال تلك الفترة لم تُتَح له فرصة التلحين لأم كلثوم خارج إطار القصيدة سوى في الأفلام، ومنها «افرح يا قلبي» في فيلم «نشيد الأمل»
كانت المرة الأولى التي يقدم فيها السنباطي لحنًا طويلًا لأم كلثوم خارج القصائد، وكان واضحًا الأسلوب الذي يؤسس له، معتمدًا بشكل كبير على مساحات واسعة من التطريب القائم على إعادة الجمل، ومستخدمًا مقامات مختلفة وطبقات غنائية مرتفعة، وهو ما بدا واضحًا في جملة «الموجة بتجري ورا الموجة، عايزه تطولها»، لتبدأ بينهما ثنائية متواصلة لسنوات طويلة، لن تنقطع سوى بخصام قصير، وموت أم كلثوم في النهاية.
«3»
مع بداية الأربعينيات، بدأ زكريا أحمد والقصبجي في الارتفاع بمستوى الأغنية الكلثومية، وقدما أجمل ألحانهما. في الوقت نفسه، احتكرت أم كلثوم الساحة الفنية وصارت «كوكب الشرق».
كان لأغاني أحمد رامي مع أم كلثوم علامة مميزة، ويمكن تسميتها «هزائم العاشق».
في منتصف الأربعينيات، كان السنباطي قد تشرب الأسلوب الكلثومي، سواء في طبيعة الغناء أو مدى تفاعل الجمهور معها، وبدا هذا واضحًا في أغنية «رق الحبيب»، التي لحنها القصبجي وكتبها أحمد رامي. بدا أسلوب أم كلثوم متجليًا في التطريب والتحكم في النقلات وإتقان الجوابات الموسيقية المرتفعة، من أجل انتزاع أكبر قدر من آهات الجمهور وإعجابه، فكانت «غلبت أصالح في روحي»، التي يراها بعضهم اكتمال الثالوث المقدس في المشروع الكلثومي بين السنباطي ورامي والست.
بدأ السنباطي في ذلك اللحن يغير من طبيعته الأغنية وبنائها، من أجل ترك مساحات أكبر للتطريب والارتجال الكلثومي، مع التغير الواضح في طبيعة كلمات رامي، التي دخلت في ذلك الوقت طورًا مختلفًا من الرومانسية يمكن تسميته «هزائم العاشق»، وبالتحديد في جملة «حتى الزمان اللي كان عطفك يعينِّي عليه، خلَّاني أرضى الهوان وأسلِّم الروح إليه».
تراجع دور القصبجي في ذلك الوقت، حتى أصبح مجرد عازف في فرقة أم كلثوم، ويُرجع بعضهم السبب إلى عدم رضا أم كلثوم عن الألحان التي كان يقدمها وقتها، ويظن آخرون أن الألحان التي قدمها لأسمهان قد تكون السبب. لكن الحقيقة المجردة التي نعرفها أن «رق الحبيب» آخر لحن غنته أم كلثوم للقصبجي. بعدها بسنوات، دخلت أم كلثوم في خلافها الشهير مع زكريا أحمد، الذي وصل إلى القضاء ودامَ سنوات طويلة، الأمر الذي فتح الطريق أمام السنباطي ليكون سيد المشروع الكلثومي.
«4»
أصبح السنباطي سيد الأغنية الكلثومية بعد «غلبت أصالح في روحي»، وقدم لأم كلثوم 11 لحنًا خلال ثمانية أعوام، حتى أتت اللحظة الأكثر نضجًا في التعاون الثلاثي بين السنباطي ورامي وأم كلثوم. تخلى السنباطي في تلك الأغنية تمامًا عن المدرسة الكلاسيكية التي تأثر بها في البداية، خصوصًا تأثره بعبد الوهاب وزكريا أحمد. وفي مرحلة أخرى، كان التأثر بالقصبجي. ثم وقفت الست في إحدى حفلاتها الشهرية عام 1952، متسائلةً بكلمات أحمد رامي وألحان السنباطي: «جددت حبك ليه؟».
لم يكن تغيُّر السنباطي في اللحن غير محسوب. فمنذ البداية كان يعرف طبيعة الصوت الكلثومي، وإلى أي درجة يمكن التأسيس لشكل الأغنية التي تؤديها. إذ قال في مقابلة له مع الكاتبة رتيبة الحفني سجلتها في كتابها «أم كلثوم: معجزة الغناء العربي»: «عندما تعارفنا لمستُ في صوتها القدرة الفائقة النادرة، أحسست بطاقة فنية تملكها، قلَّما يمنحها الله لإنسان. الزمن لا يجود بكثير من العباقرة، وأم كلثوم واحدة من عباقرة هذا الجيل».
مع تخلي السنباطي عن المدرسة الكلاسيكية وانتقاله إلى الألحان التي تعتمد على مقامات مرتفعة، كبرت مساحة أم كلثوم في التطريب والارتجال، كملاكم تحوَّل في لحظة إلى مصارع حر، قادر على استخدام كل وسائله لخطف الفوز. كذلك، كانت أم كلثوم تستخدم كل وسائل التطريب التي أتاحها السنباطي في لحنه، لتخطف أكبر قدر من آهات الجمهور.
كانت أغنية «جددت حبك» بمثابة حلبة المصارعة الحرة التي أطلق فيها السنباطي صوت أم كلثوم، وفيها تتحرك بين المقامات بسلاسة مستخدمة تلوين السنباطي الموسيقي في كثير من الجمل والمقاطع اللحنية في الأغنية، ما بدا واضحًا في جملة «إنت ظالمني وأنا راضي».
في وصف آخر لأداء أم كلثوم، قال السنباطي إن ختام جملها، أو بالتعبير الموسيقي «القفلة الغنائية»، كانت مثل «الباكِم» (جزء من المكابح) في القطار. وهذه القفلة المُحكَمة القوية لم تكن موجودة عند أي مطربة أخرى.
«5»
لم تبقَ علاقة أم كلثوم والسنباطي على وفاق تام، فقد اندلع بينهما خلاف بسبب كلمات إحدى الأغاني التي كلفته أم كلثوم بتلحينها، لكن لم يصل الخلاف إلى القطيعة. المشكلة التي تعقدت وكانت سببًا في قطيعة دامت عامين تقريبًا حدثت بسبب اختلاف حول المقابل المادي لأحد الألحان التي قدمها السنباطي، فقد كان يريد زيادة المقابل الذي يتقاضاه نظير كل لحن يقدمه، ورأت أم كلثوم أن ما تدفعه له كافٍ، فكانت القطيعة بينهما.
«ليت أم كلثوم عاشت. كنت مستعدًّا لتقديم كل ألحاني لها دون مقابل، ولا أتقاضى منها المال أبدًا».
حكى السنباطي عن هذا الخلاف في أحد برامج التلفزيون الكويتي، قائلًا: «لم تحدث بيني وبين أم كلثوم أي خلافات فنية، وإنما الخلافات كانت على المادة. ففي بعض الأحيان كنت أطلب منها أن تزيد ثمن اللحن، وعندما تجيب بالرفض، يحدث الخلاف بيننا. وأحيانًا يكون الخلاف حادًّا، فأتركها لفترة قصيرة، ثم نعود للعمل معًا من جديد. لكن في إحدى المرات استمر الخلاف بيننا عامين كاملين، ولم تغنِّ لي أي لحن في موسمين متتاليين».
نشب الخلاف بينهما بعد لحن أغنية «ذكريات» عام 1955، التي لحنها السنباطي وكتبها أحمد رامي. بعدها تعمد رياض منح لحن أغنية جديدة للمطربة شهرزاد خلال القطيعة مع أم كلثوم، بل شارك في عزف مقدمة العود بنفسه عند تسجيل الأغنية. أدت شهرزاد الأغنية في عيد «شم النسيم»، وبُثَّت على الهواء من الإذاعة المصرية.
نال السنباطي مبتغاه من الأغنية، إذ سمعتها الست وثارت في داخلها بعض الغيرة الفنية، وسريعًا ما اتصلت بالسنباطي بعد خصام عامين تعاتبه وتسأله مازحة: «منذ متى وأنت تستخدم مقدمات العود؟ ولماذا لم تفعل ذلك من قبل معي؟». أجاب السنباطي بأن اللحن استدعى ذلك، لكن الحقيقة أنه أراد إخبارها بتلك الأغنية أن جعبته وألاعيبه الفنية والموسيقية لم تفنَ بعد، وسريعًا ما عاد الوصال بينهما بتلك المكالمة.
في الحوار نفسه الذي أجراه السنباطي مع التلفزيون الكويتي بعد موت أم كلثوم، يكمل حديثه في ألم وحسرة قائلًا: «ليت أم كلثوم عاشت. كنت على استعداد أن أقدم لها كل ألحاني دون مقابل، ولا أتقاضى منها المال أبدًا».
هذا الموضوع يحكي ما فعله السنباطي في حياة أم كلثوم. يمكنك القراءة عن ألحان رياض بعد وفاة الست في هذا الموضوع.